تيه المثقف العربي
إذا كان المثقف فاعلا من الفواعل المؤثّرة في تشكّل الوعي لدى المجتمع وعاملا من العوامل المسهمة في بلورة تصوّر عميق تجاه الواقع ومفارقاته بغية قراءته قراءة مدرِكة للأعطاب والفجوات التي تَعْتَوِرُ كينونة المجتمع، وتكون له القدرة على الإجابة عن الأسئلة الملحّة والحارقة في آن، فإنه – أي المثقف – يوجد في حالة غيبوبة تامة، فاقدا البوصلة، وبعيدا كل البعد عن هذه الانشغالات المؤرقة والمحيّرة، وأصبحت مكانته يشوبها الكثير من الالتباس والغموض، وبصريح العبارة لا وجود له داخل النسق العام للمجتمع، مما يفرض عليه الخروج من القوقعة التي وضع فيها نفسه بالانفتاح على أهم التبدّلات والتغيّرات التي شهدها الواقع العربي، والمُعبّرة عن أزمة المجتمع وشلليته، والكاشفة عن الارتكاس التاريخي والحضاري الذي يتخبط فيه العالم “العربي”.
المجتمع العربي يعاني من العديد من الإشكالات العويصة المتعلّقة أولا بالهوية العربية، التي فقدت بريقها ووهجها وقيمتها بفعل ما حصل من انسلاخ الذات عن كينونتها العربية والارتماء في حضن من كان عدوّا لمصالح العرب، وسببا في الهزائم المتتالية على كافّة المناحي والوجوه، هذا الآخر الذي اجتهد ومازال يجتهد في اصطناع كل ما يؤدي إلى تعطيل عجلة التنمية الحقيقية، وبناء مجتمع يليق بالحياة والتقدم والرقي، بوصف تاريخه وحضارته يسمحان له بذلك، إضافة إلى إثارة العوائق والمثبطات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بنهج وسائل تزيد الوضع في العالم العربي تأزّما وأكثر إيلاما. فالهوية ليست بطاقة نشهرها في وجه المختلف معنا، وإنّما هي انتماء للمشترك لغة ودينا وتاريخا وحضارة، وانهمام بالقضايا التي تجمع أكثر مما تُفرّق، وعقيدة متأصلة شعورا وعقلا، بعيدا عن وصفها قناعا نرتديه، والأكثر من هذا أن الهوية ذاك الأكسجين الذي يتنفّسه كل مواطن له جذر مّا في أرض مّا، وتلك العادات والتقاليد التي تسِمُ ممارساتنا اليومية والمناسباتية. هذا الوضع يدعونا إلى طرح السؤال الآتي: هل يمكن الحديث عن الهوية العربية في ظل الوضع القائم؟ وما جدوى هوية معطوبة في عالم متغيّر؟ وما السبل الكفيلة لإعادة الروح إلى هذا الجسد العربي السقيم؟ الحقيقة، وفي ظل الواقع المعيش، من الصعب الحديث عن هوية عربية، نظرا لما تشهده الرقعة العربية من ادّعاءات وفذلكات وتأسيس لهويات خاصة، بعبارة أخرى غدونا نسمع الخصوصية الهوياتية للمجتمع العربي، ضاربين عرض الإهمال الهوية العربية في كليتها وشموليتها، ومن تمّ على المثقف مجابهة هذا الواقع بإرادة التحدّي، ونهج سبل إحياء الصلات والأواصر، عبر تشكيل حلف ثقافي مقصديته الاشتغال، وفق منظور يستجيب لأسئلة وإشكالات اللحظة التاريخية العصيبة، التي تمرّ منها البلاد العربية، منظور يعيد الحياة لجسد عربي يوجد في قاعة الإنعاش وفي حال احتضار سريري.
