جاذبية الصفر
لا بد أنك ما زلتَ تتذكر جملة “طاهر” التي كان يكررها في كل نقاش يدور بيننا: “الشعوب حديثة التكوين هي السعيدة فقط” وإذا ألححتَ عليه كي يعطيك سبباً فإنه سيكرر هذه الجملة دائماً: “لأنها بلا ذاكرة”.
لعلك تذكر ذلك اللقاء الذي جمعنا في بيت الدكتورة “عالية”.
كان شهر آب قد غادرنا للتو، وخلاله عاشت لندن أسخن شهر عرفته منذ عقود، ومع الرطوبة العالية الملازمة كنتَ تشعر وكأنك في بغداد. وبالطبع بغداد من دون نخيلها ومن دون أناشيدها الوطنية وقرارات حاكمها المخيفة.
كانت المرة الأولى بالنسبة إليّ أن ألتقي بهذا العدد من أبناء البلد بعد انقطاع طويل عنهم. تستحضر ذاكرتي عينيك اللتين كانتا تستكشفان من خلال التحديق في وجهي درجة ارتباكي وأنا أسعى جاهداً لمتابعة خيوط الأحاديث المتقاطعة والمتلاقية هنا وهناك، الأصوات الصاخبة، الضحكات المتفجرة المختلطة بنوبات البكاء القصيرة.
عليّ أن أعترف الآن بأن الفضل في مكوثي حتى نهاية الأمسية هو ذلك التواصل الذي ظل قائماً بيننا، وكانت تلك الابتسامة التي ترتسم على شفتيك من وقت إلى آخر وأنت تبادلني النظرات أفيوناً يبقيني لاصقاً بكرسيي بدلاً من ترديد: “أعتذر، عليّ أن أذهب الآن”. ولا أستبعد أن يتفهم الجميع انسحابي، فبيتي يقع في ضواحي لندن القصية، والقطار الذي أحتاج إليه في رحلة العودة يتوقف عن الخدمة الساعة العاشرة مساءً.
وكم ستتغير مساراتنا الحياتية لو أنني أطعتُ صوتي الداخلي بالمغادرة، أو ربما بشكل أدق ذلك الصوت الذي استولى على الأصوات الأخرى وجعلني أعيش حياتي وكأني أحتسي الشاي بملعقة صغيرة. حياة محكومة بنظام دقيق ما بين الجامعة التي أدرّس فيها والبيت والسفرات العائلية المخطَّط لها مسبقاً، مرة كل سنة، إلى بلد مشمس، ومتابعة تقدم “سوزان” و”منى” في الدراسة. وكم ساعدت “لورا” في تحويل حياتي السابقة إلى ساعة مضبوطة، لا مفاجآت فيها أو عوائق أو منغصات، كذلك سمحت خبرتها كمحاسبة محترفة لنا باستثمار قسط من دخلنا الشهري، فتمكنا بفضل مبادرتها تلك من الإيفاء بقرض بيتنا العقاري، وقرض شقة صغيرة في وسط لندن، وبالطبع يجب عدم تجاهل ما ورثته “لورا” من عمتها المتوفاة، وهذا ما ساعدنا على إرسال ابنتينا إلى مدرسة خاصة لا يدخلها إلا أبناء علية القوم لأجورها الخيالية.
أستطيع الآن وبعد مرور سنوات عديدة على ذلك اللقاء، إدراك مغزاه: حين أغمض عينيّ أراه على هيئة خط فاصل؛ أو بصيغة أدق هوة فاصلة. فكأني عبرتها دون أن أنتبه إليها بفضل الجسر الرابط بين الضفتين، لكني حين أردتُ الرجوع إلى عالمي الأول، اختفى الجسر وبقيت الهوة العميقة.
***
أستحضر غرفة الضيوف الواسعة في بيت الدكتورة “عالية”، ولعلّ أكثر ما علق في ذاكرتي منها بهاؤها الذي عكسته جدرانها المطلية حديثاً باللون التبني، ولا بد أن انفتاح البابين الزجاجيين المجاورين على الحديقة الخلفية سمح لضوء النهار بالتغلغل دون قيود في الغرفة، في وقت منحت أزهار الأقحوان القرمزية الموزعة على قماش الستارتين الملفوفتين عند حافتي البابين الزجاجيين رونقاً إضافياً، كذلك لعب لون ذلك القماش الأزرق الفاتح دوراً في خلق آصرة بالخارج، فشريط السماء الأزرق (الذي يكون في الغالب رمادياً مائلاً إلى اللون البني في لندن) أضفى على المكان ألفة إضافية في نفسي جعلتني أشعر وكأني زرته كثيراً رغم أنها المرة الأولى الذي تطأه قدماي.
أسرت عينيّ لوحة بورتريه معلقة على الجدار الأيسر الجانبي. كانت أمامي فتاة تكشف ملامحها أنها في العشرين من عمرها أو أكثر قليلاً: وجنتان نافرتان بالغ الرسام في احمرارهما فجعلهما نصفي تفاحة شهيتين، لكنه في الوقت نفسه، عكس عينين لوزيتين ضاحكتين تحملان في طياتهما عنصرين متعاكسين: دهاء يخاف الرجال منه وجرأة تغريهم إليها، ولعل إمالة الرأس قليلاً إلى اليمين وزوغان العينين قليلا إلى اليسار، صوب الناظر، تهدفان إلى تقليد خفي لحركة رأس “موناليزا” الخالدة. وكأن شعوراً ما مسّ مضيفتي فدفعها لوضع أصابع يدها اليمنى على زندي الأيسر، وحينما التفتُّ إليها كان هناك أسى خفيف تسرب إلى قسمات وجهها فعمّق الأخاديد على جبينها قليلاً: “ليت الشباب يعود يوماً”، قالت الدكتورة “عالية” متحسرة قليلاً: “إنها من أيام بغداد قبل الثورة”.
كان عليّ أن أضيف عاملاً آخر ساهم في خلق تلك الألفة: وأنا أقرع جرس البيت خامرني شعور بأن ضيفتها الشابة ستفتح الباب. وأنت تعرف من أقصد! أو أحد زوارها، لكني فوجئت بالدكتورة “عالية” أمامي. وكم جعلني مظهرها أشك بأن عشرين سنة قد عبرت منذ آخر لقاء جمعنا في مظاهرة ضد الحرب في فيتنام. وكأنها تلمّست شعوري بالحرج بسبب هذا الانقطاع الطويل غير المبرر له، فبادرت بعد تبادل التحية معي مستفسرة: “أرجو ألا تكون قد أضعتَ طريقك إلى البيت…”، لمحتُ عينيها تزوغان إلى كتاب خرائط لندن الشهير، “أيه تو زت” الذي كان بين يديّ، قلت هازئاً: “ما دام هذا الدليل معي فلن أضيع أبداً”. ضحكت بطلاقة. أضافت، بنبرة مرحة، وهي تقودني في المدخل المعتم: “وصلتَ على الموعد بالضبط… لا بد أنك أصبحت إنجليزياً قحّاً”. وقبل أن تستدير يساراً لتدخل غرفة الجلوس، تداركت جملتها: “ومعك باقة جميلة! أنا أحب أزهار عبّاد الشمس كثيراً…”. وصلتني في تلك اللحظة من فوهة الدرج المجاور للمدخل، والموصل إلى الطابق الأعلى سعلات واهية متقطعة، وكدت أسألها عن صحة “عمو” لكني تراجعت خوفاً من أن تعتبره نوعاً من التطفل، خصوصاً، وأن فجوة زمنية شاسعة تفصلنا عن بعض قبل هذا اللقاء.
