تقليص العولمة
وما تلك الدهشة إلا دليل على أن شعوب العالم ما زالت تخلط بين مظاهر انتشار العولمة وشيوع التواصل عبر الشبكة العنكبوتية. فالعولمة التي تعدد تلقيها معرفيا وتعريفيا لم تحقق معناها الأبسط (مع الكثير من حسن النية) فعليا بكونها اتجاها توافقيا يهدف لتوحيد الشعوب على مستوى العالم من خلال نظام واحد كمثلث بثلاث أضلاع من الاقتصاد، والمعرفة، والتطور العلمي والتكنولوجي. فنحن مازلنا نعيش حالات المعاداة وموازين القوى المتصارعة وليس حالة توافقية تكفل توازن مثلث نظام العالم.
من خلال هذه المعرفة البسيطة للعولمة وإدراك حجم حضورها يمكننا الانطلاق لقراءة ظاهرة ترامب دون إغفال لحظة ظهوره على درج طائرته الخاصة في واشنطن، يلوح بيده معلنا هيئته الرئاسية ولما يتسلم بعد مراسم الرئاسة من البيت البيض، اللحظة التي رآها الإعلام الأميركي اقتحاما للمشهد الرئاسي والتي أخذت لاحقا بالإعلان عن موعد هزة معرفية وثقافية تعيد تحديد إرادات الشعوب والمفكرين في كل أنحاء العالم.
تقليص العولمة
لا يمكن القول فيما ينثره ترامب في خطابه يمنةً وشمالاً بأنه (فكر ترامب) فهو ظاهرة لا تساير الحراك الزمني والواقعي للعالم، حيث لا يأل جهدا في التأكيد على أفكار تعاكس مجرى سير العولمة من مثل تقوقع أميركا نحو حماية الداخل من الأجانب وإغلاق الحدود، والاعتزاز بأميركا لتكون الأولى في العالم، ومن ثم الحديث عن تشييد سور يفصل بين المكسيك وأميركا، ولفظ المقيمين غير الشرعيين منها، ونبذ المسلمين ومراقبة المصلين في جوامعهم بل وفكرة هدم الجوامع ذاتها. طروحات تخالف ما انشغل العالم بالتنظير له وتفعيله على الأرض، من سرعة وسهولة نشر المعلومات وتقليص معنى الحدود وزيادة معدلات التشابه بين المؤسسات الاقتصادية والمجتمعات المدنية في العالم.
فالعولمة التي أخذت بالتشكل بصفتها معطى حتمياً علميا تكنولوجيا واجتماعيا، معطى كرّسته ثورة المواصلات والاتصالات وما أنتجته من مفاهيم وقيم سلوكية ذات تأثير فعال في مختلف جوانب الحياة الخاصة والعامة، تواجَهُ الآن بحجر عثرة ترامبي قبلي، لا يراعي القفزات في الزمن والحدث التي يشهدها العالم.
لكن السؤال هو: هل هناك إمكانيات لتحقق خطاب ترامب والخطف خلفا؟ إمعان النظر عموديا في تاريخية الثورة التقنية الحالية حيث لا مجال لعزل الحدود وعزل الشعوب، ينبئ أن الأمر بالنسبة إلى ترامب ومناصريه لا يعدو مجرّد حرب مع طواحين الهواء تستنزف طاقات البشرية وتهدر وقتها، حيث إن أحد أوجه تعزيز الجانب السياسي للعولمة اعترافها بالحريات من حرية العقيدة والفكر والتعبير وحرية الانضمام إلى التنظيمات السياسية وتشكّل الأحزاب والانتخاب والتي من مظاهرها سقوط النظم الدكتاتورية والشمولية والاتجاه إلى الديمقراطية والتعددية والنزوع إلى تأكيد احترام وصيانة حقوق الإنسان وهو ما يجعل من حراك العولمة في العالم حراكا على شكل عجلة ديناميكية ربما تعطلها مؤقتا حروب كبيرة ولكنها لا تتوقف، بل تستأنف نشاطها بمجرد انتهاء الحروب.
