جدلية الدين والتنوير في فلسفة هيغل
في مقدمة الكتاب يحدد المرزوقي الأهداف التي تكمن وراء ترجمة هذه الكتاب، وهي معالجة خمس مسائل تتعلق بالمعنى الذي تنطوي عليه هذه الترجمة، ودواعي اختيار دروسها، وكيفية تحقيق نصوصها والاستفادة منها. وفي الإجابة عن هذه الأسئلة، يرى أولا أن البحث الفلسفي لا يحتاج إلى تبرير لأن له مطلق الحرية في البحث، ورغم ذلك يلخص أهمية الترجمة في تأسيس فلسفة الدين من جهة، وتقويم عصر الأنوار وفلسفته، إضافة إلى تجاوز علاقة المقابلة السطحية بين الفلسفة والدين من جهة أخرى. لكن الحاجة الماسة لهذه الترجمة تكمن في حاجات الإنسان المسلم في هذا العصر لمعالجات، تعد من المسائل الملحة جدا على الفكر العربي الإسلامي راهنا.
الوعي الديني
يعتبر المرزوقي فلسفة الدين الهيغلية بمثابة صلة اتصال بين الوعي الديني وتقدم الفكر الفلسفي، وانتقاله من العقل التحليلي إلى العقل التأملي، ومن المقابلات الكلامية إلى الحركة الجدلية، التي تحاكي تطور الوعي الإنساني في مجال المعرفة العلمية والمعرفة الدينية، بغية الانتقال من لا تاريخية الفكر الفلسفي والفصل شبه التام بين تكوين الوعي الفلسفي والوعي الديني، من حيث علاقتهما بتقدم الفكر الإنساني، وتطور المعرفة بالوجودين الطبيعي والتاريخي.
ومما يسجله على فلسفة هيغل أنها حاولت أن تضفي على المسيحية طابع الغاية الأخيرة من تطور الدين، ما ألغى الحاجة إلى ما يمكن أن يتجاوزها في الاكتمال، كما يراه متحققا في الدين الإسلامي الذي يمثل عنده دين الفطرة، ويعد حصيلة للتطور التاريخي لوعي الإنسان الديني.
إن أهمية دروس هيغل في الدين تتمثل عنده في ما أسست له على صعيد النظرة التكوينية للوعي الديني، أو تطور فكرة الدين اعتمادا على نظرية المفهوم، وتطور الروح لتحقيق ذاته الحرة والعلاقة بين روح الإنسان وروح الإله المطلق على صعيد مفهومي ومنطقي.
الفلسفة والدين
يؤكد هيغل في فلسفته الدينية على ضرورة تقديم المفهوم الميتافيزيقي، القادر على عرض الأشكال الدينية، كما تجسدت في تطور الروح في التاريخ الفعلي للوعي الديني. فالله عنده هو بداية كل شيء، وهو غاية كل شيء، وفي الدين يتنزل الإنسان في هذه العلاقة مع المركز الذي تتلاقى فيه كل علاقاته الأخرى، ما يؤدي إلى سمو الوعي الذي تتجلى غايته في ذاته.
إن وظيفة الفلسفة عنده تتجاوز الوعظ، لأن المطلوب منها أن تثبت قدرتها على تأكيد ضرورة الدين في ذاته ولذاته، وأن تبين أن الروح ينبغي أن يتقدم، منتقلا من أشكال التصور والإرادة والإحساس إلى مستوى المطلق. وهكذا يكون الدين في علاقته المباشرة بوعي الإنسان، ما زال يحمل بذرة الانفصال، ذلك أن الدين والوعي الدنيوي الحر يتم فهم أحدهما منفصلا عن الآخر.
ويحدد موضوع الفلسفة والدين بالحقيقة السرمدية في موضوعيتها ذاتها، لأن الفلسفة ليست حكمة العالم، بل هي معرفة ما ليس بدنيوي، كما أنها ليست معرفة الكتلة الوجود الخارجي والحياة، وإنما هي معرفة ما هو سرمدي ومعرفة طبيعة الربوبية، وما يصدر عنها لأن هذه الطبيعة يجب أن تتجلى وتتخلق. وهكذا فإن الفلسفة لا تشرح ذاتها إلا عندما تشرح الدين. إنها الانشغال بالحقيقة الأزلية. وعلى هذا الأساس تكون الفلسفة والدين عند هيغل متطابقين.