قبل الجلوس على الكنبة جاءني سؤالها ليوقظ في نفسي قلقاً بقيتُ حريصاً على تجاهله:
– “عندك أخبار جديدة؟”، طفح على عينيها خوف وفضول كأنهما كانتا تنتظران مني تطميناً ما.
– “غورباتشوف سيلتقي بوش في هلسنكي بعد أسبوع”.
– “وماذا تظن أنه سيفعل أكثر من البصم عما يريده الأميركان؟”.
– “أتمنى أن يعي صدّام المخاطر وينسحب”.
– “لن يقوم بذلك أبداً. لا بد أنه فرحان جداً الآن وهو يشاهد صوره تملأ أبرز صحف الغرب، والكل يتحدث عنه”.
قلتُ منعاً لتعكير الجو وإبقائه رائقاً: “المشكلة أن المذيعين هنا يبدلون الصاد بحرف السين، ويعجزون عن لفظ الشَّدّة فوق حرف الدال، فيصبح اسمه على ألسنتهم: “سَدَم”. هم يلفظونه بشكل مشابه تماماً عندما يلفظون كلمة “سدوم”، المدينة التي غضب الرب عليها فأحرقها بالكبريت.
لكني حققتُ عكس ما تمنيته، إذ جمدت الابتسامة على عينيها، وانزمّت شفتاها بقوة، بينما تثبَّتَ بصرها صوبي لحظات، وحال انتباهها لما هي فيه هزت رأسها. وكأنها في حركتها كانت تنفي إمكانية تحقق ذلك الكابوس الذي حرّضت كلماتي الخرقاء على تشكله. رددت بصوت خافت مخاطبة نفسها: “الله يستر”.
***
أصبح تحت أيدينا اليوم فيض من أسماء أسطورية تمكننا من إعادة إنتاج ما حدث ثانية لكن بنسخة أخف دماً وقابلة للقص: قد أكتب “بوش – 1” بدلا من “جورج بوش”، جنباً إلى جنب مع مقاتلات “أف – 16” وقاذفات “بي – 52 ” (التي تصنع بقنابلها سجاداً واسعا من الأرض المحروقة)، وصواريخ “توماهاوك – 109″، وهليكوبترات “أباتشي – 64″، وقاذفات “نايتْهاوك – 117″ الشبحية. و”الحُمر” و”الخُضر”.
هل علي أنّ أكتفي باللقب “سَدَم” أم أمنحه رقماً إضافياً: “سَدَم-1″؟
لحسن الحظ، كنتَ أول الواصلين إلى بيت الدكتورة “عالية”. كأنك أنقذتنا معاً من حرج انقطاع خيط التواصل بيننا، أذكر أنها سألتني قبل قدومك عن حياتي العائلية: ما عمل زوجتي، وما اسمها، وكم طفلاً أنجبتُ، وأين نسكن… وأظنها شعرت في لحظة ما بارتباك لأني لم أقابلها بأسئلة تجعل من حوارنا لعبة شبيهة بكرة الطاولة. أذكر أنك أخبرتني من قبل عن موقعها المهني الرفيع آنذاك: كانت طبيبة استشارية في مستشفى لندني كبير نسيتَ أن تذكر اسمه لي.
وكأن أيّ جلسة تحتاج، على الأقل، إلى ثلاثة أشخاص لكي يصبح الحديث عاماً، ويتحرر المرء من توجيه كلامه إلى شخص محدد. الآخران يصبحان جمهوراً: كتلة واحدة، فأنت تكون في هذا الطرف مرة وفي الطرف الثاني مرة أخرى. تارة مستمعاً وتارة متحدثاً، أو قد تكون مستمعاً فقط، وتكتفي بهز رأسك تعبيراً عن موافقة ما يقول الآخر، حتى لو كان ذهنك في مكان ما خارج الغرفة.
وأنتما تتبادلان الحديث تشكل في نفسي انطباع بتقاربكما الفكري. كلاكما عبّر عن أسفه الشديد لانهيار المعسكر الاشتراكي. وكلاكما كان متشائماً من مستقبل الاتحاد السوفياتي. أسمعك تردد بعد إمرار أصابع يدك اليمنى فوق خصلات شعرك المصففة بعناية تجنباً لانكشاف صلعة مخفية تحتها:
– “ألمانيا الغربية ستبتلع ألمانيا الديمقراطية في الشهر المقبل”.
– “هذا ما جلبه ‘غلازْنوسْت’ * ‘غورباتشوف’ سيئ الصيت من خراب”.
– “يبدو أن جواسيس الرأسمالية وصلوا إلى أعلى مناصب الكرملين”.
– “هذه مجرد كبوة. حركة التاريخ لا تسير إلى الوراء، رغم كل شيء”.
– “كيف صحة ‘عمو’؟”.
– “هو مكتئب جداً لما يجري. منذ انهيار جدار برلين وهو يعاني من ارتفاع ضغط الدم”.
– “عمّو كرس كل حياته للنضال”.
– “هو يشعر أن كل الرفاق في العالم مسؤولون عن الهزيمة، وهو أولهم”.
– “عمو قديس من عصر آخر”.
قُرع جرس الباب ثلاث مرات بأصابع ملحاحة مرتبكة، فانفرجت أساريركما. كأن قدوم ضيوف آخرين أخرجكما من دوامة لا نهاية لها.
___________________________________________________
*غلاسْنوسْت: مصطلح استخدم للتعبير عن سياسة الانفتاح والشفافية التي بدأها غورباتشوف في أواسط الثمانينات من القرن الماضي.
ولم تكن تلك الضربات، كما أتذكر، إلا بفضل أصابع توأمَي طاهر المتنافسَين على مَن هو الأسرع في جعل الباب ينفتح.
***
اكتمل الشمل، أو هكذا ظننتُ. ولا بد أنك تتذكر أين توزع الضيوف على مقاعد الغرفة: “طاهر” احتل الكرسي ذا الذراعين وإلى يساره جلست زوجته “مريم” على كنبة عريضة محاذية للجدار، تفصلها مسافة واضحة عن “ماهر” الذي ظل طوال الأمسية ملتصقاً بأقصى حافتها، تتكئ ذراعه اليسرى من وقت إلى آخر على ذراع الكنبة، ثم تنتقل لتستقر في حضنه حيث تتشابك أصابع يديه بعضها ببعض. في البدء أضجعت “مريم” ابنتها الصغرى النائمة على الفسحة القائمة بينها وبين ماهر، لكن الدكتورة “عالية” نهضت صوبها حال استقرار الكل على مقاعدهم: “احملي عروسك، ‘زينة’، حتى نأخذها إلى غرفة ترتاح فيها، حرام تنام في هذا المكان”، قالت المضيفة بنبرة أمومية حازمة.
