ثقافة التسلط الثقافي
يدّعي بعض المثقفين ومدّعي الثقافة التفوق في كل ما يطرحونه، والويل لمن يعترض على رؤيتهم أو يطرح ما يعارض تفكيرهم. الموضوع يرتبط برغبة تصل إلى درجة الهوس لفرض السيطرة على الآخرين وعلى مجمل الحياة الثقافية، من رؤيتهم النرجسية الواهمة لمكانتهم المميزة في مجتمعاتهم. يظنون أنهم هم أصحاب الرأي الذي لا رأي قبله ولا بعده، هم المشكلون للرأي الاجتماعي العام ولمسيرة الثقافة، هم الناطقون باسم مجموعاتهم السكانية والمعبرون بشكل عام عن تطلعات مجتمعاتهم المستقبلية بكل امتداداتها الإنسانية. المنطق السليم يفترض أن يساند الأدباء بعضهم بعضًا للسير بالأدب ورفع مستواه الإبداعي ليعبر عن تطلعاتنا في الحياة الحرة الكريمة، إن النظرة الدونية للآخرين نمت على قاعدة لا تختلف كثيرا عن الفكر القبلي، حتى لو سمّي ذلك الفكر بتنظيم سياسي.
التنظيمات السياسية في ثقافتنا مارست نهجا لا يمكن ربطه بالمفاهيم الإنسانية للثقافة. نمت لدى البعض الأوهام بالتميز وعمقتها، من رؤيتها أن ذلك يقوي مكانتها داخل مجتمعها ويعزز مكانتها في المنافسة على الأصوات الانتخابية. ربما في مرحلة ما كان يمكن تبرير هذا التصرف، لكن مع انتشار الثقافة والوعي وانتشار التعليم وإمكانيات النشر أضحى هذا النهج نهجا سلبيا مثيرا للسخرية، بتمسك البعض بأوهام التميز، وهم بكل تفكيرهم وإبداعهم ما دون المتوسط. هذه الظاهرة تجاهلت العديد من المبدعين، الأمر الذي يوجب إعادة تقييم مسيرتنا الثقافية بالتجرد من ربطها بالتنظيمات السياسية والترويج الإعلامي الذي مارسته. قال أحد القادة السياسيين (وهو في نفس الوقت أديب بارز) في محاضرة له أمام طلاب جامعة: إن الشعراء لدينا هم أربعة (من الواضح أنه يعني أربعة شعراء المقاومة من أعضاء حزبه) لم يذكر غيرهم، وعندما سأله أحد الطلاب “ألا يوجد غيرهم؟” قال “بالنسبة إلينا لا يوجد سوى هؤلاء الأربعة!”.
المثقفون، الذين تباروا لكسب ود ذلك التنظيم حتى يجعلهم “أدباء مرموقين” (رغم أن بعضهم ما دون المتوسط) بما يوفره لهم من إعلام ووسائل نشر وتوزيع كانت لفترة طويلة مرجعا وحيدا للثقافة العربية داخل إسرائيل، تصرفوا بعقلية لا تختلف عن عقلية القائد السياسي إياه، الذي لا يرى إلا من كان تابعا لحزبه، ويشغل فكره حساب بسيط، مكانته الخاصة، ولتذهب القيم كلها إلى الجحيم. عشنا هذه المرحلة بكل ما تحمله من نرجسيات تركت لنا واقعا ثقافيا وسياسيا فاسدا. ادّعوا أنهم أصحاب المعرفة الأبرز والإبداع الأرقى ويجب تقييم كل “خربشاتهم” بصفتها أفضل ما يمكن أن ينتجه المرء من ثقافة أو مواقف فكرية، وكل مثقف لا ينتمي لتيارهم، أو ينتقده، توجب مقاطعته وتجاهله وشطبه من الثقافة، هذا مع الأسف ساد ثقافتنا في مرحلة تاريخية مبكرة من تطورها وآثاره السلبية تشكل اليوم حالة شاذة يجب علاجها وشطبها من واقعنا الثقافي. ولا بد أن أشير أني كنت منضويا في نفس التنظيم، عندما كان منارة حقيقة بنيت ثقافتنا على قاعدتها، لكن التطور تجاوز منطقه العتيق، ولم يستوعب ذلك التنظيم التغييرات العميقة في المجال الإعلامي واتساع مساحة النشر، إلى جانب أن إعلامه لم يعد مميزا، بل يتخلف وراء الإعلام الإلكتروني العاصف، وطبعا فقدانه السيطرة على الجيل الجديد من المثقفين الأكاديميين، الذين تجاوزوا فكره الذي بات عائقا أمام انفتاحه وتحرره من جموده العقائدي.