لحظة توافق
بالنظر إلى موقعنا من الخطاب الترامبي المنقلب على العولمة لا يمكن تجاهل موقف الكثير من كتاب ومفكري العالم الثالث المعادي لمفهوم العولمة باعتباره يعبّر عن ظاهرة تعمل على (أمركة العالم) وتهميش الشعوب وإذلالها وجعل العالم يعيش داخل قوالب جامدة فرضتها عليه قوى الإنتاج والإعلام الأميركية والتي برأيهم تحاول أن تجعل من العالم نسخة منسوخة من سلوك أميركي محض وتنميط العالم وتشويهه وسلخه عن ذاته وعن واقعه المرتبط بماضيه. لذا قد عمد أصحاب هذا الموقف إلى مقاومة ظاهرة العولمة وإثارة جدل واسع حول آثارها السلبية المتمثلة بسحق الهوية والشخصية الوطنية وإعادة صهرها وتشكيلها بما يتوافق مع نموذج مؤطر لهوية شخصية عالمية نتجت عن مظاهر من مثل سحق الثقافة والحضارة المحلية الوطنية وإيجاد حالة اغتراب ما بين الفرد و تاريخه الوطني إضافة لتحييد المصالح والمنافع الوطنية الخاصة في حال تعارضها مع مصالح القوى العظمى كالسيطرة على الأسواق المحلية وتحويلها إلى مؤسسات تابعة لها والتي سيكون سبيلها في ذلك بممارسة القهر والاستلاب.
اللافت في الأمر هو أن هؤلاء ذاتهم قد توافقوا مع أصحاب الموقف المرحب بالعولمة وذلك من حيث رفض ظاهرة ترامب واعتبار أنه ومنذ الخطاب الأول (خطاب القسم) إنما قد جاء بالنذر الأولى لما يخالف حريات الشعوب، وذلك عندما جلد ترامب الإدارات الأميركية السابقة، وكأنه يقوم بـòحركته التصحيحيةò، وأطلق شعاراً يجده لائقا وممثلا للدولة العظمى التي سيرأسها في السنوات الأربع القادمة: åأميركا أولاً!ò، كما لو أن أميركا إحدى الدول النامية المحكومة بدكتاتوريةٍ فاسدةٍ تسعى إلى الاختباء وراء ديماغوجيا وطنيةٍ جوفاء.
إن توافق أصحاب الموقفين المعارض والموالي للعولمة في هذا الموضع يحث الخطى نحو التساؤل فيما إذا كان من عادى العولمة أساساً قد اتكأ إلى دراسة ورؤية عميقة وشاملة تراعي الحراك العالمي ومتطلبات هذا الحراك أم أنه اتخذ رد فعل ارتدادي ارتكاسي سببه عدم توفر المقدرة على التكيف مع معطيات الجديد والطارئ؟ فمعاداة المعارضين للعولمة لخطاب ترامب هذا إنما يجنح من منطلق مراعاة خصوصية الفرد والمصالح الوطنية نحو منطق تمكين الفرد من حرية الانتشار وتخطي الحدود الأميركية والقفز فوق جدران الحدود (الوطنية). ومن هنا فإن ظاهرة ترامب تستدعي إعادة النظر في الذوات ومرادها والحراك الحاصل بالضرورة وتمكين نظريات فكرية تتطرق للعولمة بما يمكن أن يتوافق عليه مفكرو العالم جميعاً المناهضون للعولمة والمريدون لها معاً وما ينتهز مواضعات الراهن وقراءة هويته الحالية قراءة جينيالوجية واعتبارها فرصة لوضع محددات طريقٍ يتجاوز العولمة إلى مفهوم جديد ربما تكون العالمية أحد نسيباتها.