على الكنبة المقابلة احتل أبو “طاهر” أقصى يسار الكنبة الوثيرة، بينما اختارت والدته أقصى يمينها، مفضلةً راحة ذراعها وظهرها وهما يستندان إلى حافة الكنبة الجلدية.
من اللحظة الأولى بدا لي ذلك الجفاء القائم بين “طاهر” وأبيه، فالأخير كان يتجنب تدوير رأسه قليلا إلى اليسار كي لا تقع عيناه على عيني ابنه، كذلك كان جسده مائلا بزاوية 45 درجة تجنبا لأيّ تماس ممكن بين جسديهما. ولعل هذا النفور حفز صديقك على الانتقال من كرسيه إلى الكنبة التي تحتلها زوجته و”ماهر” ليجلس بينهما. مع ذلك ظلت الابتسامة طافحة على وجهه، بينما ظل وجه والده متجهما قليلاً كلما صادف أن وقعت عيناه على عيني “طاهر”، وكأنهما كانا يؤديان تمارين لعرض مسرحي سيقدمانه في تلك الجلسة الفريدة من نوعها.
قال “طاهر” وهو يتابع انشغال الدكتورة “عالية” مع أطفاله الذكور شديدي الحيوية: “أعتذر دكتورة على إزعاجهم”.
– “لا أبداً، أنا أستمتع كثيراً بحضور الأطفال”، أجابت المضيفة بنبرة محتفية بالضيوف، “في كوخ الحديقة ألعاب كثيرة ستشغلهم”.
– “أنتِ تعرفين أن الشعوب المنكوبة بالحروب تنجب أطفالاً كثاراً خلالها”، ردد “طاهر” بنبرة جادة، فأثارت فينا جميعاً رغبة بالضحك.
– “وأنتَ ما علاقتك بالحرب؟” قالت الدكتورة “عالية” ضاحكة، “أنت تسكن على بعد آلاف الأميال عن العراق”.
– “صحيح، ولكن هذه مسألة غريزية محض دكتورة… هل تعرفين أن بكرنا ‘أمل’ ولِدت قبل الحرب مع إيران بشهرين، وكنا أنا و’مريم’، عازمَين على إنجاب أخ واحد لها فقط… وأنظري الآن إلى حالتنا”.
هل تذكر كيف اصطبغ وجه زوجته بالحمرة؟ وهل انتبهتَ إلى تبادل النظرات بينها وبين “ماهر”، كأنها كانت تقول له بعينيها: “انظر كيف يحرجني أمام الآخرين”.
لكن “طاهر” لم يتوقف عند تلك النقطة وينتقل إلى موضوع آخر، فكأن تلك الفكرة التي حضرت حفزت ذاكرته على استرجاع تفاصيل أخرى.
– “أخبرني “ماهر” عن الأرانب، كيف أنها تتكاثر بمعدلات خيالية، كل شهر تستطيع الأنثى أن تنجب ما بين 4 إلى 14 وليداً، والسبب وراء ذلك هو أنها طعام لعدد كبير من الضواري بمن فيهم الإنسان والطيور الجارحة، لذلك فهي تتكاثر بشكل كبير إرضاءً لمفترسيها”.
التفت “طاهر” صوب “ماهر” مستفسراً: “نسيتُ كم يخلِّف زوجان من الأرانب خلال سبع سنوات”.
لكن الآخر التزم الصمت قليلاً، وعلى وجهه برز احمرار قليل: “وأنا لا أتذكر أيضاً”.
قالت “مريم” غاضبة: “تريد أن تشبِّهني بالأرانب”.
***
جاء سؤال أبو “طاهر” ليغير مجرى الحديث: “أين المحروسة ‘هاجِر’؟”.
أجابت الدكتورة “عالية” بعد لحظة صمت: “ذهبت إلى شارع اكسفورد لشراء بعض الهدايا…. أتوقع وصولها في أي لحظة”.
تساءلت أم “طاهر” بنبرة مستغربة: “يعني هي ما زالت مصممة على السفر معنا غداً؟”.
نعم، قالت المضيفة، “أكدت أنها ستسافر معكما، وأمس ثبّتت الحجز على التلفون”.
قلتُ وأنا أتطلع في بروفيلَي وجهها ووجه زوجها: “ليش ما تبقون فترة أطول حتى تنجلي الأمور….أظن عمي أبو ‘طاهر’ متقاعد”.
استبقت أم “طاهر” زوجها في الكلام: “نعم هو متقاعد، ولكننا اشتقنا لأولادنا وأحفادنا في بغداد…”، أضافت بعد لحظات من الصمت: “شهرين في لندن، كافي. تخلصنا من حرّ بغداد، والتقينا بطاهر و”مريم” والاولاد، الله يحفظهم”.
قال أبو “طاهر”: “لا تخافوا، الحرب لن تحدث أبداً”.
قال “ماهر”: “عمي، الجسر الجوي بين أميركا والسعودية ما توقف لحظة من دخول الجيش في الكويت… جنود وطائرات وأسلحة ثقيلة..”.
قال أبو “طاهر”: “الحلم الذي رأيته أقنعني: الحرب لن تقع..”.
لا بد أنك تذكر كيف دارت الرؤوس صوب بعضها البعض، وهي تتابع باندهاش سرده لتفاصيل الحلم ثم تأويله ببرود للحاضرين. ولا أستبعد أن يكون السبب وراء لامبالاة والد “طاهر” هو انقطاعه الكامل عن الأخبار، فعند قدومه في منتصف تموز كان كل شيء على ما يرام، ولم يكن أيّ من سكان الأرض يعرف ما سيحدث بعد أسبوعين فقط في الكويت.
سألته الدكتورة “عالية”، تحت سطوة ذهول أصابها من ثقة ضيفها المطلقة جعل فمها مفتوحاً ويديها تحيطان خدّيها: “ممكن تحكي لنا إياه؟”.
***
منذ اكتساح الجيش العراقي للكويت لم يحدث شيء أكثر إثارة منه، وكم أصبح ذلك الحدث أهم خبر للصحف ومحطات التلفزيون والراديو. كانت أعيننا تتابع مأخوذةً استعراضات القوة على جبهتين: صفوف الدبابات والصواريخ العراقية تمر من أمام منصة “سَدَم” بحركة بطيئة مهيبة تقابلها طائرات النقل العملاقة وهي تهبط في مطار الظهران، محملة بالجنود الأميركان. كانت ملامحهم توحي بأنهم جاؤوا لقضاء عطلة الصيف في أتون الصحراء، فملابسهم “الكاجوال” وابتساماتهم العريضة واللبان الذي يمضغه بعضهم لا توحي بقدومهم لخوض حرب ما. ولم تبدُ تلك الصناديق المعدنية الهابطة معهم حاوية شيئا أكثر من مواد مكملة للإقامة: مراهم لحماية الوجه من لفح الشمس الحارق، شوكولاتة، علب بيرة، مكيفات هواء، أطعمة، أدوية، ولا أستبعد وجود هراوات وكرات لعبة البيسبول فيها.