لا أكتب ذلك كتقييم، إنما كمثقف عاش تلك المرحلة وكان ناشطا بإطار سياسي لعب دورا مركزيا بفرض رؤيته والترويج لمثقفيه والسيطرة على وسائل النشر والإبراز لأسماء دون غيرها، ليس على قاعدة ثقافية تنويرية، بل حسب مصالح تخدم في النهاية تنظيما سياسيا وفكره، مع كل تقييمنا لدوره الايجابي في مرحلة تاريخية ما، إلا أنه مع الوقت أضحى عاملا سلبيا مسيئا للواقع الثقافي وتطوره، طبعا التاريخ لا يتوقف عند رغبات البعض لذا بات من الضرورة إعادة تقييم واقعنا الثقافي بعقلانية.
بالطبع هناك مجموعة من المثقفين غير دارجة أسماؤهم للأسف الشديد بشكل بارز في ثقافتنا العربية. ربما نتيجة الواقع العربي وعلاقة المثقف مع سلطة تعدُّ عليه حتى أنفاسه. هناك مثقف مختلف نوعياً، وجوده نادر في مجتمعاتنا، يحدثنا عنه الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، انه “المثقف العضوي”، أي المرتبط، أو المنغمس بقضايا الجماهير التي كرّس نفسه لخدمتها، وليس بإطار حزبي ضيق يحدد متطلباته من مثقفيه. كان لطرح غرامشي فهم حزبي ضيق. المثقف كما طرحه غرامشي على استعداد لدخول السجون، النفي، المعتقلات ولن يتراجع عن إخلاصه لقضية الجماهير التي كرّس حياته بقناعة صلبة من أجل خدمتها. ما عدا فئة المثقفين التنويريين، الذين يحملون دماءهم على أكفهم لا نجد داخل ثقافتنا العربية التي عانت وما تزال تعاني نسبيا من حصار ثقافي، هنا وفي العالم العربي، إلا قلة من أمثالهم… واضح أن الكثير من المثقفين يضطرهم الزمن العربي الأسود للهجرة إلى الدول الغربية، حيث يمارسون نشاطهم الثقافي والفكري والنقدي بحرية لا تتوفر لهم في أوطانهم.
إن وضع الحريات للمثقف العربي في تراجع منذ عهد الطهطاوي في منتصف القرن التاسع عشر… وما أحدثته الثورات العربية القومية، لا أجد له انعكاساً اليوم على الساحة الثقافية. بل أجد اختلالاً بالموازين القديمة وتراجعاً شاملاً على المستوى التنويري. من المؤكد أن إلغاء الحريات السياسية في الدول العربية قد أضر بالحالة الثقافية، وخلق مثقفين سلطويين تركوا آثارهم السلبية على مسيرة الثقافة والتنوير العربي.
هل بالصدفة أن الثقافة العربية في المهجر أضحت في طليعة الثقافة العربية؟ وهل من ضرورة لنثبت أن مساحة الحرية والتعددية الثقافية والفكرية وحرية النشر هي القاعدة التي جعلت ثقافة المهجر منارة ثقافية راسخة نحلم أن تنعكس بكل ثرائها في واقعنا الثقافي؟
الأدب هو شكل من أشكال النشاط الجمالي والإبداعي للإنسان، والأهم أنه شكل من أشكال الوعي الاجتماعي للواقع الذي يعيشه الإنسان بكل امتداده، مُعبّرا عنه بالتخيل أو بالدمج بين الخيال والواقع. لا أدب خارج المجتمع البشري وخارج الواقع الاجتماعي. لا أدب دون مجتمع بشري يعي حقوقه ويجعل أدبه جزءا من نضاله التحرري، أو لخدمة قضية صادقة وإنسانية. ولا بد من التأكيد أن للأدب دورا جماليا، فكريا، تربويا، فلسفيا وسياسيا بالغ الأهمية في حياة المجتمعات البشرية وصيرورتها. لذلك تجاهل أسماء مبدعين لا يخدم تطوير ثقافتنا، بل يدخلنا في صراعات مختلفة لا تخدم ثقافتنا، بل تنظيمات نفعية وبعض الانتهازيين.