وثانيا الوحدة العربية الموسومة بالتشرذم وتفكّك أوصالها، بخيبة أحلامها وانهيار صرحها، فتحوّلت الدول إلى كيانات تحت رحمة النظام العالمي الجديد. وتمّ تمزيقها شرّ تمزيق، فغدت هذه الوحدة شذَر مذَر- كما تقول العرب - مفكّكة ومُحلحلة. فالحلم العربي بالوحدة، الذي ناضلت من أجله ساسة ومثقفون وفاعلون مدنيون، في تلك الفترة العصيبة، وأهدرت الطاقات وكبرت الآمال في سياقه، كان مجرد سراب يراه الظامئ في الصحراء ماء، لكنه بمجرّد الاقتراب منه ينفلت منه، ويزداد عطشه، ولعلّ العطش الملازم للعربي، منذ عقود من الزمن، احتدّ وزاد أُواره في العقدين الأوليين من الألفية الثالثة، هذه الأخيرة شهدت أكبر انهيار للكيان العربي بفضل عوامل ذاتية وموضوعية ساهمت في تأجيج الصراعات واختلاق بؤر متوتّرة في هذا الكيان، مما انعكس سلبا على كل محاولة تروم استعادة هذه الوحدة المأسوف على اندحارها المباغت والمفاجئ، وأيضا جرّاء ضيق الأفق السياسي المتحكم في العلاقات العربية – العربية، وغياب مشروع وحدوي موحد بعد الفشل الذريع الذي منيت به زمرة من المبادرات العربية في خمسينات وستينات القرن العشرين. وعليه من الصعوبة بمكان الحديث عن وحدة اللغة والدين والمصير، لأن واقع الحال يؤكّد نقيض المقول، ويكرّس التشتت والتباعد والتناحر، ويرسّخ الفُرقة بتقطيع أواصر الصلة التي تجمع العربي بأخيه العربي من مشرقه إلى مغربه. الأمر الذي يفرض على المثقف العربي أن يتجاوز الخلافات السياسية بين الأنظمة العربية بتشكيل جبهة ثقافية عربية مهمّتها الأساس بناء مشروع وحدوي عماده فكر متنور عقلاني بعيد عن الأصوليات بشتى مسمياتها.
وثالثا انهيار الدولة في معظم الخارطة العربية جراء اختلاق صراعات وحروب بين الإخوة الأعداء، فدخلت المنطقة العربية في تطاحنات قوّضت كيانات دول كانت تمثل الجدار الآمن والمنيع أمام سطوة الكيان الصهيوني المتغطرس، فاستحالت دول العراق وسوريا وليبيا واليمن إلى بؤر لإثارة الفتن المذهبية والاقتتال بين الفرقاء السياسيين الذين يأتمرون بأوامر المتحكّمين في زمام الصراع المفتعل بين مكونات المجتمعات العربية، وقد تحقّق هذا على يد دول عربية بلا تاريخ وبلا حضارة، والتي تفنّنت في لعب أدوار خبيثة ومشينة في تخريب وتدمير دول عربية لها مكانتها التاريخية والحضارية بدعوى “الربيع العربي” وهو الحلم الذي صار خريفا عربيا أتى على الأخضر واليابس، بفعل معاندة النظم المستبدة واستقدامها الأعداء لينصروها على شعوبها. وهو ما أعاد العالم العربي إلى العهود البائدة، وحتّم على الكيانات أن تظل تحت رحمة التخلف الحضاري من جديد. إن ما حملته السياقات المضادة للربيع العربي للمجتمعات الثائرة على الطغيان من نتائج عكسية يطرح على النخب الداعية إلى التغيير إعادة النظر في الكثير من القضايا المتعلقة بالمسار الديمقراطي نحو تحقيق بناء الدولة الحديثة بمواصفات تلبّي حاجيات مواطن عربي أمله العيش الكريم والشعور بالأمن والأمان، وتُشرع في وجهه نوافذ الحرية والتعبير والرغبة في معانقة المستقبل من غير قيود ولا متاريس أيّا تكن.
