جاذبية الفضاء الجديد في سرديات الهجرة
لا يمكن الحديث عن سرديات الهجرة دون تخصيص الحديث المستفيض عن أهمية الفضاء المهجري الذي يعتبر مسرحاً لأحداثها ووقائعها، ذلك أن الفضاء في نظير هذه الروايات هو الذي يمنحها نوعا من الجاذبية والغواية والإغراء، كما يمَكِّنُها من امتداد أحداثها ووقائعها على المستوى الزمني، بينما يعطي فرصة ظهور الشخصيات على مسرح ذلك الفضاء، في علاقته وطيدة ومتكاملة ومتزامنة بكل من الفضاء والزمن وباقي الشخصيات الأخرى.
في هذا المضمار، سبق للناقد الفرنسي هنري ميتران أن أشار إلى أنه «لن يقوم وجود لأيّ دراما، في معناها الأرسطي، أو يقوم وجود لأيّ حدث، ما لم تلتق شخصية بأخرى، في بداية القصة، وفي مكان يوحي باستحالة (L’impossibilité) مثل ذلك اللقاء» (Henri Mitterand : “le discours du roman”, P.U.F. Paris, 1980, p : 201). كما أنه من وظائف الفضاء الروائي أن يتحدث عن البطل ويترجم سلوكه، ومن ثم، «فالمكان، في الرواية، إنما يكون بحسب ملاءمته للحدث القادم. فهو، لذلك، مكان ناطق» (شارل كريفل: “المكان في النص”، ضمن كتاب: “الفضاء الروائي”، ترجمة عبد الرحيم حزل، منشورات أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2002، ص 81).
من هنا نفترض أن سرديات الهجرة هي، في العمق، سيرة تلك الشخصيات المهاجرة، القادمة من المكان الأم، والوافدة على فضاء غريب، على اختلاف تنوعه وتشعبه وتعقده، من هنا نفترض أن هذه السرديات بالذات هي، بالأساس، وليدة سلطة وغواية وسحر فضاء المدن الجديدة بامتياز.
1- جاذبية وسحر المدينة الغربية في سرديات المهجر
دُمِغت كثيرٌ من أسماء الكتاب بفضاءاتِ هذه المدن التي هاجروا إليها، ولم يستطيعوا أن يتخلصوا من تأثير تلك الأمكنة الجديدة عليهم، حتى بعد عودتهم إلى الفضاء الأم؛ فكان صدى هذا التأثير واضحاً فيما كتبوه، سواء في كتاباتهم التي تتخذ طابع الرحلة، أو المذكرات، أو اليوميات، أو تلك التي تنحو منحى تخييليا، حين يغلب عليها الجانب التخيلي (الروائي) على الجانب الواقعي.
ويكفي أن نذكر، على سبيل التمثيل لا الحصر، الروايات التي ارتقت بالفضاء الباريسي إلى مستوى التوهج الروائي، من قبيل رواية “الحي اللاتيني” لسهيل إدريس (1953)، و”تفريغ الكائن” (2009) لخليل النعيمي، و”إنها باريس يا عزيزتي” (2013) لنورالدين محقق، و”غربة الياسمين” (2015) للتونسية خولة حمدي، و”أفاعي النار/حكاية العاشق علي بن محمود القصاد” (2015) لجلال برجس وغيرها.
أما فضاء مدينة “لندن”، فقد كان محور روايات عربية عديدة، منها “موسم الهجرة إلى الشمال” (1966) للطيب صالح، و”قنديل أم هاشم” (1968) ليحيى حقي، و”السابقون واللاحقون” لسميرة المانع (1672)، و”إنها لندن يا عزيزي” (2001) لحنان الشيخ، و”شرفة في قفص” (2004) للروائي الفلسطيني محمد القيسي، و”كوميديا الحب الإلهي” (2008) للروائي العراقي لؤي عبدالإله. وغيرها.
في حين حضر فضاء أمريكا في سرديات الهجرة بنسبة أقل، ومثال ذلك نجد رواية: “مواويل الغربة” (2000) للطيفة الحاج، و”أمريكانلي” (2004) لصنع الله إبراهيم، و”شيكاغو” (2007) لعلاء الأسواني، و”أمريكا” (2009) للبناني ربيع جابر، و”بروكلين هايتس” (2010) لميرال الطحاوي، و”مرافئ الحب السبعة” (2011) لعلي القاسمي… إلخ.