لعلك تذكر خطاب “بوش – 1” القصير على شاشة التلفزيون. أظن أننا شاهدناه معاً على “قناة 4″، بعد أقل من أسبوع على احتلال الكويت، وفيه أعلن عن وصول عناصر من” الفرقة المجوقلة 82″ ووحدات أساسية من القوة الجوية الأميركية إلى السعودية.
أسعار النفط تقفز إلى أعلى، مؤشرات البورصة تهبط سريعاً.
سفن حربية تتحرك صوب الخليج.
كانت المشاهد التي تضخها قنوات التلفزيون والراديو دون توقف أشبه بأفيون متسرب في أوردة المتلقي دون هوادة لتجعله في حالة تنويم مغناطيسي مزمن.
تحضرني صور أولئك المدنيين الذين أصبحوا رهائن وضيوفاً معاً في كنف السلطات العراقية. لا بد أنك تذكر ذلك المشهد الهزلي حين زار “سَدَم” عدداً منهم، ليطمئنهم بأن هدف احتجازهم هو لدرء الحرب، لا لزرعهم دروعاً واقية للأهداف الحيوية، وأن الإعلام الغربي وقع في خطأ عندما ترجم كلمة “دَرْء” إلى “دِرْع”. ولم يفته أن يسأل أحد الرهائن، الطفل المرعوب ستيوارت لوكْوود (رغم تمسيده المتكرر لشعره) إن كان يشرب الحليب بانتظام.
***
“شاهدتُ نفسي في حقل مزروع بالشعير”، قال أبو “طاهر” وهو يتطلع في وجه الدكتورة “عالية”، “كانت السنابل جافة ومملوءة بالحَبّ، فانحنت سيقانها، والفصل كان صيفاً، لأني كنت أرتدي قميصاً أبيض بنصف كمّ”.
مضى يدير الملعقة بتأنٍ في كوب الشاي الأسود، بينما ظلت أعيننا تتقلب ما بين شفتيه الرفيعتين وعينيه المستكينتين. فجأة أشرقت ابتسامة خفيفة فعمقت الغضون على جبهته وخديه الضامرين، “لا أتذكر كيف اندلعت النار خلفي. كانت تتقدم نحوي بسرعة عجيبة. ولا بدّ أنني تشاهَدتُ في تلك اللحظة، ورفعت رأسي لرب العباد مستسلماً، فإذا بالسماء تسوَدّ بالغيوم، ثم ترعد وتبرق، ويهبط مطر غزير لم أرَ مثله في حياتي. التفتُّ خلفي، كانت النار منطفئة، والأغرب من كل ذلك، لم يبق أي أثر للحريق في الحقل”.
أتذكّر أننا تبادلنا نظرات خاطفة، ونحن نستمع إلى أبو “طاهر”، لكنك كنت حريصاً على إقصاء تلك الابتسامة التي برزت على عينيك، خوفاً من إيلام المتحدث إن حسبها سخرية.
جاء صوت الدكتورة “عالية” بنبرة جادة وجافة في آن: “وما هو تفسيرك للحلم؟”.
“النار ترمز لما يحدث الآن. لكن المطر جاء وأطفأها. أنا متيقن أن الجيش سينسحب، والمشاكل بين أبناء العم ستنحل بالتفاهم…”. ثم أضاف بنبرة واثقة: “منذ وقوع المشكلة، وأنا أصلّي كل ليلة التراويح، وأدعو الله بأن يطفئ هذا الحريق، ويعيد القادة إلى جادة العقل..”.
قال “طاهر” موجهاً بصره صوب المضيفة: “أنا عندي تفسير آخر”، فاستدارت رقابنا صوبه بفضول أكبر؛ “الماء له دلالة مهمة في أي حلم…” وكأن “ماهر” تكلم بالنيابة عنا جميعاً: “ما هو؟” أجاب “طاهر” بعد أن ارتشف جرعة كبيرة من كأس نبيذه: « الحلم باطل..”.
انفجر الحضور بالضحك، حتى أصابت الدكتورة “عالية” نوبة سعال حادة. أما أبو “طاهر” فقد علت وجهه حمرة، وطفح ارتباك فوق حدقتيه الصغيرتين. لكنكَ كنتَ الأقل تعبيراً عن مرحك، بل إن عينيك تسلطتا أكثر صوب “طاهر”، تنتقدانه ضمنياً على سخريته.
تداركت مضيفتنا الموقف، فوجهت حديثها لوالد “طاهر”: “اعذرنا… نحن ضحكنا لأن التعليق لا علاقة له بالسياق… ‘طاهر’ جوكرنا المفضل، من دونه لا تحلو الجلسات، فهو يستخرج ألطف ما في نفوس الحاضرين”.
لكن الابن العاقّ لم يكتف بمناكدة والده بما قال حتى تلك اللحظة، خصوصاً وأنه كان قد أنهى شرب زجاجة النبيذ التي جلبها معه، بينما الآخرون ما زالوا في كأسهم الأول. أذكر أنك نوهتَ لي بإيجاز خالٍ من اللوم الحاد، إهمال “طاهر” لوالديه، وكيف أنه ظل كل يوم يجد حجة للتهرب منهما، تاركاً إياهما مع الأطفال، بينما كانت زوجته مريم مواظبة على عملها في دار لكبار السن ولا تعود إلا مساءً.
ارتفع صوت “طاهر” طبقة عما كان عليه، وكأن النبيذ بدأ يتسلل إلى روحه: “هل تعرفون أن أبي كتب قصيدة هجاء ضدي؟”.
قالت الدكتورة “عالية”، غير مصدقة: “لو كنتُ مكانه لكتبتُ ديوان هجاء ضدك..”.
قالت الأم: “كل يوم يرجع بعد منتصف الليل وهو..”.
قال الأب: “والأصدقاء، أهمّ طبعاً من أهله… اليوم عندي موعد مع فلان، وغدا مع علان، وبعد غد مع فلتان…”، مسح أبو “طاهر” باطن يديه أحدهما بالآخر بقسمات مستسلمة للأمر الواقع، بينما ظلت عينا “طاهر” تتنقلان في وجوهنا كأنه كان يبحث عن صدى كلام والديه ضده. قال ضاحكاً: “تعرفون أن أبي شاعر كلاسيكي؟ هو ما زال في بداياته، ولكن هذه القصيدة التي وجدتُ قصاصتها في المطبخ، تعبِّر عن نقلة في أسلوبه… ويبدو أنه، لحسن الحظ، نساها على طاولة الطعام”.