هذا الوضع الكارثي، الذي ينبئ بمخاطر مُحْدقَة بمآل هذه “الأمة التي كانت تسمى عربية” ومصيرها، وبأنها “خير أمة أخرجت للناس”، يمكن وصفه بأبشع مشروع جهنمي يتفوّق على مشروع سايس بيكو المشؤوم الذي قسّم العالم العربي إلى دويلات وإمارات تناصر العدوّ، وتعادي إخوتها الذين تتقاسم معهم اللغة والتاريخ، الدين والمصير، وكل المخططات التقسيمية التي قامت بها الدول الغربية لتفتيت المفتت وتجزّئ المجزّأ. هذه الحال المأزومة والحالكة تفرض على المثقف أن يكون أكثر فاعلية للانخراط في أسئلة الحاضر والآني، قارئا ومتأمّلا، مُفكّكا ومحلّلا ثم مأوّلا لخطاب عالمي سائد ومهيمن يعمل بكل ما يملك من قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية وإعلامية على تكريس ثقافة التبعية والرضى بالأمر الواقع، من خلال خلق جبهة جماعية لمجابهة هذا الخطاب وإنتاج خطاب مقاوم يعرّي جوهر الصراع، والسعي نحو إشاعة ثقافة تناصر الحداثة والديمقراطية المنبثقة من رحم المجتمع العربي، وليست مستوردة، فكل مستورد من الطروحات والأفكار والتصورات يصطدم بمتاريس البنى والذهنيات التي تشكّل نسق العقل العربي. هذا العقل الذي لم يتخلّص من الماضي ولم يتمكّن من حسم الموقف في الكثير من القضايا الدينية والاجتماعية والثقافية التي تمثل من المثبطات العظمى لاختيار طريق حداثي عقلاني واضح. فبنية العقل العربي بنية متخلفة وخرافية، تعشش في أركانها عناكب التقليد والسّيْر على منوال السّلف الصالح، في زمن متحوّل لا يقبل الركون والاستسلام إلى عصور أنتجت رؤيتها للعالم وشيّدت حضارتها وفق إمكاناتها الذاتية، وكتبت تاريخ كينونتها بقوة السيف والنّقل.
فالصراع القائم لم يعد مرتبطا بالقيم والشعارات التي تمّ رفعها والتَّغنّي بها في ستينات القرن الماضي مرورا بالسبعينات وحتى الثمانينات والتسعينات من قبيل تكريس حقوق الإنسان وحرية التعبير وتحديث المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، فالخطاب الحقوقي والمطلبي كان في بعض الأحيان ذريعة للمزيد من الإخضاع للأنظمة المستبدّة الجائرة حتى تكون خانعة أمام إملاءات التوجهات الاستعمارية الكبرى وتصوّرات صندوق النقد الدولي، بل إن هذا الخطاب لم يكن إلا آلية من آليات الدول العظمى تستعملها ضد إرادة الشعوب التوّاقة للتحرر والانعتاق من سطوة البرامج الاقتصادية والاجتماعية المؤدّية إلى تثبيت سياسة العبودية والتبعية بشتى الأشكال والألوان، ولعل واقع التخلف والارتفاع المهول لنسب الأمية في كل مجالات الحياة، والإخفاق في بناء نظام سياسي ديمقراطي يكشف حقيقة هذه البرامج التي كانت – فقط – مجرّد قناع يخفي الوجه البشع للنظام العالمي الجديد، ويعرّي حقيقة المشاريع الجهنمية لاستعمار جديد باسم الديمقراطية.
مما سبق ذكره من تشخيص لواقع عربي مريض على المثقف ألا يبقى رهن مجاله الضيّق، غير مبال بمجريات الأحداث والوقائع، وبما يعرفه المجتمع العربي من انتكاسات ارتدادية في شتى مناحي الحياة، وعليه فالمفروض على المثقف العربي الإجابة عن هذه الاختلالات وتقويم الاعوجاج الفكري والثقافي، الذي غَدَا ضحْلا وسطحيا، نجم عنه غياب مثقف مشاكس ومتمرّد عن واقع مفروض ومرفوض في الآن نفسه، وكأن العقل العربي عاجز عن إدراك المأزق الخطير الذي تعيشه الذات في مواجهة هذه الإشكاليات العويصة والمستعصية إذا لم يتمّ إعادة النظر في طرق التناول والمعالجة بتجديد الأدوات وابتداع رؤى مُجرّدة من أثر القراءات السالفة، بإنتاج قراءة واعية ومدركة للأقانيم الثلاثة التي طرحناها سابقا والمتعلقة بالهوية والوحدة وانهيار نظام الدولة.