على هذا الأساس، فإن سرديات الهجرة لا تعتبر المهجر مجرد فضاء روائي فحسب، يحتوي الشخصيات والأحداث، ويمسك بتلابيب الزمن، بل هو عمق جغرافي وتاريخي وثقافي وديني وجمالي، وهو، كذلك، هاجس الرواية ونواتها الصلبة دلاليا وحكائياً، وتبعاً لكل ما سبق، يُعَدُّ الفضاء المهجري بمثابة الشخصية الرمزية، المركزية النازلة بثقلها على جسد بعض الروايات من بدايتها إلى نهايتها.
هكذا نجد أن كلّ مدينة من مدن المهجر المعروفة، سواء سكنها الكاتب أو مرَّ بها، أو هاجر واستقر فيها، هي بالنسبة إليه محطّة يعود إليها بين الفينة والأخرى في أعماله الإبداعية، خصوصا في مجال الكتابات السردية. فحين يتعلّق كاتبٌ ما بمدينة مهجرية يحوّلها إلى مسرح لأعماله الروائية وإلى أفق إبداعي مخصوص، يضفي عليه صوره المفترضة عنها، فمن هؤلاء الروائيين من يبقي تلك الفضاءات مثالاً للمدن المثالية المنشودة، وإن كان يتعامل معها بمنطق المنقّب بين زواياها، والكاشف لخباياها وأسرارها، ومنهم من يعتبرها جحيما آخر لا يقل قساوة عن الوطن الأم الذي هرب منه، خلالها ينبري الروائي في وصف مكابداته ومعاناته وأوجاعه فيها.
وقد انعكست تلك الهواجس في صور شتى، تزامنت فيها لحظات عامرة بالمشاعر والجمال والود الإنساني واندهاش بالغريب تجلى ذلك في «وقائع وأخبار وحالات، تنقلها سطور يومياتهم، موشّحة بألوان تلك الأمكنة، وخصوصياتها الدالة عليها» (نوري الجراح: “سفر في الأرض وسفر في المخيلة”، مجلة “الجديد” (لندن)، 1/3/2017، العدد 26، ص4).
2- مواصفات التصوير الفني للفضاء المهجري الجديد
إن الإمعان الدقيق تصوير المكان المهجري الجديد، عادة ما يساعد خيال القارئ على فهم الحالة النفسية والوجودية للشخصية المهاجرة، كما قد تؤثر تلك الحالة في سلوكه الحياتي الجديد، وهو يحاول التأقلم مع الواقع المغاير والغريب، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذه الشخصيات العربية المهاجرة لها أصول ومنطلقات ومرجعيات ثقافية ودينية وحضارية وأهداف تسعى إلى تحقيقها في ظاهر الحياة أو في باطنها، إذ تعبّر عن مواقف مناسبة لدرجة وعيها ومستوى تمثلها لقيم وثقافة العالم الجديد.
وهذا التصوير الدقيق لمؤثثات الفضاء الجديد هو ما يمكن أن تجلوه لنا سرديات الهجرة بامتياز، حيث تعكس روايات الهجرة وعيا فنياً ومعرفياً بصورة الآخر، وبالبيئة المحيطة به، ومن ثم فإن عناية الروائيين الذين تناولوا ثيمة الهجرة بالفضاء الروائي الذي تجري فيه الأحداث، تكون وسيلة لنقل رؤيتهم إلى الوجود من حولهم. وسواء أكانت هذه الزمكانات أفضية للعبور أم كانت أفضية للإقامة، فإنها تكون مثاراً لتأملات وتداعيات ومشاعر داخل متاهات أسئلة قلقة تلامس هموم الانتماء والكينونة ورغائب الجسد.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن جوهر المكان، حيث البيئة والمعمار الجديدين يلعبان دورا مهما في حياة المهاجرين، ناهيك عن الهموم الحياتية المستجدة، إذ أن المكان الجديد يفرض إيقاعه وموضوعاته وقضاياه على الوافد العربي، بحيث يجد نفسه في مواجهة عالم جديد، ويتحتم عليه التأقلم معه والتكيف مع مستجداته، وذلك دفاعاً عن نفسه وعن هويته، ما دام للمكان الجديد هيبته وسلطته وسطوته. مع التأكيد أنه ليس كل من خرج خارج حدود الوطن سيكون بالضرورة منبهراً بجماليات المكان المهجري ومستلباً بثقافته.
