ثقافة العرب وثقافات الجوار
صرفت النخب العربية المثقفة القرن العشرين في انشداد نحو الغرب لا نجد مثيلا له إلا في انشداد النخب التركية والإيرانية، فالأمم الثلاث هذه، بمكوناتها الثقافية والقومية المختلفة، اشتركت في ما بينها بالانسحار بالغرب، مقابل الإعراض تماما عن مباشرة حوار ثقافي أو من أي نوع آخر في ما بينها. فقد بدت الأمم الشرقية معرِضة عن شرقيِّتها، متجاهلة قدرها الجغرافي، وهاربة من إرثها المشترك، وأحيانا منخلعة منه على نحو غريب. وهي في أعماقها السحيقة ولاوعيها الجمعي مريضة مرضا لا شفاء منه من جراء تخلفها الحضاري أمام الغرب.
وهكذا بدا الغرب بالنسبة إلى الأتراك والإيرانيين والعرب وغيرهم من الأمم الشرقية قبلة جديدة يلوذون بها من ألم الفوات الحضاري، وبحثا عن رقعة لهم قريبة من شمس العصر التي لاحت لهم غاربة عن شرقهم ومشرقة على الغرب. وهكذا عرفنا نمطين من الاتصال بين الشرق والغرب، رحلات غربية إلى شرق غريب عجيب يكشف فيها الغرب عن قوته وتقدمه الحضاري، ويريد لنفسه من جهة فسحة جغرافية أكبر يستكشف فيها قدرته على السيطرة والهيمنة والاستيلاء على مصادر الثروة، واكتساب الأسواق، وفي الوقت نفسه حيازة الآخر الشرقي من خلال الاتصال بأدبه وخرافاته وعوالمه التي رآها الغربي غرائبية ضاربة في الزمن القديم، في أساطير البدء وأساطير الخيال الغريب، وكذلك وجد في تلك العوالم ما يغذي استيهامات الغريزة، والتوق إلى إشباع نهم رومانسي وشبقية ولدتها توقعات المتفوق وخياله الجامح لتحقيق الاتصال بأيروسية سحرية وبدائية شبقة ما برحت تولد حنينا زائفا إلى روحانية بدائية تطهرية جاعت إليها الشخصية الغربية المنغمسة في تجليات القوة، وليمتحن من خلالها كذلك قوة تفوقه الحضاري، مقابل رحلات شرقية إلى غرب يستكشف فيه الشرقي ملامح من مدنية جديدة لا قبل له بها، وعوالم من التطور العلمي والأدبي والفني ومن ابتكارت في صور مدهشة سبقت خياله، فصدمته، وجعلته في مواجهة مع نفسه، يقف أمام مرآة الغرب ليكتشف فيها عجزه وتخلفه ودونيته وحاجته بالتالي إلى أن يأخذ عن الغرب فيتبعه، أو يعرض عنه فيتقهقر أكثر، ويغيب هو وعالمه عن لوحة الحضارة الإنسانية.
بدأ هذا في مطلع القرن التاسع عشر، على إثر الصدمة التي خلفتها حملة نابليون على مصر. وما كان من استجابة للتحدي الحضاري متمثلة ببعثات محمد علي باشا إلى إيطاليا 1813 وفرنسا 1813. ومذ ذاك، بل ومنذ ما قبل هذا التاريخ أيضا، وحتى مطالع القرن العشرين عرفنا شتى أنواع الرحلات العربية، وكذلك الشرقية إلى أوروبا. رحلات علمية ودبلوماسية وتجارية وسياحية. وكان الأتراك سباقين إلى مثل هذه البعثات، وجاء بعدهم العرب، ثم الإيرانيون. ودونت وقائع هذه الرحلات في يوميات سعيد باشا، وصادق باشا (تركيا)، أحمد الحجري- أفوقاي، الغساني الأندلسي، المكناسي، (المغرب)، الأمير فخرالدين المعني (لبنان)، رفاعة الطهطاوي (مصر) ناصرالدين شاه (إيران)، وغيرهم. وقد نجم عن هذا الاتصال ومواعيده المختلفة وكذلك أسبابه المتباينة تجديد لحركة ترجمة الأدب والفكر والوثائق وتسارعت أعمال نشر المخطوطات العربية، ولعب مستشرقون ومستعربون فرنسيون وإنكليز وألمان وروس وطليان أدوارا عظيمة في هذا السياق، وساهمت حركة تحقيق التراث العربي وترجمته ونشره في لايدن، وأمستردام، وبطرسبورغ، وباريس، وروما، وغيرها من مراكز العلم الأوروبية في تنشيط حركة الترجمة والتبادل الثقافي بين العرب والغرب.