هذا الثالوث، في ظل هذه الفُرقة وهذه الظروف العصيبة، تظلّ في حكم المستحيل، نظرا لما يحيط بها من سياقات محلية ودولية، لكن هذا لا يمنع المثقف من القيام بمهامه الوجودية والواقعية المتجلية في مواجهة واقع التشظّي والارتكاس التاريخي والحضاري الذي تعاني منه الأمة العربية من الماء إلى الماء، بطرح الأسئلة المقلقة والحرجة والحارقة، والتي بمُكْنها مقاومة هذا العبث العالمي ذي الملامح الاستبدادية والاستعمارية، ولكن بلبوسات متنوعة غايتها التحكم في الرقاب والعباد، من استيعاب الدرس في ظل جائحة كورونا التي حملت وستحمل معها الكثير من الإبدالات العميقة لها تأثيرات واضحة وجلية على كل البنى الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وبالتالي فالسؤال الثقافي لن يبقى مرتهنا بسؤال الحداثة وإنما متعلق بسؤال الكيفية التي بإمكانها أن تؤدّي إلى تحرر الذات من واقع منبثق من أسئلة الآني والتاريخي، بعيدا عن النكوص إلى الماضي المعبّر عن واقع يختلف جذريا عن واقع جديد سِمَته الانهيار الكامل للدولة الوطنية، وتخلّي “الأمة العربية” عن المشروع الوحدوي الحلم المستحيل، وتشويه للهوية بشكل مثير للحيرة والألم.
إن مسؤولية المثقف العربي، في ظل هذه الظروف العصيبة والمتشابكة، جسيمة تحتّم عليه تحمّل تبعاتها بإيمان وعقيدة، ببذل كل الإمكانات المتاحة لمواجهة واقع ينبئ بالكثير من التحولات الرهيبة التي ستمس البنى الاجتماعية والذهنية العربية، وستغيّر زوايا النظر لمعالجتها من قبل المهتم والمشتغل بأمور الأمة وهمومها المتشعبة. وتحفّزه على ارتياد الصعاب لتيسيرها أملا في استعادة الروح إلى جسد مشلول ومتشظّ، ومعلول بأسقام متوارثة، ومكبّل بأصفاد التقليد والتبعية، جسد صديق الماضي متشبث به، وعدوّ العقل والمستقبل، وتلك من بين العوائق التي تقف أمام الانفلات من هذا الوضع المزري، والخروج من عنق الزجاجة. دون نسيان ضرورة الابتعاد ما أمكن من ثقافة التوابيت والاقتراب من ثقافة الحياة، والسعي نحو معانقة الجمال.
لا غرو من القول إن ما ينتظر المثقف العربي أعظم مما هو كائن، خصوصا إذا انطلقنا من كون الممارسة الثقافية المؤسسة على رؤية عميقة والمستشرفة لأفق مستقبلي ينبني على العقلانية المستلهمة من العقل العربي والمنفتحة على العقل الغربي بحمولته الإيجابية وليس الاستعمارية الإقصائية، وذلك حتى يتمّ تشكيل هوية عربية متأصّلة ومتجذّرة في أرض تنطق العربية فكرا وعقلا، من خلالها، تتأسس وحدة عربية أصلها ثابت وفرعها يظلل الأرض العربية، ولن يتحقق هذا إلا بفضل إرادة سياسية وثقافية تعيد للدولة هيبتها المنبنية على أسس ديمقراطية تحترم الاختلاف وتنبذ الائتلاف، وتعطي للمواطن مكانته اللائقة به، عبْر ترسيخ ثقافة الحق والعدالة والمساواة، وحرية الانتماء والمحاسبة، فغياب هذه الثوابت والأسس تأكيد على غياب الأقانيم الثلاثة الهوية والوحدة والدولة.