جرس أفكار وتأملات

مخيلة الشاعر وكائنات العالم الافتراضي
السبت 2022/01/01
لوحة: حسين جمعان

I

ها نحن في مطلع سنة جديدة، وبهذا العدد لا تستقبل “الجديد” سنة أخرى وحسب، وإنما تطوي مرحلة من الإصدار الشهري المتواصل لسنوات سبع، لم يمر على العرب أقسى منها في عصرهم الحديث. سبع سنوات من حريق عربي أكل الأخضر واليابس وأتى على الحجر والبشر وسوّى بالتراب مدناً كانت منائر للحضارة عبر قرون.

سبع سنوات واجهت فيها “الجديد” اليأس بالابتكار، وألم الواقع بفكرة المستقبل، وظلام النهار بمشعل الحقيقة.

دعت الجديد” إلى مواجهة الفكر الأبوي بالحضّ على الابتكار فكراً وإبداعاً، وأفردت لأجل تحقيق هذه الغاية عشرات الملفات الفكرية والأدبية التي ترجمت تشوق الأجيال المبدعة والمفكرة الجديدة في نقد الصور الثابتة والأفكار الجامدة، إلى جانب مراجعة دعاوى الحداثة والحداثية والحداثوية وما رافق هذه الدعاوى في إطار حركة التجديد الادبي والتحديث الفكري والاجتماعي العربي من تخلف مُقنع بشعارات براقة، عبّر عن نفسه أحيانا في ظواهر فصلت الفكر عن الواقع، والإبداع عن الناس، وتعالت على آلام الجموع وتخبطاتها. ولطالما عبّرت خطابات الثقافة العربية عن مشكلية اعتزال النخب الثقافية في كومونات وغيتوات مغلقة لا تؤثر في المجتمعات ولا تتأثر بها، فضلاً عن اعتياشها على فكرة الحداثة من دون أن تكون منتجة لها، ولا فاعلة فيها، ليصير مآل هذه النخب ومشاريعها “اللغوية” (من لغو): المراوحة في قشرة الخطاب الحداثي، والاستنقاع والتأسن.

II

لوحة: حسين جمعان
لوحة: حسين جمعان

أدى تراجع النبرة الرسالية للمشروع الحداثوي في شقه الأدبي، على الأقل، إلى أن يتحول نجومها الشعريون والروائيون إلى منافقين اجتماعيين يعتاشون على الامتيازات التي أتيحت لهم بفعل نوع من المساومة التي عقدوها مع صيغ “الاستبداد المُقنَّع” في مدن “الحداثة العربية” وقد تسربلت هذه المدن بأزياء العصر ومسوحه الاستهلاكية، واعتنقت لحاء الأفكار الجديدة، فبات الحداثي الليبرالي المطبوخ في فرن اليسار العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، والذي لمع اسمه في حقبة “استثمار الدم الفلسطيني” نجمَ الأفكار المتعارضة والمتصادمة مع المجتمعات المقموعة، أكثر مما هي متعارضة أو متصادمة مع السلط السياسية القامعة.

حدث هذا في اللحظة التي انقلبت فيها نخب مدنية وعسكرية على ماضيها الثقيل وقررت دخول العصر من بوابة تجعل من الاستهلاك سمة حداثية ومن الحداثة سمة استهلاكية.

هكذا ولد العصر الذهبي للحداثي العربي في طبعته الجديدة، وفتحت على مصاريعها أبواب العواصم العريقة والوليدة لمن كان بالأمس صاحب خطاب يُصوره خصماً لـ”للزمن البطرياركي”، وكان آسراً بمقولاته المضادة وبوزاته النجومية عقول فئات من الشباب الغاضب على مدار نصف قرن من التيه العربي. والخلاصة، أنه يظهر اليوم في مدينة “العصر الرقمي” في صورة ذئب عجوز مخلع الأسنان بشال أحمر ومن حوله شبان وشابات تلتمع في أيديهم أضواء الموبايلات، فنحن في المدينة العربية للقرن الواحد والعشرين، وهو الشاعر/ الروائي البائس في صور تظهره بوصفه “الحداثي المبتهج” في جوار شبان يقتنون الكتب، ويقرؤون الموبايلات، ويرغبون عبر “متاحف الكتب” دخول التاريخ الثقافي بجوار “صنم الريادة”.

