تـخُـبّ بـي النّـاقة إلـى الـمـؤتـمـر
لاح لنا ـ أوّل ما لاح ـ نقطة سـوداء متحرّكة وسط سراب الأفـق، تـخبّ به النّاقة، في اتّجاهـنا، والنّقـطة تكـبر، تكبر، والسّراب يحتـفي بهـا من كلّ جانب، والشّمس تـضرب الأرض وترتدّ على عيوننـا فـندفـع نارها بأهـدابنا المتـوهّجة. وسمعت أمّي تـتـنهّد “ها هو قد عـاد!”.
باحت الكتـلة أخيـرا، وبان أبي مـعلّقا على ظهـر ناقتـه، يـفرد صدره للهـاجرة ويشـقّ الأفـق الممتـدّ حتّى مضاربـنا. واعتراني ذلك الإحساس المبهـم في كلّ مرّة أنزرع أمام الخـيمة في انتـظاره، موزّعا بيـن لهفـة لا أدرك أسبابها وخوف يتآكـلني وأرجـف له كلّما التمـعت في ذهنـي عيناه أو مرّت كـفّـه.
ولكنّي أظـلّ أنتـظره حتّى ينيـخ وينـزل وأنظـر إلى وجهه فتـتـلقّـفني ابـتسامته الوضيئـة تحت شـاربـه الكـثّ فـأنـزع خوفـي مـن ضلوعي وأجـري نحـو أحضانه وقـلبي متـرع بالـفـرح والحبور. هـذا دأبنـا مـنذ كان أبـي وكنت. يـغيب أيّـاما وليالي، وننتـظره أيّامـا وليالي، ثـمّ يشرق عـلينا فجأة من سراب الأفـق أو غيـومه. لا يحدّثـنا عن طرقه ولا عن مآويه البعيـدة. إلاّ أنّه فـي كـلّ مرّة يعـود أجمل. وأمّـي، بعده، تـذوي وتـذوب وتـقضّي السّاعات وعينـاها على الأفـق. وأنـا قـابع في حضنهـا، أرشـف دمعها وأغـانيها الـحزينة. وكنت أحيانا أصرخ في وجهها: لا تـتركيه يرحل! فتغلق حضنـها عليّ أكثـر. فأصرخ بصوت أشدّ: لماذا تـتركينه يرحل عـنّا ويبـعد؟ وتملـؤني دموعهـا بالغيـظ فأفـكّ يديـها من حول جسدي، وأنتـتر خارج أحضانها وأزمجر: لا أحبّـك.. لا أحبّ أمّي.
فيغلبها الضّحك، ويتورّد خدّاها ويشـعّ العتـاب من عينيـها فـأذبل وأنخذل وأعود إليها صاغرا.
ونبقى منتظرين أمام الخيمة نرقب الأفـق ونـصلّي ليعود سالما، وتـعلّمت أن أفكّ رمزه مذ يلوح نـقطة سوداء في قلب السّراب.. محفوفا برقص المياه الكاذبة، معلّقـا ما بـين أرض وسماء.
لم أخطئ يوما ولم أضِلّ. وعودة بعد أخرى، انتظارا تلو آخر تشرّبت الصّـمت والصّـبر والسكون. وأصبحت بسمة من أبي أو كلمة أمنيـة قصوى أستسيغ على مهل لذّتـها وأستعيدها مرارا في انتـظار الـقادمة.
وقلت لأمّي يوما:
– لماذا لا يكـلّمك أبي؟
فردّت ملتاعـة:
– بل يكـلّمني.
فـقلت:
– فإلى أين يذهـب؟
فتـشبّـثت عيناها بالأرض..
ما أكثر ما حاولت فـيما بعد أن أقتـلع عينيـها من الأرض فمـا قدرت.. أن أدفعها إلى أن تـفتح صدر أبي فما قـدرت.. أن أردفها خلفه على النّـاقة فيـغيّبهما الأفـق معا ويهلاّن عليّ معـا، فما قدرت. ما أثـقل حمل أمّي، وما أشـدّ حبّي لأبي..!
فلماذا لا ينـيخ الآن ولا يشرع بسمته الوضيئة؟ ولماذا يتهدّل شاربه الـكثّ على مصراع دمعة؟ لم ينخ. ترك الناقة يتلّوى عنقها في فضاء الصحراء المتـرامي وصاح: لنرحل! وكان حضنـه بعيـدا وباردا. والتـفتّ برعبي إلى أمّي فوجدتها تـقلع أوّل الأوتـاد وعيناها ووجـهها.. جسمها كلّـه إلى الأرض.
فصرخت: أين نمضي؟ لا أحبّ غير هذا الوادي ولا هذا الفضاء. وتداعى وجهها بين يديّ، وعادت تـقلع الأوتاد وتروّي أرض الخيمة بالدّموع.
وأبي كان واقفا، يستحث أمّي أن تسرع وينظر بخوف في اتّجاه السّراب. هل يخـاف أبي؟ ووجدتـني أطرد الرّعب الذي حلّ بأوصالي وأقول لأبي: هل تخاف؟ ولمعـت عيناه وكفّه في وجهي، وارتـفع سيفه يعانق السماء..
