تراجيديا العصر
يرسم بشارة في كتابه – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2013- خريطة لتطوّر الأحداث، والمنعطفات التي مرت بها سوريا في تاريخها وصولاً إلى لحظتها الراهنة بكل ما يعترك فيها من تداخلات دولية، ويتابع التطورات السريعة التي شهدتها الثورة، ويرصد تشظّي البلد تبعاً لسياسة التدمير التي انتهجها النظام والتزم بها منذ بداية مواجهته للمطالب الشعبية.
يجمع الكاتب في عنوان كتابه بين الجانبين؛ الشعريّ والتوثيقيّ، فالشطر الأوّل من العنوان أدبيّ، وكأنّه عنوان رواية، في حين أنّ الشطر الثاني يعيد التوازن البحثي للعنوان، ويعرف به ويحدد الوجهة والتوجه، وهو “محاولة في التاريخ الراهن”، وذلك من دون إغفال أنّ التاريخ لفظة تدلّ على زمن ماض، وبجمعه بين التاريخ والراهن بصيغته المورودة يرمز إلى تصور مختلف للمسألة، حيث يحضر تأريخ الراهن الذي سيتحول بعد كتابته إلى أمس، ويغدو تاريخاً قريباً، يحوي كثيراً من المشاهد المَعيشة، والشواهد غير المجمّلة أو المرقّعة، لأنّ مقاربة اللحظة الراهنة توثيقياً تظلّ محفوفة بجانب من الانتقائية، ذلك أنّ تشعّب خريطة الأحداث والمستجدّات يفرض ذلك، ولا سيما مع فرض حصار على بعض الأماكن ومحاولة قطعها عن العالم، وممارسة أبشع صنوف التعذيب بحقّها.
يذكر بشارة أنّ كتابه يأتي كمحاولة في فهم الثورة السورية قبل أن تكتمل، وإنه بحث يقوم على رصد صيرورة الثورة وتحليلها خلال عامين من عمرها، من آذار 2011 حتى آذار 2013. ويذكر أنه، باعتباره يوثق التاريخ الراهن، ويحاول تجاوز عملية التوثيق إلى الفهم، فإن بحثه يأتي عابراً للاختصاصات، وواعياً حدوده البحثية التوثيقية التاريخية لأنه يجري في خضمّ الحوادث، ويعتمد المعلومات الموثوقة، ويصحّح معلومات غير دقيقة راجت كأنها صحيحة.
يحاول بشارة تقديم ملخّص مرحليّ، تحليليّ تركيبيّ، كما يصفه، في مسعى لإعادة تركيب الحدث الكبير، وذلك في محاولة فهم وتفسير ما يصفه بخصوصية الثورة الكبرى التي سيكون لها أعظم الأثر في تاريخ سوريا الحديث، وكذلك في تاريخ المشرق العربي كله. ويصفها بأنها بهذا المعنى نقطة تحوّل تضاهي في أهمّيتها الثورات الاستقلالية، وتفوّقها تعقيداً.
يلفت الكاتب الانتباه إلى التعامل والتوثيق لثورة قائمة في دولة ذات أهمّية جيو – إستراتيجية قصوى، إذ يؤثّر وزن سوريا الجيوسياسي وموقعها في الصراعات الإقليمية تأثيراً حاسماً في مسار الثورة، ويساهم في تشابك البنية الداخلية بتفاعله مع العوامل الخارجية وتعقيدها. وكيف أن ذلك كله تفاعل وتداخل وأدّى إلى تصعيد المواقف وتبدّل الأحوال.
يشير بشارة إلى أنّ منهج التحليل الاجتماعيّ التاريخيّ الذي يتّبعه في كتابه يسمح بالتمييز الأوّليّ بين الديناميات الاجتماعية لتدفق روافد من فئات وأوساط اجتماعية متباينة في نهر الثورة السورية، وتفحص المشتركات التي تجمعها والاختلافات في ما بينها. ويصف كتابه بأنّه يؤرّخ لتمدّد الثورة واكتساحها المناطق المختلفة في مرحلتيها، المدنية السلمية والمسلّحة. ويتطرق إلى إستراتيجية قمع الثورة وتوليد أنماط مختلفة من العنف.