بدا وجه الأب وكأنه طفل أُمسِك لحظة ارتكابه حماقة ما على يد أبيه، لكنه في أعماقه كان، على الأكثر، فرِحاً بعدم ضياع القصيدة، ووقوعها بيد الطرف المعنيّ: ابنه البكر “طاهر”. ازداد وجهه حمرة، وارتسمت على شفتيه ابتسامة واهية.
“ما رأيكَ لو أقرأ القصيدة؟” قال “طاهر” موجهاً سؤاله إلى والده، وحينما بقي الأخير صامتاً، أكمل جملته: “السكوت من الرضا… هل تحبون الاستماع إليها؟”.
قالت الدكتورة “عالية” بنبرة من نفد صبره: “كلنا آذان صاغية”.
مد صديقك يده في جيب سرواله الأيمن فأخرج، رزمة أوراق مُجعلَكة، لكنه أعادها إلى مكانها. أخرج من الجيب الأيسر مظروفاً أبيض مدعوكاً، بحافة مفتوحة دون انتظام، ولا بد أن والده وجد هذا الظرف المهمل على الطاولة قبل رميه في سلة المهملات فراح يسطِّر غضبه من ابنه عليه.
صاح “طاهر” وكأنه في ندوة شعرية: “الآن، سيداتي سادتي نستمع إلى قصيدة الشاعر العراقي الصاعد “عبدالرحيم الرُّقَيمي” يلقيها بالنيابة عنه..”.
وقبل أن يتفوه “طاهر” باسمه، قُرع الجرس مرتين بشكل متتالٍ إيقاعي. قالت الدكتورة “عالية”، وكأنها تسرنا بخبر مفرح: “آه، وصلت “هاجِر..”.
***
أذكر أنك حدثتني عن “هاجِر” من قبل؛ ربما حين التقينا آخر مرة في بار فندق “مونتاغيو” أو في مقهى “ديلانسي”. كان برفقتك “طاهر”، وكم بدوتما لحظة دخولكما الصالة كأنكما “دونكيشوت” ومرافقه “سانشو بانزا”، الأول على فرسه “روسيانتو”، والثاني على حماره. كان “سانشو بانزا” يبذل كل جهوده لبث السرور في نفس “دونكيشوت” بطُرَفِه التي تصب غالباً في دائرة السخرية من نفسه، وكأنما نجح أخيراً، حين انفرجت أسارير “دونكيشوت” للحظة قبل أن تكفهرّ ملامحه ثانية.
لم تترك “هاجِر” في نفسك انطباعاً حسناً، بل ربما سخطاً دفيناً، كشفته توصيفاتك لها. يحضرني الآن بعض منها: “عصابية”، “متهتكة”، “مزاجية”، “مستبدة”، “ناكرة جميل”، “انفعالية”، “شبه أمية”، “جاهلة سياسياً”، و”مشاغبة”… سألتك عما تعنيه بتعبير “ناكرة جميل”، فكان جوابك: “هي لا تظهر أي تقدير لخالتها على كل ما قدمته لها خلال رحلتها، حتى تذكرة السفر اشترتها لها”.
” من كلامك أفهم أنها ليست من جماعتكم”. قلتُ مستفسراً.
“لا يهمني إن كانت من جماعتنا أو لا… فأنا أكثر أصدقائي من خارج الحزب… أنت على سبيل المثال..”.
التفتُّ إلى مرافقك بحثاً عن رأي آخر بها. “أتفق تماماً مع “جليل”، لكنْ،” قال “طاهر”، وكأنه ابتلع آخر عبارته خوفاً من غضبك عليه، لكنه لم يستطع أن يقاومها فأضاف بنبرة خافتة، بينما كانت عيناه تراقبان ردود فعلك: “مع ذلك، فهي آسرة”. أظن أنني سألته بعد تقلص ضئيل لعينيك علامةً على عدم القبول: “شكلاً؟” “شكلاً ومضموناً”، همس “طاهر” بينما تجنب النظر إليك، ولا أستبعد أنه في أعماقه كان فرحاً أن تكون هناك امرأة قد زعزعت هدوءك بشكل ما، وكأنه حدس بوجود عاطفة عاصفة وراء نفورك الظاهري منها.
وكأن تلك النميمة التي تقاسمناها حول “هاجِر” قد خلقت لا إرادياً شوقاً للّقاء بها، ليس إلا من باب الفضول. ولعل صوراً عديدة تشكلت في ذهني لها قبل لقائي بها في تلك الأمسية الصاخبة، إحداها صورة امرأة سمراء بشفتين مائلتين إلى السواد، وشعر أسود قصير ورقبة طويلة وأنف روماني مصقول؛ وأخرى لامرأة نحيفة بعينين عسليتين واسعتين، وخدين ضامرين، بملامح ذكورية.
لا أذكر مَن منكما أخبرني عن سفر “هاجِر” ووالِدَي “طاهر” إلى بغداد في اليوم اللاحق لتلك الجلسة الصاخبة. وحين عرضتَ عليّ مشاركتهم، اعتذرتُ أول الأمر، لكنك أكدتَ بأن المضيفة ستهاتفني قريباً إن أحببتُ الحضور، وأنك ستعطيها رقم هاتف بيتي كي تدعوني. كان عليّ أن أعترف لك بأن شعوراً ملتبساً تنامى في أعماقي لهذه المصادفة: أن أتعرّف اليوم على امرأة “آسرة” كما وصفها “طاهر”، ثم تختفي إلى الأبد عن عينيّ في اليوم اللاحق.
لم تظهر “هاجِر” مباشرة في غرفة الاستقبال. قالت الدكتورة “عالية” معتذرة: “لا بدّ… راحت لحجرتها حتى تخلّي الهدايا بحقيبتها”.
قال والد “طاهر” مبتسماً: “إذن، هي فعلاً مسافرة معنا”.
قالت أم “طاهر” : “رَحْ يكون عندي أنيس على الطريق، والسفر معها ممتع كُلِّش”.
***
لا بد أن “طاهر” نسي ما كان موشكاً أن يفعله، قبل دخول “هاجِر” الغرفة. ولعل جلوسها أمامه بين والديه أربكه قليلاً. كنتَ جالساً في أقصى يسار الغرفة على كرسي بذراعين، وهذا ما جعلك قادرا على رؤية بروفيلها، أو أكثر قليلاً. إلى يمينك كان “ماهر” جالساً، ولم أرك منساباً معه في حديث ما، فكأن هناك حاجزاً غير مرئي بينكما. أما أنا، فلم يكن موقعي يسمح لي برؤيتها. كانت “مريم” تجلس في موقع شاقولي بالنسبة إلى ناظريّ. وكأن قدوم “هاجِر” حرض فيها رغبة بإظهار ما تتميز به عنها: نهداها المتهوران اللذان اندفعا بضراوة إلى أمام، مما وسَّع من فتحة الزيق الفاصل بينهما.
