تمثّل الآخر
نبدأ في هذه الورقة بالقول أنّ فكرة التصنيفات الاجتماعية وخاصّة فكرة الآخر “البدائي” تتخلّل مجمل الحضارات الإنسانيّة. وتعتبر مسألة اختراع الآخر وتشكيل صورة له من أهمّ آليّات محاولة السيطرة عليه حين تلتحم المعرفة بالسلطة والقوّة [1]. يُعْتَمد هذا لشرعنة العمليّة التصنيفيّة على مجموعة من المعايير لتشريح الآخر و”مشهدته” حيث يصبح “معجبة” بعبارة إدوارد سعيد. فلون البشرة والدين واللغة والعادات والتقاليد (غذاء، لباس، موسيقى…) تصبح أشياء غرائبيّة خاصّة في لحظة اختلافها مع ثقافة “النحن”. وهذا الاختلاف يشرّع لاقتحام ذلك الآخر معرفيّا وحتّى عسكريّا في محاولة لتحضيره وتعليمه والقيام بواجب “عبء الحضارة” [2]. من هنا يتمّ إنشاء معرفة تجاه الآخر وتتكلّم باسمه وترسم له حدود تحرّكه وتضاريس تاريخه وحضارته [3].
تعتبر الصور النمطيّة “Stéréotype” من أهمّ تجلّيات جدليّة الداخلي والخارجي من جهة، ومن جهة أخرى تعتبر هذه الصور منتجا مهمّ للسرديّات والكتابات التي يمكن أن تكون رصيدا غنيّا للباحث لتكوين مدوّنته المصدريّة. وتنضوي الصور النمطيّة ضمن إطار سيميولوجي كامل كما أكّد على ذلك هنري بوير (Henri BOYER)، هذا إلى جانب “ترسيخ الشعار” (embléme) و”الأسطورة”. إذ الصور النمطيّة والشعار أو الوصمة والأسطورة ترتكز على آليّة التصنيف (catégorisation) والترميز (symbolisation) [4]. تتنوّع الصور النمطيّة من صور نمطيّة اجتماعية ووطنيّة وإثنيّة وطبقيّة، هذا دون إغفال الأبعاد الالتفافية والإثنومركزيّة والإقصائيّة، أيضا معاداة الساميّة (antisémitisme) وكراهية الأجانب (xénophobie) والإسلاموفوبيا كظواهر حديثة لظاهرة الصور النمطيّة. هذه السرديّات تساهم في بناء ذهنيّة جماعيّة تستبطن مجموعة من التمثّلات تجاه الآخر [5].
تعترض الباحث في تعامله مع السرديّات التي تنتج الصور النمطيّة مثل سرديّات الرحّالة أو أنثروبولوجيّي القرن التاسع عشر مجموعة من المصاعب. منها زخم الرهانات السياسيّة والاجتماعية والاقتصادية التي تتخلّل هذه الكتابات، والعدد الكبير من الأحكام القيميّة والتصنيفات التحقيريّة أو التفضيليّة التي تخترقها. أيضا يمكن للباحث في حدّ ذاته أن يستبطن هذه الأحكام المسبقة والممارسات التصنيفيّة، سواء من خلال سيرورته التعليميّة من ناحية تكوينه الأكاديمي، أو اكتفائه بالوثائق المتاحة إليه وعجزه أو عدم رغبته في الاطلاع على وثائق متنوّعه المصدر.
في هذا الإطار سوف نأخذ كنموذج تفسيري لمسألة تمثّل الآخر ثلاثة أمثلة من القرن التاسع عشر، وسنقوم بدراسة مقارنة بين فريديريك إنجلز (Friedrich Engels) من خلال كتابه “أصل العائلة والملكيّة الخاصّة والدولة” (ألّف قبل 1884) مع الاستنجاد بآراء الأنثروبولوجي لويس هنري مرغان ( Lewis Henry Morgan ت1881)[6]، وكتاب رفاعة رافع الطهطاوي (1801- 1873) ومؤلّفه ” أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسمعيل” (ألّف سنة 1868) [7]. من خلال دراسة مقارنة بين الكاتبين سوف نحاول أن نعرف القواسم المشتركة بينهم في تمثّلهم للآخر “البدائي”.
كتاب ” أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسمعيل” ألّفه رفاعة رافع الطهطاوي سنة 1868 أي بعد رجوعه من فرنسا بحوالي ثلاثين سنة. وقد أتقن الطهطاوي اللغة الفرنسيّة والترجمة وقد عيّن مديرا “لمدرسة الألسن”، وقد كانت هذه المدرسة تدرّس اللغة الفرنسيّة والإيطاليّة والإنجليزيّة والتركية والفارسية. أيضا أسّس في القاهرة مدرسة المحاسبة التي تدرّس ومدرسة الإدارة. وكتابه هذا يعبّر عن مشروع سياسي متكامل متواز مع كتابة تاريخيّة مبتكرة آنذاك في العالم العربي تتمحور أساسا حول الوطن. فكل الكتاب متمحور حول مصر من العصر الفرعوني إلى عصر الكاتب.