وعلى الرّمال لمحت أمّي تـنغرس وتـنقـلع، تـتـبع مسربا من الدّمع يسبقها، يرسم لها مسلكا، وعيناها مـشدودتان إلى الأرض شـدّا.
تهاوت الأحزان على قلبي، وضاق نفسي. وأشرت إلى أبي أن قف! فما وقف. التـفت وراءه مرتعبا وما وقف، وأمّي تجهد في الرّمل، تدفع الرّيح، ويمضغ السّراب ثوبها الأحمر، وأنا حزين وبليـد، لا أجرؤ أن أوقـف أبي ولا أن أدفع أمّـي.
وامتلأ صدري بالغيـظ والقـيظ وسرقت أنفاسي من الهاجرة، وأبي يمضي ولا يلوي إلا على خوف بعينيه، يحثّ مطيته وينسلّ داخل الأفق البعيد، ومن حولنا تصخد الهاجرة وتـتلوّى ثعابين التّلال. والناقة تخبّ بنا بعـيدا عن حكاياتنا وعن مضاربنا وعن أغانيها الحزينة. وأنا يصّـاعد غيظي وقيظي ويهزّني الخوف، يرجرجنـي، وأمّي وحدها تواجه الرّمضاء وتلعق شفتيها، تـشرب دمعها والعرق، وتـنحني في اتّجـاه الأرض أكثر، تـوشـك أن تسـقـط، فصـرخت بأبي “انزل لتركب أمّي”، فحـرّك سيفه تحت جبّـته وزوّى حاجبيه، فصـرخت: انزل لتركب أمّـي.. ورأيتـها تهـوي، نقطة حمراء في جوف السّـراب، عيـناها إلى الأرض ووجهـها وشعرها.
وامتـلأ حلقـي بالرّمال وأنا أنفـكّ من حضـن أبي وأصرخ “انزل، انزل..” ووجهي كلّه لحريق الصّحراء، لا لثام، لا شجر.. وقامت الريح تسفي، تبعث أعمدة الرمل إلى تباريح السّـماء، جال الرّمل في عينيّ، احترقت، غابت أمّي في ملح الرّمال وفي أنهار دموعي. تساقطت من على ظهـر النّاقـة وأنا أصرخ بأبي: انـزل..
غامت الصحراء، تمطّت فيها نسمة حسناء رخوة، وعيوني ما يزال يتـشابك الرّمل فيها والملح والدّمع..
لاح طيف زوجتـي في الغرفة الظّليلة، كان حلقي ما يزال قائظا وصدري يملأه الغيظ، وقـالت باسمة:
– الحلم ذاتـه؟! ولكن بات يأتي بالـنّهار.
وسألت:
ـ هل وصلنـا؟ أين أمّي؟
وتراقص أمام ناظري السّراب ولفّ الطّيفَ الواقـف أمامي، كانت هي أيضا ترتدي ثوبا أحمـر، وعجبت لقلبـي ما يزال مصهورا بالـقيظ والغيظ لا يخفّف عنه ظلّ الغرفة ولا برد السّتائر، ولا حتّى رونق الوجه المطلّ عليَّ بحبور.
وأمّي تجثم على أنفاسي، أنشق رائحة حضنها، ويردّد الجوّ من حولي رنين أغـانيها الحزينة. كانت عينا أبي وكفّه ما يزالان على مقربة، لو دقّـقت فيهما النّظر لارتـفع السّيف يعانق السّماء. كلّ شيء متوهّج في شراييـني حتّى خلت السّرير ظهر النّاقة، ورنوت في غباء إلى زوجتي، فتجاوزت ذهولها بسرعة وهي تـسأل:
ـ هـل راجعت محاضرتـك؟
وردّدت مرتخيا:
– محـاضرتي؟
وأكّـدت:
– هذا الـمساء حول حقـوق..
قاطعتها رافعا يدي، وأمّي تـقلـع آخر أوتاد الخيمة وتبكي. وأنا أصرخ في داخلي: لا ترحلي، أنت تحبّين المكان فلماذا ترحلين؟ وهي تـشهق في اتّجاه الأرض عيناها، شفتاها والأنيـن، من حول أبي وهو ينظر بعيون الصّقـر المطارد ويحثّها أن: أسرعي.. وأنا عاجز بينهما: سيفـه يدفعني إلى دمعها، ودمعها إلى سـيفه..
وبدا أنّ صوت زوجتي يصل من قاع صحراء بعيدة، وهي تـؤكّد:
– أكثر من هاتـف وصل وأنـت نائم، يريـدون الـتأكّد من حضورك المؤتمـر.. دافع عنّا جيّـدا، كما تدافع عن الآخرين..
وجلست إلى جواري.
فـتساءلت:
– لماذا لا يـتركها تركب؟
وامتلأت عيناها، كرّة أخرى، بالذّهول والتـفكّر، ونظرت إلى الأرض متسائلة فصرختُ:
– لا تـنظـري إلى الأرض.