“حكى لي المتقاعد ‘جون’ أحد أصدقاء ‘الپَب’ الذي أرتادُه طُرْفة،” قال “طاهر”، ثم عاد فارتشف جرعة من كأسه، “في وقتها لم أضحك، لأني كنت أترجمها خلال سماعي إلى العربية، لكني اليوم حينما رددتها بالإنجليزية مع نفسي ضحكتُ من الأعماق عليها”.
قال الأب بنبرة ساخرة وصوت منخفض: “هذا كل ما تعلمته هنا من الإنجليز”، لكن ذلك لم يؤثر على اندفاع “طاهر”، بل ارتسمت ابتسامة رضا على وجهه.
“الپَب هو مثل مقهى المحلة عندنا. هناك يقدمون الشاي وهنا البيرة… وكلاهما يزدهر بفضل النميمة… أنا محظوظ أن يكون اسم ‘پَب’ المنطقة التي نسكن فيها: البجعة السوداء… سمعتُ أن هذا الاسم أطلِق عليه قبل اكتشاف البجع الأسود في أستراليا.
وكاد “طاهر” ينتقل إلى موضوع آخر، لولا ارتفاع صوت ناعم، مبحوح قليلاً، لكنه مرح وجريء: “احكِ لنا النكتة، شوقتني لسماعها”.
أسترجعُ الآن، كيف ارتفع رأسك من حالة العزلة العميقة التي تجيد تلبّسها، لتصوِّب على صاحبة الصوت المنغَّم، نظرة نارية، وكأنك كنتَ تريد من “طاهر” تجنب تكرار ما حكاه لك من قبل. أذكر أن عينيه مالتا صوبك كأنهما تستأذناك وترددان بحياء: “فرصة الإفلات فاتت. أنا وقعتُ في المطبّ!”.
” ذهب أرنب إلى قصّاب، وقال له: عندك جزر؟ أجابه القصّاب بالنفي. في اليوم الثاني جاءه ثانية: عندك جزر؟ لا، قال القصّاب، وإذا جئت مرة أخرى سأدق أذنيك على الجدار بالمسامير. فقال الأرنب: إذن عندك مسامير؟”.
ولا أعرف لماذا اعتبرت “مريم” أنها المقصودة بالنكتة حين صاحت محتدة بزوجها: “متى تكف عن هذيانك؟” وكأن دمعتين طفحتا على جفني عينيها قبل أن تلمسهما بمنديل ورقي خوفاً من انزياح الكحل الكثيف عنهما، لكن “طاهر”، ومن دون أن يلتفت إليها، ردد بنبرة متخاذلة مرحة: “نحن نعيش في بلد ديمقراطي ليبرالي… وحرية التعبير فيه مقدسة”.
تدخلت الدكتورة “عالية” ملطفة من المناخ المتوتر، حيث التفتت صوب “طاهر”، فرددت بنبرة مرحة: “إذا ذكرتَ كلمة أرنب مرة أخرى، أدق أذنيك بالمسامير على الجدار”.
قال “طاهر” مقلداً صوت طفل: “عندكِ مسامير؟”.
وأمام صمتنا، تخوفاً من انفجار “مريم” ثانية، جاء صوت “هاجِر” قاطعاً ومملوءاً بالمرح، وكأنها كانت تتحدث مع جمهور خفي: «”طاهر” أروع وأصدق إنسان التقيتُ به هنا في لندن… وسأفتقدك كثيراً..”.
قالت الدكتورة “عالية” موجهة حديثها هذه المرة لمريم: “أنا أحبكما كثيراً، أنتما تكملان أحدكما الآخر..”.
لست متأكداً، إذا كانت هناك نظرة خاطفة تبادلَتْها “مريم” مع “ماهر”، قبل أن تسبغ على المضيفة عبارات الشكر والتقدير.
قالت الدكتورة “عالية” لطاهر بنبرة تجمع الأمر والترجّي: “حان الآن وقت الاستماع إلى قصيدة أبوطاهر”.
***
لعلك نسيتَ تماماً ما تركته القصيدة من تأثير في الحاضرين، فباستثنائك، كان الكل مستمتعاً بالمناخ الذي خلقته قراءة الابن العاق لقصيدة أبيه الهجائية ضده، وأحياناً كانت “هاجِر” تطلب إعادة قراءة بيت ما منها تعبيراً عن الإعجاب به. أما “طاهر”، فبدا وكأنه ليس المعنيّ على الإطلاق برسالة القصيدة، أو أنه (وهذا هو الاحتمال الأقوى) اعتبر ذمّ بعض صفاته مديحاً، ومشاعر خيبة الأب منه إعجاباً خفياً به. بالمقابل، ترك الأخير انطباعاً في نفسي، أنه هو الآخر كان مستعذباً جلسة القراءة، فهو لم يقاطِع ابنه أثناء إلقائه، ومن موقعي كنتُ قادراً فقط على رؤية يديه المتشابكتين فوق حضنه، حيث راح إبهاماهما يدوران حول بعضهما البعض بطريقة غريبة.
قال “طاهر”، وكأنه يجيب عن تساؤل عبّر عنه صمت أبيه: “القصيدة بشكل عام جيدة… أجدتَ استعمال بحر الكامل. لكنك استعرتَ صورة شعرية بالكامل من شاعر كلاسيكي لا أتذكر اسمه”.
” ثم ماذا؟” قال والده معترفاً، “كل الشعراء يستعيرون من الشعراء الذين سبقوهم، بمن فيهم المتنبي”.
واصل الابن تعليقاته بنبرة تعليمية، زادت من مناخ المرح في الغرفة:
“هناك اختلال واضح في البيت الذي تبدأه بـ: من حانة إلى حانة..”.
” اختلال في رأسك” قال الأب، ففجّر نوبة ضحك عنيفة فينا، بل حتى أنتَ، انسلت إلى شفتيك ابتسامة خجول، تتعارض مع تلك السحنة الجادة الغاضبة على عينيك، “يجب أن تُقرَأ الألف المقصورة كفتحة يا فهيم، كي يستقر الوزن… الكثير من الشعراء القدامى قاموا بذلك في الماضي”.
هل تتذكر كيف صفق “طاهر”، تعبيراً عن إعجابه، وانفرجت أساريره حتى اختفت عيناه؟ وكيف نهض والده من مكانه وخطا صوب ابنه؟ ساد الصمت لحظة تحت وقْع المفاجأة، لكننا جميعاً، تنفسنا الصعداء، حين اكتفى بسحب الورقة من يد “طاهر”، وعاد إلى مقعده.
ولعلك تذكر، حين أعاد قراءة “القصيدة” تحت تحريض “هاجِر”: “قراءة “طاهر” كانت متخابثة، نريد أن نسمعها بصوت الشاعر..”.