الفكرة المثال
تتمثل علاقة الفلسفة بالمطلق على اعتباره فكرة مثالية ومنطقية، وتكون وظيفتها إظهار فاعليته وحضوره في منتجاته. إن الطبيعة والروح المتناهي وعالم الوعي والعقل والإرادة ما هي إلا تجسدات الفكرة المثال للربوبية ورغم ذلك تبقى تشكلات محددة وصورا جزئية من الفكرة المثال، حيث لم تنفذ فيها الفكرة المثال إلى ذاتها تنفيذا تاما، لكي تصبح الروح المطلق.
وعندما يطرح هيغل سؤاله حول فهم الدين بالعقل يجيب بأن البحث في هذه المسألة أمر حتمي، لأن الفلسفة والاهتمام الشعبي بالتفكير قد شغلا العصر بصورة مميزة، إضافة إلى كونهما يتعلقان بالمبادئ التي تستند إليهما آراء العصر حول معرفة مضمون الدين. وفي هذا السياق يرى هيغل أن ما لدى المجتمعات الحالية ليس الدين عامة، بل هو الدين الوضعي الذي يجب التسليم بأنه الدين الموحى من الله، أي الذي يستند إلى سلطة أسمى من السلطة الإنسانية، ما يجعل منه فوق قدرات العقل الإنساني. لذلك فهو يجد أن أولى العقبات التي تواجه هذه العلاقة، تتمثل في تقوية استعدادات العقل وقدرته على معالجة هذه الحقيقة، التي ينتجها دين ينبغي أن يكون خارج نطاق العقل البشري.
تجلي الروح
يصبح الروح الذي يجعل من نفسه موضوعا يتخذ جوهريا شكل الظهور على نحو سام لروح متناه دينا- وفقا لمفهوم هيغل- وضعيا يكون معه الروح لذاته في شكل التصور، وفي شكل الغير الذي يتممه إنتاج ما هو وضعي من الدين. وهكذا فإن تحديد العقل يحصل ضمن الدين بوصفه عقلا عارفا وكذلك الإحساس باعتبار أن ربّ الكون هو الذي يعطي هذا التعيين الأخير للوجود وجود صاحب الإحساس طالما أن العلاقة الروحية والروحانية توجد في هذا الإحساس.
وبعد أن يعرض لمفهوم الدين في كليّته يعرض لهذا المفهوم في جزئيته معتبرا من حيث النظرة الفلسفية أن المفهوم هو المضمون نفسه، أي المطلق والجوهر الذي يشبه البذرة التي تنمو منها الشجرة بكاملها، حيث تتضمن هذه البذرة كل الخصائص وطبيعة الشجرة، لكنها ليست موجودة بصورة سابقة التشكل. في ضوء هذا القول فإن المعرفة ذاتها ليست إلا تطورا لهذا المفهوم، تطور ما يتضمنه المفهوم في ذاته، دون أن يكون قد بلغ الوجود مشروحا ومعروضا بعد.
أشكال الوعي الديني
انطلاقا من أن الكلي هو وعي بالإله أو بمعنى أدق، هو يقين الذي يقاربه في الصورة الإيمان، فإن هذا اليقين هو ما هو موجود في الإيمان، أو في معرفة الإله بوصفها إحساسا يرتبط بالجانب الذاتي، أما الجانب الموضوعي في هذه العلاقة فهو المضمون أي الوعي بالإله عامة، وهولا يرتبط بكون أن لنا موضوعا وتصورا، بل لأن هذا المضمون الإله موجود إلى جانب أنه تصور.
وعندما يعرض للأدلة المقدمة على وجود الله يكشف عن فرق جوهري فيما بينها، إذ أن بعضها ينطلق من الوجود إلى فكرة الإله، في حين أن البعض الآخر ينتقل من فكرة الإله في ذاتها إلى وجودها. ولحل تلك الإشكالية بين المقولتين يعمل على تقديم الفرق، والمتمثل في ثلاث كيفيات أساسية، تكون عليها علاقة الاقتران بين فكرة الإله والوجود، أولها هي مآل إحدى الخصائص المحددة إلى الأخرى، وثانيهما هي الإضافة بينهما أو ظهور أحدهما في وجود الأخرى، وثالثها هي كيفية المفهوم، الذي ليس له الوجود في ذاته وحسب، وإنما هو الوجود لذاته.