نلاحظ أوّلا أن إنجلز والطهطاوي عاشا تقريبا في نفس الفترة الزمنيّة وإن كان كتاب الطهطاوي يسبق كتاب إنجلز دون أن نغفل استفادة إنجلز من أعمال لويس هنري مورغان (1818- 1881) وخاصّة كتابه الأساسي “المجتمع القديم” (1877). نسجّل استخدام إنجلز استنادا إلى مورجان مصطلحات “الوحشيّة والبربريّة والمدنيّة” [8] عند حديثه عن عصور التطوّر الرئيسية الثلاثة. فالبدائي همجي قبلي. أمّا العرب قبل الإسلام في كتاب الطهطاوي فقد “كانت النصرة عندهم تقوم مقام الحقوق المدنيّة فيما يترتّب عليه من المزايا البلديّة” [9].
إنجلز يرى في البدائي افتقاده لثنائيّة حاكم/محكوم حيث ليس هناك صراع على وسائل الإنتاج، وهذا ما أشار إليه الطهطاوي حيث أنّ “قدماء القبائل والعشائر إمّا أن تكون طبيعة بلادهم تلائم في المعيشة القنص والصيد ورعي الماشية… فالقبيلة الصيّادة أو الراعية يبطئ تقدّمها في التمدّن… لأنّ مورد كسبها ضعيف ومصدر احتياجها لطيف تقنع من العيش دون الطفيف” عكس الحضارات “التي تسعى في مضمار الترتيب والتنظيم”. والطهطاوي هنا مزج بالمقارنة مع نظريّة مورغان بين المرحلة الوحشيّة وجزء من المرحلة البربريّة (دون مرحلة إتقان زراعة الأرض)، فالوحشيّة “يعيش الإنسان على ما تنتجه الطبيعة دون مجهود إنساني” والبربرية هي المرحلة التي عرف الانسان فيها استئناس القطعان الحيوانية وتربيتها” [10].
كما نجد عند إنجلز علاقة عضويّة بين الآخر المدروس والفطرة، فهو صفحة بيضاء في انتظار الرجل الأبيض لإعادة صياغتها. عند الطهطاوي عوّضت الفطرة بـ”الطبع”، وقد استخدم كثيرا هذا المصطلح خاصّة عند حديثه عن العرب في الفترة “الجاهليّة” حسب تعبيره هذا إلى جانب توظيف مصطلح “الجبلّة” و”الغرائز”، فالعرب قبل الإسلام “مطيعة لطبائعها التولديّة وغرائزها الفطريّة وكانت المَلَكَة الأصليّة الجبلّيّة فيهم على حدّ سوى” [11] .في حضور الغريزة ليس هناك مكان للعقل والتفكير.
ونجد عند إنجلز تعريف المرحلة الثالثة “المدنيّة، وهي المرحلة التي تعلّم الإنسان فيها عمل الإنتاج الطبيعي بالمجهود الصناعي كما تعلّم الفنون”، نفس هذا التعريف نجده عند الطهطاوي عند حديثه عن التطوّر الذي شهدته مصر خاصّة مع الحضارة الفرعونيّة أو بعد دخول الإسلام إليها. فمن مظاهر المدنيّة عند الكاتب “العمائر والأبنية الجليلة، الآثار الدالّة على التمدّن والرفاهية، وتقدّم الفنون (نفس مصطلح إنجلز) والصنائع”. أيضا “العمائر والأبنية الجليلة الآثار الدالة على التمدّن والرفاهية… افتتحت طريق التجارة وأعانت الزراعة والفنون والزراعة”. نلاحظ تقريبا نفس المصطلحات المستخدمة في التعريفين. هذا البناء لا يتقنه أهل البربريّة حيث نجد “الهكسوس” مثلا الذين هاجموا مصر سابقا فهم “العمالقة المتّصفون بوصف التدمير والخراب”.
ومن ناحية أخرى نجد عند إنجلز أنّ الممارسات العنفيّة عند المجموعات البدائيّة تشكّل بنية وممارسة حياتيّة بل أحيانا ضروريّة للاستمرار. الطهطاوي يرى أنّ العرب قبل الإسلام كان دأبهم “سفك الدماء والإيثار بالفخار” [12]، فهم “يسوّسون نفسهم بنفسهم” وكلّ شيء قائم على منظومة “الثّأر”[13] . وهذه المجموعات بالنسبة إلى تمثّل مورغان ليست لهم ضوابط وقوانين ويعتمدون سياسة البقاء للأصلح، عكس الحضارة الغربية التي ترتكز على القوانين الواضحة المرتكزة على منظومة الحقوق والواجبات. وهذا ما يؤكّد عليه الطهطاوي أيضا حين يتحدّث عن مصر، “لم تسبقها أمّة في ميدان التمدّنيّة…ولا في حومة تقنين القوانين وتشريع أحكام الأحكام المدنيّة”. أمّا الآخر فهو تلك “الأقطار السودانيّة القاصية” أو “تلك البلاد المجهولة الأحوال”[14]. وهم الذين يتنقّلون “من جهة الى أخرى بلا قيد أو شرط”.