***
بدأ عبور النخب العربية منذ نهايات القرن التاسع عشر، مع اشتداد أزمة الإمبراطورية العثمانية، وقلق مصر من أزماتها الاقتصادية في ظل تحولات اجتماعية وسياسية، وظهور حركات قومية ووطنية استقلالية على رقعة واسعة من بلاد الشام وحتى الحجاز ونجْد، ترافقت مع ظهور مسألة يهودية في فلسطين، وتداعيات لها في مدن عربية مجاورة. كل هذا وغيره، خلق حراكا فكريا ومناخات ثقافية انشغلت معها النخب الثقافية بجملة من القضايا الكبرى، ليس أقلها إصلاح اللغة العربية، وتأسيس الصحافة، وترجمة الأفكار الرائجة في الغرب، والبحث عن السبل الكفيلة لبناء الدولة الوطنية، وتأسيس سردية قطرية من جهة، وعربية تقوم على أساس من مقومات مشتركة لأمة، بدت للنخب العربية واحدة بشعوب متعددة، ما دامت تملك هوية ثقافية متحققة في النصوص والتاريخ ولها دين مشترك طبعت حضارة عظيمة ازدهرت ذات يوم، وبسطت نفوذها على مساحات هائلة من جغرافية العالم القديم.
وقد تطلب إحياء هذه القيم، ولا سيما البعد العربي، بحثا في المكونات والمقومات والإمكانات، ووعيا بطبيعة العصر، وصولا إلى تحقيق صورة معاصرة للهوية. كل هذا لم يمنع من ظهور الولع بالغرب وحضارته الحديثة، فقد غزت صناعاته وأفكاره العالم كله، على نحو مذهل ودخلت على حياة الناس في كل مكان فقلبتها رأسا على عقب. بات الغرب مثالا ومقياسا، وقبلة للشرقيين جميعا. وهكذا بدا العرب مسحورين به بوصفه المكان العالي الذي تلوى له الأعناق لتطاله الأبصار، فهو أرض كلّ ما هو عصري وخالب للب، وموئل لكل جديد، فهو متقدم وحديث وحداثي وحداثوي، وفي الجملة باهرٌ وعجيب.
***
هل يمكن الحديث عن الترجمة من دون التأمل في إرث وصيرورة وتأريخ متقلب من علاقات الثقافة العربية بالثقافات الأخرى، وعلاقات العرب بالأمم المجاورة والبعيدة؟
لعل الإجابة عن ذلك في التاريخ العربي القلِق وما ساده وتحكم به من حروب مع الغير، وصراعات اجتماعية وسياسية مدمرة، واستعمار أجنبي، وتخلف في النظم والإدارة، وهشاشة في بنية الدولة مقابل نماذج حكم شمولي وعلاقات أبوية طاغية تهمش النساء وتلغي الذوات، وتستعبد الجموع، في تاريخ كهذا كيف يمكن الحديث عن علاقات ثقافية منتجة، إن داخل النسيج أو خارجه مع الجوار الثقافي الشرقي والأوروبي.
في تاريخ كهذا نعثر، بالضرورة، على الجواب عن الفوضى السائدة اليوم في علاقة الثقافة العربية بذاتها، وعلاقتها بالثقافات الأخرى، ومن بين الآثار المدمرة لذلك: فوضى الترجمة وغياب المشروعات المؤسسة على خطط البصيرة التي تربط فعل الترجمة بحركة التطور الاجتماعي والثقافي العام وللدول والمجتمعات في تطلعاتها المستقبلية.
***
صرف العرب، وصرفت نخبهم المثقفة، مدنية وعسكرية، القرن العشرين بأكمله وهم في انشداد لا عاصم له نحو الغرب، في الوقت نفسه، ومن دون تفكير جدّي بحقائق الجغرافيا التي عادة ما تصنع الأقدار وتحدد مصائر الشعوب في علاقاتها التجاورية، عَبَرَ العربُ، في رحلة انشدادهم نحو الغرب، على جوارهم القريب، وأغفلوا الأسئلة الكبرى المتعلقة بامتدادهم الحضاري، وكذلك فعل جوارهم الثقافي (الأتراك والإيرانيون) فانقضى القرن العشرون بسنواته المئة المديدة من دون أن يمثل الجوار الثقافي والحضاري لهذه الأمم أي ذخيرة أو قوة يمكن أن تؤثر في وزنهم النوعي كأمم شرقية طالما كانت قادرة على استدخال عناصر التنوع في مكوناتهم الحضارية، فبدوا كما لو أنهم ليس في حسبانهم ما لثقافات الجوار؛ عربية وفارسية وتركية وهندية، من صلات قربى فاعلة ومؤثرة في ثقافة كل منهم عبر التاريخ، حتى لكأن المشترك الحضاري الضارب في القدم لم يعد له وجود.
***
وإذا كان قيام الدولة القطرية العربية قد تزامن مع قيام دولة إسرائيل، فإن السؤال الذي لا يمكن تجنب طرحه هو: هل كان هذا التزامن محض مصادفة ساخرة؟! وهل أن تقطّع أوصال العلاقات الثقافية العربية مع الجوار، والبلى الذي أصاب النسيج المشترك بين الشرقيين لصالح العلاقة المريضة لكل من العرب والأتراك والفرس بالغرب هو محض مصادفة أيضا، أم أنه صورة من صورة الضرورات التاريخية الحمقاء؟
لندن في مطلع آب/ أغسطس 2018