كم بدا والد “طاهر”، أثناء قراءته، وكأنه تلميذ يُلقي أمام تلامذة المدرسة قصيدة في يوم رفْع العلم الأسبوعي، ولم يبق محفوظاً في ذاكرتي إلاّ هذه الأبيات، أو لعل بعض كلماتها تغيرت فيها مع مرور الوقت:
يا سادراً في الغيّ أكرِمْ من رعاك جئناك من بغداد نستهدي خطاك
قد قطَّعَ البين اللعين دروبنا لكنّ قلب الأم لا يُقصي سناك
وأنا اصطبرتُ على الفراق تجمّلاً متشوقاً في خلوتي كيما أراك
كم دمعةٍ نهنهتها بأناملي لا صورةً تزدان في رأسي سواك
قد كنتَ بهجة بيتنا ومنارنا نجماً يضيء ونحن نخطو في هداك
ماذا أصابك يا بنيَّ وأنت ترفل في النعيم وتزدري خيراً أتاك
من حانة إلى حانة تُمسي وتُصبح لا أبا لك مَن تكن ماذا دهاك
لكأنني من فرط يأسي لا أعي إن كنتَ حقا ابنيَ الرابي هناك
***
تلاشت الضحكات شيئاً فشيئاً، ليحل محلها صمت بين الحاضرين، وكأنهم استحضروا حقيقة أن تلك الليلة التي تجمعهم بزوار لندن هي الأخيرة. ومع قعقعة الأسلحة هناك، تنامى شعور مشترك بأن لقاءهم هذا هو الأخير، فكأن النافذة التي فُتحت على العالم الخارجي أخيراً أوشكت على الانغلاق، ها هي الرحلات الجوية بين العراق والعالم الخارجي تنقطع بعد أيام على الغزو، لذلك كان على “هاجِر” ووالدَي “طاهر أن يسافروا إلى عَمّان جواً ومن هناك إلى بغداد بالحافلة. تراءى لي كأنهم يسافرون من كوكب إلى آخر، من الزهرة إلى المريخ. الأول تحكمه ربة الخصب الإغريقية: “أفروديت”، والثاني إله الحرب: أرِس”.
لعلك تذكر، كيف كنا نتطلع إلى “طاهر” كي يُخرجنا من ذلك الوجوم الثقيل الذي هبط علينا دون سابق إنذار؛ وكأنه استشعر تخاطرياً حالنا، حاجتنا إلى حكمته وترهاته معاً؛ هزله وجدِّه، طفولته العصية على التلاشي، فراح يردد أغنية بغدادية ظهرت إلى الوجود قبل ولادته بسنوات. أذكر أنه قدم تعريفاً لها قبل أدائه: “هذه أغنية وجودية بكل معنى الكلمة… كأنها جزء من سِفْر الجامعة”.
لم يكتف “طاهر” بالغناء الشجي، بل راحت قمتا سبابتيه تقدحان إحداهما بالأخرى فتنطلق منهما طقطقات صاخبة متوافقة مع اللحن، وفي لحظة انتشاء غامر، نهض من الكنبة، ليترك جسده يختض وفق إيقاع الأغنية البطيئة. أذكر أنك و”ماهر” والدكتورة “عالية” انغمرتم في ترديد اللازمة وراء “طاهر”: “حُكْم الغرام ما يظل دوام” ليرتفع صوته على أثرها: “بعد الصفا لا بدّ جفا… وتصير أيامه ظلام”.
لم أكن قادراً من موقعي أن أرى ردود فعل والِدَي “طاهر”، لكني لمحتُ راحتَي والدته وهما تتلامسان بحركة منتظمة، لكأنها كانت تنفض لا شعورياً يديها من بكرها المفضَّل، ولا أستبعد أن الأب كان غارقاً في خجل غريزي وهو يراقب ابنه يرقص في حركات خرقاء مضحكة. ولعل ذلك ما دفع “هاجِر” الجالسة بجانبه إلى كسر ذلك الشعور العميق بالحرج الذي تلبَّسه، إلى النهوض والانغمار مع “طاهر” في حركات إيمائية باهرة، دائرةً حوله باستقامة جسدها وعلو رأسها، وحركة ذراعيها الأنيقة، بينما ظلت عالقة على شفتيها ابتسامة ساحرة مسلطة عليه. بالمقابل بدا صديقك بجسده المحنيّ، وطقطقات سبابتيه واهتزاز مؤخرته، وهو يدور مع حركة “هاجِر”، كأنه ملاكم موشك على السقوط تحت وطأة ضربات خصمه القاصمة.
***
لعلك تذكر جيداً تلك اللحظة التي مدت “هاجِر” رقبتها قليلاً وصوَّبت عينيها عليّ عبر المسافة الفاصلة بيننا: “هذا مقعد شاغر، لماذا تبقى بعيداً؟” رددتْ بنبرة زاجرة مازحة معاً، “لا تخف، لن أخطفك من زوجتك الشقراء”، ثم أشارت إلى الكرسي ذي الذراعين الذي تركه “طاهر” قبل ساعتين ولم يعد إليه.
بدت الأمتار الأربعة التي قطعتُها كأنها أميال، ولا بد أن احمراراً طفحَ على وجهي يتوافق مع وجيب قلبي المتصاعد، كأني تلميذ صغير أُمسِكَ وهو يغش في امتحان ما. كان الكل يراقبني بفضول، وعلى أعينهم مزيج من فضول وشيطنة طفولية، وهذا ينطبق على الجميع، حتى على والدة “طاهر” ووالده، اللذين تبادلا نظرات غامضة، مرحة، فكأنما أدركا بحدسهما أن لعبة طريفة على وشك أن تبدأ وأن طرفي اللعبة سيكونان قريبين من موقعيهما.
لا بد أن عينيَّ ظلتا تتنقلان بين وجوه الحاضرين متجنبة الثلاثي المغادر غداً مساء إلى عَمّان، والجالس على بعد ذراع مني، هل تذكر كيف تألقت عيناك، وأنت تخاطبني من دون كلمات: “هل تتفق معي الآن على كل الأوصاف التي نعتها بها؟” ولعلك اعتبرتَ هزة رأسي الخفيفة جواباً إيجابياً عن سؤالك.
ظل سؤال يتأرجح في رأسي ذهاباً وإياباً: كيف عرفت “هاجِر” بزواجي من امرأة إنجليزية؟ هل كان بفضل الخاتم في بنصري أم أن الدكتورة “عالية” أخبرتها عني بعد استفسارها عن الضيوف القادمين لهذه الأمسية؟
عاد “طاهر” يردد أغنيات مغرقة في القدم. ومع مشاركتكم في إنشاد كلماتها بحمية، كان شعوري بالحرج يتعمق، كلما حاولتُ استرجاع أي جملة منها دون جدوى، ولم تحضرني سوى صورة الراديو الكبير بأضوائه الحمراء والخضراء المنبثة من خلف لوح زجاجي، حيث يعلوه قماش ناعم تبنيّ اللون، في غرفة الجلوس ببيتنا البغدادي الذي بيع منذ سنوات. كانت أصوات “فرقة الإنشاد” تصدح بنفس الأغاني التي بقيتم جميعاً تتفننون بترديد لازماتها وراء المغني. أذكر الآن مطلع تلك الأغنية التي ظل “طاهر” يعيدها: “خدِّري الشاي، خدِّري، فيأتي سؤالكم عالياً: ‘عيني لمن أخدَّره’ ؟”.