نلاحظ من خلال الورقة أنّ كلّ السرديّات المنتجة داخليّا وخارجيّا حاملة لرهاناتها، وعلى الباحث أن ينطلق دائما من سرديّات الداخلي دون إغفال سرديّات الخارجي، من هنا ننطلق من المحلّي في اتّجاه الكوني وهو هدف الباحث أساسا. في هذا الإطار ينطلق الباحث من تصنيفات الفاعلين مع مساءلتها. وعليه أن يأخذ مسافة من الداخلي والخارجي معا، وأن يموضع كلّ السرديّات التي وضعها في سياقاتها لكي يتفهّمها. فنحن كدارسين نخاف هيمنة الخارجي وإسقاطاته على الداخلي الذي نريد دراسته. الباحث بانطلاقه من تصنيفات الفاعلين الاجتماعيين يقوم بأهلنة وتبيئة منتوجه، ويمكن أن يصل بذلك لتأسيس تصنيفات معرفيّة بعيدة عن التصنيفات التحقيريّة أو التفضيليّة التي تؤسّس لها ثنائيّة الداخلي والخارجي.
يمكن أن نستنتج من خلال النماذج التفسيريّة الثلاثة التي أخضعناها في البحث أنه يوجد توافق زمني بين الطهطاوي – مورغان – إنجلز، فهم جميعا أبناء القرن التاسع عشر. أيضا نلاحظ توافق على مستوى المصطلحات المستخدمة في تمثّل الآخر. هذا مع ملاحظة أن التصنيف المعتمد في الكتابين هو تصنيف تحقيري بامتياز في تمثّله للآخر، فهو الآخر “المجهول” الفوضوي الهدّام الفاقد للقوانين. وتفضيلي في تمثّله للأنا أو للنحن. ويمكن القول أيضا إنّ روح القرن التاسع عشر ساهمت في إرساء هذه المنظومة الفكريّة التصنيفيّة الخاضعة لآليّة التطوّر. أيضا كثير من الأفكار التي أوردها مورغان وإنجلز ذكرها الطهطاوي وإن كان بطريقة مسطّحة ودون وعي بالعمليّة البحثيّة المعرفيّة (على عكس مورغان مثلا الذي هو ملتزم بمشروع بحثي معيّن)، فالطهطاوي شكّل كتابه في إطار مشروع سياسي بحث مرتكز حول مصر ليس له علاقة بالبحث العلمي، ولكن ها لا ينفي أسبقيّته الزمنيّة في ذكر عدد كبير من الأفكار التي ذكرها مورغان وإنجلز من بعده.
[1] أنظر أعمال ميشال فوكو، أيضا كتاب إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، ترجمة كمال أبوديب، دار الآداب.
[2] تزفيتان تودوروف، فتح أمريكا. مسألة الآخر، ترجمة بشير السباعي، سينا للنشر، 1992.
[3] جاك غودي، الشرق في الغرب، ترجمة الخولي، المنظمة العربية للترجمة، 2008.
[4] Henri BOYER, « Stéréotype, emblème, mythe. Sémiotisation médiatique et figement représentationnel », Mots. Les langages du politique [En ligne], 88 | 2008, mis en ligne le 01 novembre 2010, consulté le 06 juillet 2017. URL : http://mots.revues.org/14433
[5] Jan Berting, « IDENTITÉS COLLECTIVES ET IMAGES DE L’AUTRE : LES PIÈGES DE LA PENSÉE COLLECTIVISTE », in, HERMÈS, 30, 2001, in,
http://documents.irevues.inist.fr/bitstream/handle/2042/14516/HERMES_2001_30_41
.pdf;jsessionid=DAF24F4BE295C
297AA6AB0D99CC00144?sequence=1 [6] فردريك إنجلز، أصل العائلة والملكيّة الخاصّة والدولة، ترجمة: أحمد عزّ العرب، 1957.
[7] رفاعة رافع الطهطاوي، أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسمعيل، 1285 (1868).
[8] فردريك إنجلز، ص 17- 18.
[9] رفاعة رافع الطهطاوي، ص 482.
[10] فردريك إنجلز، ص 17- 18.
[11] رفاعة رافع الطهطاوي، ص 489.
[12] رفاعة رافع الطهطاوي، ص 517.
[13] رفاعة رافع الطهطاوي، ص 482.
[14] رفاعة رافع الطهطاوي، ص 29.