تربّص
تماما، على طرف الفص الأيمن من الكبد، الخلايا الغريبة، الزرقاء، النشطة، استمرت في تصميم تغزل من خلفها مزيدا من التليف، الخلايا الغريبة، الزرقاء، النشطة، تلتف في خبث حول خلية أخرى، تكممها، تخنقها تماما، فتشحب، وتتهدل حوافها وقد تيبس ما يملأها من سيتوبلازم.
خشخشت أعواد الذرة وهو يباعد بين كيزانها المبللة بندى الفجر مطلا بالفوهة المزدوجة – أم روحين – لبندقيته الموسين الروسي العتيدة، من جيب سيالته أخرج الرصاصات يحشو بها الخزانة المعقوفة، يدور بميزان التنشين في فدان القطن المجاور، توقف تماما عند منتصف صلعة جابر، كان هابطا بها يتفحص شيئا ما على أوراق القطن، انتظر بعيني صقر جائع صعودها وعودتها إلى مركز الميزان.
واحدة من الخلايا الغريبة، الزرقاء، النشطة، تقفز إلى جدار المعدة، تدق أوتادا، تشد خيمة، تبدأ الخلايا حولها في الشحوب، شلال من الحمض يبدأ في الانسياب من ثنايا بطانة المعدة.
أحس بالحموضة تهاجمه، بصق في صمت، لا، لم يهرم بعد، مازالت سبابته على الزناد ثابتة، أكثر ثباتا من الأعوام الفائتة، مازال قادرا في ليل المغارة، بين كل المطاريد، أن يهشم كوب الشاي بين إصبعيه، مازالت يده الأعلى سعرا، لو كان للباكوين المستقرين في جيب سيالته منذ البارحة أن ينطقا لشهدا له بذلك، رصاصته الوحيدة بين المطاريد التي لا تحتاج لتأكيدها بأخرى.
خلية جريئة تطلق صافرتها من داخل المخ، تؤكد للبقية أنها تسلقته فعلا، بل وتمكنت من خنق أولى خلايا مركز الاتزان، التفتت الأخريات اليها، تحفزن للتسلق ممسكات بتلابيب الحبل الشوكي.
قرش من الأفيون كاف للتخلص من دوار الرأس هذا، وعده الحاج أمين بباكو ثالث بعد أن يجيئه بخبر جابر الذي اشتكاه في المركز لأنه نقل الجسر داخل أرضه خمسة أشبار بطول الفدان، الحاج أمين صادق في وعده، جربه مرتين من قبل، وعموما، إما الباكو، وإما رصاصة في مغربية الغد تنطلق من داخل القطن لتشق طريقها بين أعواد الذرة لتصفى الحساب.
الخلايا الزرقاء الغريبة النشطة تنقسم في نهم، في جنون، تشحب تحتها خلايا المخ مستسلمة.
شدد من ربط عمامته على رأسه، الدوار يزداد، يخالطه صداع، ببقايا تركيزه أحكم التصويب، تك، ساخنة وكالبرق لامست أذن جابر الذي التفت مذهولا، تك، تك، انبثقت نافورة دم وسط مقدمة الصلعة، شقت الفضاء الأخضر بدفقات حمراء متتابعة، طرطشت على أوراق القطن لتسيل من أطرافها بخيط رفيع متقطع، انهبد جابر بثقله وذراعيه المفرودتين على الأرض، استمرت النافورة الحمراء تضرب طين الجسر بهسيس مرعب تتابعها من عيني جابر التي لم تعد ترمش إلى الأبد نظرة رعب وما تجاوز الألم، اقترب عصفور ليحط على صدره لثوان قبل أن ينتبه إلى أن الصدر جامد بارد هرب منه النبض فضرب بجناحيه مبتعدا إلى أعلى شجرة توت في الأفق البعيد.
نظمت الخلايا نفسها مؤكدة فيما بينها أن أياما ثلاثة كافية لإنهاء المهمة، تمكنت إحدى المجموعات تماما من الغزو الكامل لأطراف فص الكبد.
خرج يتلفت مهرولا من بين أعواد الذرة، ضاربا يده على جيب سيالته المثقل، متحسسا ألما خفيفا في جانبه الأيمن، مؤكدا لنفسه ولفوهة بندقيته “الموسين” المطلة من جيب سيالته بفوهتها المزدوجة أنه ليس في هذه الدنيا ما هو أسهل من احتراف الموت.