وأنتم تنشدون تلك الأغاني الفولكلورية، لا أستبعد إصابتكم بشطح صوفي ما، حتى مع هزال كلماتها التي لو ترجمت إلى أي لغة لأثارت الضحك والاستغراب، لكنني أستطيع القول إن درجة “الشطح” مختلفة من واحد إلى آخر: كان “ماهر حريصاً على عدم فقدان أناقته الرسمية، فربطة عنقه ظلت محافظة على استقامتها جنباً إلى جنب مع سترته الزرقاء المكوية حديثاً، والتي أصر على البقاء مرتدياً إياها؛ وأنتَ كنتَ مندمجاً في الجو تماماً، وتعمقت قسمات الحزن على عينيك، كأنك كنت تستحضر حقيقة البقاء في المنفى طوال الحياة، ولم يبق من ذلك الوطن سوى حفنة أغانٍ وذكريات راحت تتلاشى يوماً بعد يوم؛ أما “مريم” فاغرورقت عيناها بالدمع، مما دفعها إلى الذهاب إلى الحمّام حال انتهاء فاصلة الغناء برفقة حقيبتها الكتفية. لعل الدكتورة “عالية” هي الوحيدة التي انتشت بالغناء من دون انفعال، كانت تنقطع عن الغناء معكم كلما فشلت ذاكرتها في استرجاع الكلمات، فتستعيض عن المساهمة بالتصفيق الخافت المتوافق مع اللحن، بينما كانت عيناها المبتسمتان تدوران على الضيوف للتأكد من استمتاعهم واندماجهم بالجو الحميم.
***
على عكسنا، كان الثلاثة القادمون من بغداد، صامتين طوال فاصلة الغناء، حيث ظلت أعينهم تراقب المشهد بفضول محايد، ولعلهم كانوا يتبادلون النظرات من وقت إلى آخر، تعبيراً خفياً عن استغرابهم مما كانوا يشاهدونه من حنين إلى وطن يسكن على كف عفريت. ارتفع صوت “هاجِر” بسخرية مبطنة: “كيف تتذكرون كلمات من العهد العثماني؟” قال “ماهر” ضاحكاً: “طاهر عنده دفتر أحمر مخصص للنكات وكلمات الأغاني”. صاح الآخر محتجاً: “برتقالي… أنت تريد تشويه سمعتي”. أذكر أنك قرّعتَه فلم تترك كلماتك في نفسه سوى ضحكة صاخبة: “أنت بدّلتَ جلدك تماماً منذ انهيار جدار برلين… من ستاليني للعظم إلى ريغاني للعظم”.
قال “طاهر” بعد تلاشي موجات الضحك التي أثارها تدخلك: “أنا انسان براغماتي.. أعطينا ‘لينين’ كل القرن العشرين لاختبار نظريته، لكنها، مع الأسف الشديد، لم تصمد حتى نهايته…”. قالت الدكتورة “عالية” بنبرة ساخرة محتدة: “حتى العام الماضي، كنا لا نتجرأ انتقاد جرائم ‘ستالين’ أمامك، خصوصا بعد شربك ثلاث زجاجات نبيذ… كنتَ دائما متفقاً مع ‘عمو’ في تقديسه له، وإذا عرف بتحولك الآن سترتفع عنده الكآبة وضغط الدم..”.
كسر “ماهر” مناخ الجدية الذي جعل أم “طاهر” تتثاءب، وأباه يمعن النظر في ساعته اليدوية: “هل سمعتم بمحاولة “طاهر” الاتصال هاتفيا بالرئيس الأمريكي؟”.
وكأن ماءً مثلجاً سُكب على رؤوس الحاضرين، أذكر أنك سألتَ مستغرباً بعد سيادة صمت قصير: “متى؟”.
قال “ماهر”: “قبل أسبوع”.
قالت الدكتورة “عالية”: “لا بد أنه أراد تهديده من مغبة شن حرب على العراق!”.
قالت “مريم”: “كان سكران تماماً، وفي ساعة متأخرة من الليل”.
قالت الدكتورة “عالية”: “أخبِرْنا عما دار بينكما من حديث”.
قالت “مريم”: “على الأكثر هو تكلم مع عاملة البدالة… سمعته يصرخ بها حتى تُحوِّلَه إلى الرئيس..”.
قال “ماهر”: “التلفون أُغلِق في وجهه… عاملة البدالة طلبت اسمه وعنوانه”.
قالت “هاجِر” ضاحكة: “المهم، ماذا كنت تريد قوله للرئيس الأمريكي؟”.
قال “طاهر”: “لا أتذكر، لا بد أني تجاوزت حدّي قليلاً في الشرب…على الأكثر كنت أريد منه أن يتعجّل الحرب، فصدّام لن ينسحب من الكويت من دون عصا غليظة”.
قالت الدكتورة “عالية” ساخرة: “سبحان مغير الأحوال: من موسكو إلى واشنطن على طُول..”.
***
قالت “هاجِر” ساخرة بعد انتهائنا من ترديد أغانٍ تراثية أخرى: “كان يجب أن تكونوا معنا خلال سنوات الحرب الثماني، لتحفظوا الأناشيد العسكرية الجديدة”. أضافت بعد كرعها جرعة صغيرة من نبيذ كأسها: “لو سمعكم الناس وأنتم ترددون هذه الأغاني الممسوحة من ذاكرتهم لظنوكم من أهل الكهف… كان عليكم أن تنسوا العراق وتندمجوا في بلدكم الجديد تماما…” أضافت وهي تتطلع في وجهي الذي يكاد يمس حافة شعرها البني المكزبر: “أنت الوحيد الذي خرجتَ من هذه الشرنقة بزواجك من إنجليزية، وابتعادك عن مشاكلنا التي لا تنتهي… أهنئك من قلبي”.
قال “طاهر” ضاحكا: “الفرق بيني وبين الدكتور “يوسف” هو أني أعيش الماضي مع زوجتي ولا مكان للحاضر في حياتنا، في حين أنه يعيش الحاضر ولا مكان للماضي في حياته”.
قالت “هاجِر”: “ما جدوى الماضي؟ أنتم بحاجة إلى طبيب نفساني يحرركم منه. الحنين لزمن نسيه أبناؤه الأحياء واختفت آثاره.. الصدمات اليومية حررتهم منه وربما أنتم بحاجة إلى صدمات مشابهة..”.
قال “ماهر”: “تقصدين صدمات كهربائية؟”.
قالت “هاجِر” بعد دقيقة صمت عميقة ظهر خلالها غضن طويل وسط جبهتها: “لو كنت مكانكم أطلب الصدمات الكهربائية إذا كانت مجدية”.
أطلق “طاهر” نفس حكمته التي كان يرددها كلما جرّنا النقاش إلى العراق، وأراد إنهاءه بشكل سلميّ: “الشعوب حديثة التكوين هي السعيدة فقط..”.