كما يشير إلى إدراكه تعقيد المهمّة التي يأخذ على عاتقه القيام بها، ووجوب البحث في مسالك الراهن الوعرة وزواياه غير المكتشفة وطرقاته التي يغطيها أحياناً ضباب الشائعات والأفكار المسبقة، والأكاذيب الإعلامية واختلاط الحقائق بالخيال في بعض الأحيان.
يعرض بشارة في كتابه ما يصفه بالخلفية الاجتماعية السياسية المباشرة للثورة السورية في عهد بشار الأسد وفعل الثورات العربية بالمجتمع السوريّ على أساس هذه الخلفية. ويقول إنّه سيفصل تاريخها المباشر نفسه، ما يطلق عليه “التاريخ الراهن”، ويشرح تحوّلها من انتفاضات جهوية إلى ثورة. ويحاول إثبات أن النظام يتحمل مسؤولية تحوّلها إلى ثورة مسلحة، ثم يحاول تحليل بنية الثورة السياسية والاجتماعية والعسكرية، وإستراتيجية النظام في مواجهتها، والقضية الطائفية والعوامل الدولية.
كما يطرح الباحث سبل توريط النظام للطائفة وتوظيفه لها في خدمته، ويعتبر أنّ محاولته في الكتاب هي محاولة تحليل ظاهرة اجتماعية سياسية نفسية مركبة هي الثورة السورية، وإعادة إنتاجها ذهنياً بشكل يجعل التعرف إليها وفهمها ممكناً. ومن هنا يسعى الكتاب إلى إثبات فرضية عفوية الثورة ومدنيتها وأصالتها، ويقصد تجذّرها في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي السوري، ويبين أنها جاءت في مجتمع مختلف بنيوياً عن الثورة في تونس أو مصر، وفي مواجهة نظام أمني لا ينفصل فيه الجيش والأمن عن النظام وعن البنية الاجتماعية للدولة.
يلتقط بشارة ممهّدات الثورة السورية، والتقاطعات بينها وبين الثورات العربية التي سبقتها وتزامنت معها، وتعاطي النظام معها بداية، وتدرّجه في الفتك والتنكيل وبلوغه درجات قصوى من الإجرام، ويستذكر الذرائع التي كان يسوّقها النظام بداية زاعماً اختلافه عن الأنظمة العربية الأخرى، رافعاً شعارات الممانعة والمقاومة التي ظلّ يتاجر بها عقوداً، وما يزال، برغم انكشاف عورته وفضح نفاقه وتحايله.
يتناول الكاتب التعدّد الإثني والعرقي في البلد، وكيف يمكن أن تشكل الفسيفساء السوريّة عامل قوّة بدلاً من استغلالها كنقطة ضعف وعامل ابتزاز وضغط، ويبرز أنّ التنوّع سمة من سمات المنطقة، ويمكن أن يكون عامل قوة وصمود وغنى إذا تفاعل في إطار إستراتيجية مدروسة في بناء الدولة على أساس المواطنة المتساوية والمشتركات الثقافية التي تسمح بالتفاعل بين الهويات من دون قمع الخصوصية.
يوثق الكاتب بعض الأرقام المتعلقة بالشهداء والمعتقلين والمفقودين والنازحين والمشردين، ويلفت النظر إلى تقديره بأن أرقام القتلى والشهداء تكون أكبر من الموثقة، ولتبين حجم التضحية والخسارة السورية قياساً على التاريخ السوري يذكر أن السوريين قدموا خلال فترة الاحتلال والانتداب الفرنسي كلها (1920 – 1946) بما فيها حرب الوحدة والاستقلال والجلاء عشرة آلاف شهيد.