مركنتيلية ترامب
بالاطلاع على المعطيات القبلية نفتح باب الاستقراء للراهن. فقد أصرّ ترامب في برنامجه الانتخابي سابقا والإداري حاليا على وضع مصلحة أميركا الاقتصادية في المقام الأول وبذلك ربط وجوده على كرسي الرئاسة بأولوية الاقتصاد وهو أمر يأتي منسجما مع كونه (مستثمر). وبالرغم من أن تحسين اقتصاد أميركا كان أحد أدوات البرامج الانتخابية لرؤساء أميركا سابقاً إلا أن الأمر يبدو مختلفاً مع ترامب.
من المعروف أن الكتلتين العظميين في العالم أميركا وأوروبا لا تتفقان بالشكل الخارجي لبناء أنظمتهما، وإن كانت هناك الكثير من الاتفاقات التي تخص الحقوق الإنسانية والقوانين. فأميركا اختارت ربط حضورها في العالم بعاملين أساسيين هما السياسي والعسكري، وذلك من خلال حماية وإدارة عجلات القيادة وتحويل مسارات القوى السياسية في العالم بما يخدمها اقتصاديا ودون اللجوء إلى الاحتلالات الكولونيالية التي لجأت لها الدول الأوروبية ولاسيما الأسكندنافية لاختيارها الارتباط بعاملين أساسيين بالنسبة إليها هما الاقتصادي والسياسي. الأمر الذي شكل فرقا بين أميركا وأوروبا في المنظومة الاقتصادية والسياسية لاحقاً.
خيار أميركا ذاك جعلها تعتلي مكانة الدولة الحكيمة التي لا تقتنص أزمات الشعوب وتحتلها لتستخدم مواردها الاقتصادية وتبادلها بالمعادن الثمينة لرفع اقتصاد أميركا كما هو حال هولندا وإنكلترا وفرنسا وغيرها من الدول الكولونيالية. وكانت حكمة أميركا من تبنيها هذا أن أميركا لن تكتسب توحدها من خلال تشتت حدودها في كانتونات ووحدات اقتصادية في بقاع مختلفة من العالم، لذا عمدت إلى نظام بديل بنشر وتثبيت القواعد العسكرية في دول مختلفة.
ظاهرة ترامب فرصة لافتتاح قنوات سياسية واجتماعية جديدة داخل المجتمع الأميركي أولا وفرصة لإعادة قراءة عربية لكل المفاهيم السابقة واللاحقة للعولمة وإعادة تشكيل ما يمكن أن يخدم المواضعات السياسية والاقتصادية لمنطقتنا
في أثناء حكم بوش الابن وأوباما تعرضت أميركا إلى صفعات اقتصادية مؤلمة شلّت بعض أوجه الاقتصاد وظهرت أشكال الفقر ووجوهه في الشوارع الأميركية من انهيار في خدمة العقارات والفوائد البنكية وارتفاع الضرائب الحكومية وتحول المعيشة إلى كابوس يرافق الأميركان لا سيما بعد تكتل المستويات الاجتماعية في تباين واضح وصل لستة فروقات طبقية باتت تهدد المجتمع والدولة. مما فتح أعين الشعب الأميركي إلى ما مفاده أن الحروب الأميركية في العالم كما في العراق وغيرها والتي كانت تكلف أميركا ما يقارب الـ450 مليون دولار في اليوم الواحد هي السبب في وصول الشعب الأميركي إلى ما وصل إليه، وبالطبع لعبت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي دورا مهما ببث هذه الأفكار وإثارة نقمة الشعب على سياسة أميركا الخارجية وذلك بتصوير حروب أميركا في الخارج على أنها امتصاصٌ لمقدرات وثروات أميركا، هذا ولا يمكن إنكار أن هناك مخاوف شعبية بنيت على واقع يواجهه العالم يوميا بصعود الكثير من الدول اقتصاديا لا سيما الصين وما شاع من أحاديث حول منافستها لأميركا. كل ما سبق بات يشكل مخاوف يتوجسها الشعب الأميركي قبل الانتخابات ويعتقد بضرورة إيجاد بديلٍ لكل السياسيين الذين حكموا أميركا، بديل اقتصادي يعرف كيف ينقذ أميركا. وهذا ما تبنته الكثير من قنوات الإعلام العربي أيضا، فإذا بنا نفتح أعيننا على انتخابات ترامب وقد ازدادت شعبيته، ليكون ترامب (المستثمر) الحل البديل الذي كان يطهى على مهل ليملأ الثغر الذي تتوق لملئه شعوب أميركا ويحقق الطموح بأميركا الغنية.