III

ما من أمة في الأرض تتوج شاعراً، أو مفكراً أو فناناً حاكما أبدياً على ذوقها الجمالي، لكن “أمة الضاد” تفعل. ولندرك السبب في هذه الصيرورة الكاريكاتورية البالية لعلاقة الناس بالشعر والشاعر بذاته، نحتاج إلى بحث أنثروبولجي متعمق في الظاهرة يمزج بين القراءة السايكولوجية، والقراءة التاريخية.

***

قبل سنوات عديدة أسرّ لي شاعر عربي لم يعد في عالمنا إنه يشعر بالأسى لكونه بات على أبواب الخمسين، وما زالت القراءة النقدية العربية للشعر تعتبره شاعراً شاباً. مازحته من باب تطييب الخاطر: أليس مبهجاً أن يظل المرء شاباً؟ لم تطربه إجابتي، ولم أكن لأخالفه. كان محقاً في ما أبداه من شعور قوي بالحيف من فكرة وجود حاجز مهول يقف في وجه تجربته الشعرية بوصفه أحد الأصوات العربية ذات الموهبة العالية، والاقتدار الشعري، وظل هذا الشاعر حتى آخر حياته ممتعضاً من تلك الفكرة.

كان لابد للشاعر “الشاب” أن يتحرر من فكرة نجومية الشاعر الأوحد، الآفلة، بفعل أمرين، أولهما نهاية عصر شاعر القبيلة، وتحرر الشاعر من صورته القديمة كنبي هائم في الوديان لصالح صورة الشاعر مواطناً في المدينة، وثانيهما أفول صورة “الديكتاتور” العربي المتغطرس بطبعته العسكرية، لصالح نموذج جديد من غطرسة المال بوصفه السلطة.

والواقع أننا لا يمكن أن نلوم طرفاً واحداً ونحمّله مسؤولية تسييد نموذج شعري على حياة شعرية تذخر بالتنوع، وتأبيد تلك السيادة.

المسألة مرتبطة بشبكة من الأسباب والاعتبارات، ولعل أول ما يمكن استدعاؤه منها، هو ركاكة التربية الجمالية العربية التي صنعت الذائقة الشعرية، والوعي بالشعر، إلى جانب تقليدية توجهات صانعي المناهج الأدبية والنقدية في المدارس والجامعات العربية، وثقافة صناع الرأي الأدبي في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام. لا يمكن الحديث عن تشكل حر ومتطور للأحكام الأدبية من دون النظر في طبيعة الفكر الأدبي الذي يقف وراء توجهات القراءة في المجتمع، ومنها قراءة الشعر.

لوحة: حسين جمعان

ثمة اعتبارات مؤثرة ما برحت تجعل من “الشاعر الأوحد” صنو “الحاكم الأوحد” في مجتمع “الاستبداد الشرقي”، فالشاعر صورة أخرى للحاكم المخلَّد، وما دام حيا فلا كفؤا له ولا بديلاً. في الثقافة العربية، قديما وحديثاً، بدت هذه المسألة كما لو أنها بنيوية. فالمتنبي مثلا، لم يُعترف لسواه، في حياته، بالمكانة التي له، وبالحظوة التي نالها من الحاكم والمجتمع معاً. ولا يغرنك أن يعطى شاعر هنا وآخر هناك بعض التقدير. فالدولة كانت ما تزال مرتبطة بالقبيلة، والقبيلة، لا تقبل في جوار رأسها أكثر من شاعر واحد مدّاحاً لخصالها وهجّاء لأعدائها، ومؤرّخاً لغزواتها.