هذه المدن الغربية العالمية التي توهجت إبداعياً في الرواية العربية، والمسمّاة بأسمائها الحقيقية (باريس، لندن، شيكاجو، مدريد…)، تجعل المهاجر ملزماً بالاحتكام إلى الفضاء الجديد، بكل مكوناته ومؤثثاته (العمران والشوارع والمرافق العامة وطبائع الأهل وعاداتهم وتقاليدهم ونمط عيشهم ومدى تقدمهم وتحضرهم وأفراحهم وأتراحهم…الخ)، ليكون في الإمكان معرفة الثراء الدلالي أو السيميائي لتلك أمكنة المختارة، مقابل أمكنة شرقية لها مواصفاتها وخصائصها وثقافتها، حيث أن العيش في هذه الأمكنة الجديدة هو الكفيل بالكشف عن هذا الثراء الذي ينعكس على الشخصيات المهاجرة بدوره قيمياً!
كما أن قراءتنا لنظير تلك النصوص الروائية تخبرنا، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، بفكرة وسبب إقدام المهاجر على مغامرة السفر، وهي في أغلبها ظروف تتعلق بإتمام الدراسة في الغرب، أو طلب اللجوء السياسي، أو التدريس هناك، فهناك دائما دافع وحافز وراء كل ارتحال أو خروج من مكان إلى آخر، حتى أن كتابات كولومبوس (مكتشف أمريكا) تشير، على سبيل المثال لا الحصر، إلى أن الدافع الأول وراء الرحلة كان هو البحث عن الذهب، وهو ما يسجله في يومياته قائلا «لا أرغب عن التوقف في اكتشاف أماكن أبعد بل أرغب في اكتشاف الكثير من الجزر والذهاب إليها، بحثا عن الذهب” (يراجع تزفيطان تودوروف: “فتح أمريكا. مسألة الآخر”، ترجمة بشير السباعي، تقديم فريال جبوري غزول، سينا للنشر، القاهرة، ط 1، 1992، ص 14).
ومن خلال قراءتنا لبعض هذه المتون الروائية التي تدور في فلك سرديات الهجرة، يمكننا رصد أهم الملاحظات التي عنَّت لنا، وهي على النحو الآتي:
أولاً: لم يتمثل الروائي العربي الفضاء الجديد من منطلق التطور العمراني الكبير الذي حصل في المدن الغربية فحسب، بل، أيضا، من منطلق الإشارة إلى سكان تلك المدن، من حيث أخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم.
ثانياً: لم يستحضر الروائي العربي المدينة الغربية، بكل عناصر تطورها فقط، بل صوّر لنا تلك المدن من حيث الجدة والقدم (الأحياء الجديدة مقابل الأحياء القديمة)، ومن حيث التفاوت الطبقي (أحياء الفقراء والمهمشين والمنسيين مقابل أحياء الأغنياء والموسرين)، ومن حيث الغنى التاريخي للمدينة (أحياء الأندلس في إسبانيا). من هنا جاء وصف الروائي لهذه الفضاءات الخلفية التي تخفي الوجه الآخر لتلك المدن العالمية.
ثالثاً: تعد حاسة البصر الأساس في تصوير جماليات المدينة الغربية، حيث التفصيل في جغرافية المدينة من حيث أشكال الوَسْمِ الدالة على الاتجاهات، والأمكنة، والمعالم… مع العلم أن لكل مدينة مهجرية إيجابياتها كما لها سلبياتها، من هنا تركيز الروايات التي اختارت أمريكا أكثر من غيرها على المزاوجة بين سلبيات الفضاء الجديد وإيجابياته.
رابعاً: تصوير طرق العيش في المدينة الغربية الذي يتأسس على الحرية الفردية، وهو ما يشكل دعامة أساسية في بناء المدينة الحديثة؛ فالحرية بما هي قيمة سامية في ثقافة الأفراد والجماعات، وهي الضامن الأساس لممارسة كل أشكال الوجود في تلك المدن بمختلف ألوان الطيف البشري، دينيا وعرقيا وجغرافيا وثقافيا.
خامساً: يكون المهاجر العابر أو حديث العهد بالمكان أكثر افتتانا بجماليات المكان المهجري الجديد، من حيث المعمار، جمال الطبيعة، نظافة المدينة، وصورة الأنثى الجميلة. الأمر الذي لا تعكسه وجهة نظر من أقاموا في بلاد المهجر مدة طويلة، حيث الاغتراب هو الميسم العام لمواصفات المهاجرين الذين أدمنوا الغربة، وتشربوا قساوة الزمن الغربي، بكل آلامه وآماله.