لذا فقد جاء الحل الترامبي لأميركا حلا نابعاً من حاجة أميركا ذاتها ولكنه ينتمي لمفهوم كان قد أثير في نهايات القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر في أوروبا وذلك بتطبيق مفهوم Mercantilism) (The concise encyclopedia of economics,David R. Henderson, Liberty Fund, 2008) أو ما يدعى بالنزعة الاتجارية أو المركنتيلية. فالمركنتيلية جعلت من أوروبا بلاد المعادن الثقيلة وسببا لشرعنة الكولونيالية بداية والفرانكفونية لاحقا في مرحلة ما بعد الكولونيالية. وهو ما يجعل من طروحات ترامب طروحات غير عشوائية مطلقاً، بل وتبرّر الحديث عن تقليل أميركا من الاستيراد والاعتماد على الموارد المحلية وزيادة الضرائب الجمركية على الصادرات وسحبها لشركاتها ومعاملها الناشطة الموزعة في دول كثيرة واحتكارها داخل حدودها.
تفاؤل عربي
تمت معاداة ترامب داخل أميركا وخارجها ورفضت كل مؤشرات المركنتيلية والتي هي بشكل ما أو بآخر نقاط فاصلة من مثل: إغلاق الحدود بوجه اللاجئين، معاداة الآخر عنصريا بحسب الدين أو العرق أو اللون، التركيز على الصناعات العسكرية، مهاجمة الدول الغنية بالموارد الخام واستعمالها كسوق اقتصادي لموارد أميركا وجعلها كانتونات أميركية اقتصادية وبمعنى آخر تحقيق مفهوم الكولونيالية في أميركا بالثراء المطلوب لشعبها.
تظاهرات الشعب الأميركي الرافضة للكثير من قرارات رئيسهم كانت مصدر تفاؤل عربي وحلم مشروع لكنه بحاجة إلى مرجعية الواقع المتحقق كي لا يجد الشارع العربي نفسه خارج العولمة ورؤيتها التصالحية المعرفية!
إن دراسة الظواهر تقتضي الاستناد إلى الحقائق المادية واستقرائها. ومن هنا يمكننا طرح إشكالية تبدأ من التساؤل: هل إن إجراءات أو قرارات ترامب في تقوية اقتصاد أميركا تعد تهديدا لمصالح الشعب الأميركي؟
تجيب على هذا التساؤل أسئلة أخرى من مثل:
هل يمكن أن تتحقق العنصرية قانونيا في بلد هو في الأساس بلد مختلط لا ينتمي لقومية أو لغة أو دين واحد وهو لا يشبه دول أوروبا الأسكندنافية بأيّ من هذه؟ العنصرية في بلد متنوع أساسا لا يمكن أن تأخذ شكلا قانونياً، أما العنصرية بوصفها فعلا فرديا هي فعل يتواطأ عليه المجتمع الأبيض الأميركي بوعي أو بلاوعي وتوظّف سياسيا فلا تلبث أن تختفي يوما عن المشهد السياسي والاجتماعي العالمي حتى تطل برأسها ثانية فتغيب حالات عنصرية إعلاميا لأنها حصلت في غير وقتها وتضخم حالات أخرى لأجل إتمام أو إنشاء لعبة سياسية أو اقتصادية أو لتكون موجها لنجاح أحزاب أو حركات سياسية ضد أخرى، فالمرشح في هولندا عن حزب åلأجل الحريةò خيرت فيلدرز كانت شعبيته 12 بالمئة في عام 2011 حيث استخدم وجود اللاجئين ولعب بالإعلام السياسي للتحريض العنصري بحجج اقتصادية تعيق عربة هولندا المالية فوصل إلى شعبية متزايدة في 2016 تزيد عن 35 بالمئة، وما زال اللعب بمفاهيم من مثل العنصرية واللاجئين وزيادة كتلة الملونين والمسلمين السكانية في هولندا هو الخطاب الفيلدري لزيادة حاضنته الشعبية بحجة دعمه وحرصه على اقتصاد الدولة ونقاء هولندا مناوراً ما يشاع عن السياسيين المنافسين له بأنهم يؤثرون النظريات الإنسانية ومصالح الشعوب الأخرى على مصالح شعوب بلادهم.