يحتوي الكتاب على كثير من المعلومات والتفاصيل والأرقام التي وثقتها منظمات دولية ومحلية، ناهيك عن المقاربات والمعالجات لأحداث تاريخية، وإعادة قراءتها في ضوء ما كشفته الثورة، ولا يخفى الجانب التقريريّ الإخباريّ في بعض الفصول، ولا سيما أنّ التأريخ يفترض ذلك، ويكون جزءاً من التوثيق الواجب، وبروز ظاهرة أمراء الحرب، والعناصر الجنائية المسلحة التي كانت قائمة في ظل الدولة الأمنية، إضافة إلى العناصر الجهادية التي لا تشارك الثورة أهدافها التي انطلقت من أجلها.
يلفت بشارة الانتباه في الخاتمة إلى أنّ استمرار الثورة لفترة طويلة، (حين الانتهاء من الكتاب كانت في بداية عامها الثالث، الآن هي في عامها الخامس)، وظهور المذابح وجرائم الكراهية على خلفية طائفية زاد حدّة الاستقطاب في المجتمع السوري، وأصبحت الثورة تسير على حافة التحوّل إلى حرب أهلية، ويذكر أنّ بوادر اختلاط العنصر الأهليّ بالثوريّ قد ظهرت منذ البداية. ويعتقد أنّه بسبب بعثرة القوى الثورية على الأرض وتنوّعها، لم يجر في الثورة السورية، على الرغم من طول مدّتها، تكوين أو تنشئة للمواطن الثوري حامل السلاح في شأن أهداف الثورة أو بشأن المسؤولية الاجتماعية المترتبة على حمل السلاح.
يشير الكاتب في خاتمة كتابه إلى أنّ الثورة السورية التي تعتبر حالة فريدة في الإقليم لجهة تشابك العوامل المؤثرة فيها، والتي قد تؤدّي إلى سيناريوهات كارثية ما لم يتمّ التوصّل إلى تسوية سياسية تتضمّن رحيل النظام وبقاء جهاز الدولة، وتضمن التحوّل التدريجي نحو الديمقراطية من دون اجتثاث. ولا يغفل عن التذكير بأنّ الخيار السياسيّ كان يبدو بعيداً حينذاك، والبديل كما بدا له هو تعمّق الصراع وتحوّله إلى صراع طائفيّ وإثني، وربما ينتج صراعات أخرى كامنة في المستقبل.
وثّق عزمي بشارة في كتابه للسنتين الأوليين من عمر الثورة السورية، وهو يساهم بذلك بقسطه في التأسيس لمكتبة الثورة السورية، التي باتت تضمّ عدّة أعمال أدبية وتوثيقية، وتنفتح على كثير من المشاريع البحثية والتاريخية والمستقبلية، حيث أنّ الراهن بات يحتاج إلى أكثر من وسيلة وصيغة لتأريخه وتدوين تفاصيله، حيث يظهر فداحة تحوّل البلد من قبضة النظام المستبدّ إلى احتلال إيرانيّ سافر ومعلن، ما يعني أنّ درب الآلام نحو الحرية لا ينفكّ يزداد تكلفة، وحاجة إلى الاستمرار، ووجوباً نحو السير إلى الهدف – الحلم، لأنّ بقاء سوريا في قبضة المحتلّ بالطريقة الراهنة، وتسيير شؤونها وإدارة مقدّراتها بالوكالة يعني تفتيتاً لخريطة البلد، وتعطيلاً لسيرورتها التاريخية، وتدميراً لمستقبلها.
أخيرا، قسّم بشارة عمله إلى ثلاثة عشر فصلاً، بالإضافة إلى المقدّمة والخاتمة، والفصول على التوالي هي: الحصاد المر عشرة أعوام من حكم بشار الأسد. من الشرارة يندلع اللهيب. الساحات الكبرى. المدن المليونية. الثورة المسلحة خيار النظام. عن إستراتيجية النظام. ترييف الحزب وتطييف الجيش. كشف غطاء الاستبداد. بين العنف الثوري وذيول المراحل السابقة. المعارضة السياسية والثورة. فاعلون جدد “التنسيقيات والإعلام الفضائي”. مبادرات الحل السياسي والمواقف الدولية. العقوبات الاقتصادية وأثرها في الاقتصاد السوري الكلي.