وعلى الرغم من غضب الشارع وعنصرية ترامب اللافتة إلا أن نظام الحكم الديمقراطي في أميركا المستند للقانون المراعي لحقوق وواجبات المواطن يجعل من موقف ترامب لا يتعدّى كونه شخصيا يمارسه في ممتلكاته الشخصية من مثل منعه للسود بالسكن في عقاراته أو أوتيلاته! لا يصل حد المخاوف من تحوّل هذه العنصرية إلى شكل مقونن وملزم في أميركا. ومع ذلك فقد استغل ترامب لحظة الغضب الجماهيري جيداً ولم يصعّد بالعنف محققا مقولته أميركا أولا!
هل يعترض الشعب الأميركي على زيادة إنتاجية بلده للصناعات العسكرية لأنها ستدمر دولا أخرى؟ إن عودة سريعة لتاريخ أميركا القريب وما قامت به من حروب ودمار في العالم يرينا أنه لم تظهر حركات قوية معادية لسياسات أميركا كافية لمنع قتل المدنيين في العراق أو أفغانستان، في حين نجد اكتفاء بتظاهرات متفرقة منددة بالقتل وبإهدار موارد أميركا البشرية والاقتصادية. ومن جانب آخر كانت تعي أميركا أن مجرّد تلويحها باليد الأخرى بشبح الحركات الإسلامية سيكون كافيا لخلق ولاء لها لا يصل حد الرضى التام ولكن لن يطيح أو يخل بتوجهاتها؛ (أحداث 11 سبتمبر نموذجاً) ويمكننا أن نمد أبصارنا للصناعات العسكرية الأميركية وتاريخ أميركا المعتز بها منذ تجريب فاعلية قنبلة هيروشيما إلى بيع الأسلحة في كل دول العالم.
هل إن وجود ترامب في الحكم سيؤثر سلبا على استقبال اللاجئين وإغاثتهم على أرضها؟ تظهر الإحصاءات أن نسبة ضئيلة جداً من اللاجئين الوافدين لأميركا تم إعادة توطينها وذلك بما لا يزيد عن واحد بالمئة فقط من اللاجئين على الصعيد العالمي وهو ما صرحت به المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وما أشار له يونك، من قسم إعادة التوطين.
(How US is failing Syrian refugees, Philippa Garson, Irin News, New York, 5 June 2015)
أما فيما يخص الشعب الأميركي وبحسب القراءات فإنه لا يتقبل وجود اللاجئين إلا بما يناسب ويحقق مصالحه كما حصل في دوتيرويت عندما وجد حاكم ولاية ميشيغان الجمهوري أن تناقص عدد سكان المحافظة من 1.5 مليون إلى 750 ألف يستدعي تعبئة هذا الفراغ باللاجئين السوريين لما لا يزيد عن 50 آلاف لاجئ سوري.
(Let Syrians Settle Detroit, The New York Times, David D. Laitin and Marc Ahrj, may 14, 2015)
كما أنه لم يحصل اعتراض جماهيري في عهد أوباما على مجرى التحقيق المهين مع اللاجئين السوريين إلى أميركا، وذلك بعد أن تمكّن الجمهوريون ذاتهم من جعل المخاوف من وجود اللاجئين السوريين سننا معتمدا للتحقيق مع اللاجئ السوري وإثباته للمحققين دون أدنى مجال للشكّ بأنه غير متورط بالتعامل مع الإرهابيين في سوريا ولو ببيع سندويش!
كل ما سبق لا يدلي إلا بحال مفاده أن أميركا لم تكن في وضع جد مغاير لم هي عليه في عهد ترامب.
ترامب أولا
مقاصد ترامب من خطابه تطوير اقتصاد أميركا والنهوض بحياة الأميركيين وتقليص الفروقات الطبقية في المجتمع، مقاصد يقوضها رقم مالي مكون من 916 مليون دولار، وهو عبارة عن الرقم الذي صرح به ترامب عام 1995 على أنه خسائر مالية تكبلت به شركاته وملاهيه وعقاراته مما أدى لإعفائه من الضرائب لمدة 18 عاماً، وهو ما جعله في دائرة الاتهام من قبل مناوئيه أثناء الحملة الانتخابية ومطالبتهم إياه بتقديم تقرير واضح عن ضرائبه ومتعلّقات عمله المالية وهو أمر متعارف عليه بين مرشحي الرئاسة الأميركية، إلا أن ترامب رفض الإدلاء بحقيبته المالية وعندما اتهمته كلينتون بأنه تهرَّب ضريبيا في عام 1995 أجابها åهذا يدل على ذكائيò.(Donald Trump Tax Records Show He Could Have Avoided Taxes for Nearly Two Decades, The Times Found, David Barstow, Susanne Craig, Russ Buettner and Megan Twohey 1 Oct 2016, New York Times)
وهو ما يعني أن تهرب ترامب الضريبي يعارض تصريحه بأولوية اقتصاد أميركا.
من جهة أخرى يرى أن تحويل أميركا إلى أرض ثرية سيؤدي إلى إنهاء الفروقات الاجتماعية وأنه سيعزز هدفه بتقليص الطبقات الاجتماعية من خلال تنظيفه أميركا من المواطنين غير الشرعيين والذين يبلغ عددهم بحسب الدراسات 16 مليون شخص. أي أنه سيقوم بإزالة طبقة اجتماعية واقتصادية أساسية يقوم عليها الاقتصاد والمجتمع الأميركي معاً وهي الطبقة العاملة بأعمال ومهن بسيطة يعتبرها أصحاب الطبقة الوسطى والثرية أعمالا مهينة لا يعملون بها ويسلمون أمرها لهؤلاء من مثل أعمال التنظيف.
وما زلنا نقرأ قرارات لترامب تتعلق بالجمارك وفرض ضرائب تصل إلى 35 بالمئة على بعض شركات السيارات معترضا على اعتمادها لفروع لها في المكسيك، ولا تدل مثل هذه القرارات أو تلك إلا على أن åترامب أولاًò يستغل اقتصاد أميركا لمكاسب شخصية، رافعا جدران حدودية ليس ضد المكسيك فقط بل ضد أيّ تقدم في مشروع الرؤية التصالحية العالمي حتى وإن كانت رؤية بشكلها العولمي، كما يمعن في منع أيّ ملمح من ملامح إلغاء الفروقات الاجتماعية طالما يتحدث عن العنصرية ويشرعنها اجتماعيا.
إلا أن إدراك أسلحة ترامب في الوصول لقمة أميركا وتمكنه حتى اللحظة من الاستمرار في قيادة أميركا على الرغم من كل ما صرح به من مقوضات للمجتمع الديمقراطي والعولمة ومحافل الإنسانية ما هو إلا مؤشر على أن أدوات ترامب هي أدوات مدروسة وثابتة وما استلامه للحكم إلا امتلاك ليد قوية سيسعى من خلالها إلى دعم توجهاته وتمكينه من اتخاذ القرار الإجرائي.
إلا أن الخبر الجيد مضمونه أن ظاهرة ترامب فرصة لافتتاح قنوات سياسية واجتماعية جديدة داخل المجتمع الأميركي أولا وفرصة لإعادة قراءة عربية لكل المفاهيم السابقة واللاحقة للعولمة وإعادة تشكيل ما يمكن أن يخدم المواضعات السياسية والاقتصادية لمنطقتنا بالمبادرة إلى الفعل بدلا من التنديد بالآخر ورمي التهم جزافا واعتلاء أمواج ردود الفعل فقط.