لكن هذه الصورة تخلخلت، وتفككت وهي في سبيلها إلى أن تتحول إلى صورة متحفية من ماض مضى.

IV

في برهة الانفراط الدراماتيكي للتعاقدات القارّة في علاقة الفرد بالجماعة بصيغها التي تبلورت في ظلال “المجتمع الأبويّ” يخيل للبعض واهماً أن ثمة فرصة لتجديد الدم الفاسد في جسد “الأب الشعري” المؤبد، الحاكم على مملكة الشعر، بوصفه أباً لشعراء لن يصبحوا أبداً آباء. لكن هذا لا يعدو أن يكون لهو اً مع السراب.

على الطرف الآخر من المنظر، تبدو الحياة الافتراضية للشعر في مجتمعات الليل الإلكتروني، حياة، تشبه في جانب منها، وإن يكن على نحو مزيف، الحياة الموازية للشعراء، ولكن خلوا من صعقة الشعر. حياة افتراضية جامحة تفكك المخيلة وتعيد بناءها في عوالم تبتعد بالفرد عن الأسرة، والجماعة، وتجعل منه أكثر فأكثر، فرداً مرتبطاً على نحو لا فكاك منه بشبكة من الصور والمعارف والغوايات التي تغذي مخيلته على نحو آسر يحوله هو نفسه إلى شخص افتراضي.

إذا كان هذا هو حال الافراد ممن لا شأن لهم بالشعر، فكيف يكون الأمر بالنسبة إلى الشعراء؟ إنهم على الأرجح في وضع يجعلهم يعيشون حياتين افتراضيتين تتنافسان: حياة مخيلاتهم بعلاقتها الحلمية بالعالم، واللغة، وبكل ما يعمرها من خيالات وصورة ومغامرات ذهنية تصدر مباشرة عن تفاعلهم الطبيعي مع العالم والأشياء، مقابل جانب منظومة افتراضية متكاملة مؤثثة بكل ما ينافس مخيلاتهم، بل ويفاجئها بثراء تركيبي مذهل، هو عبارة عن صور تتشكل من رموز وإشارات خيالات ذات ديناميات مركبة تبز (وتخلخل) بإمكاناتها المغوية العمل الطبيعي لتلك المخيلات.

كيف سيكتب الشعراء الشعر في الزمن الافتراضي؟ كيف ينظرون إلى ذواتهم، إلى سجياتهم التي ما تزال مرتبطة، على نحو ما، بطبيعتها الأولى، مكوناتها التي باتت تعجز عن استيعاب الهجمات المتلاحقة لشعريات العالم الافتراضي، وتركيباته المحيرة الأشبه بمتاهة تؤسس نفسها وتنفرط وتعيد تأسيس نفسها، مراراً، في صور لا تني تتوالد بسرعات وقياسات زمنية وامضة في مواجهة مخيلاتهم الطبيعية المُربَكة.

هل يمكن للغة الشاعر اليوم أن تستوعب تلك الزوغانات، والمخاتلات البصرية الماكرة التي يفيض بها الزمن الإلكتروني، والتي لم يعرف تاريخ الشعر لها مثيلا حتى في أقصى حالات التطرف في علاقة الشاعر بالشعر، كما في فعل “التداعي الحر” في عمل المخيلة الشعرية الحديثة، وأفعال السورياليين في الكتابة الآلية، وغيرها من الامثلة التي قدمتها المغامرات الجامحة لمخيلة الشعرية الحديثة.

على الأرجح أن مخيلة الشاعر المعاصر، مهما تطرفت وابتعدت وارتادت، وتوقع صاحبها أن تكون مخيلته قد بلغت به أرضاً لم تطرق، سوف يصل ذلك البعد، ويكتشف أن كائنات العالم الافتراضي سبقت مخيلته وارتادت الأبعد.

V

لوحة: حسين جمعان
لوحة: حسين جمعان

في عالم يجنح أكثر فأكثر ليكون إنسانه افتراضياً ثمة أسئلة تتوالد من أسئلة، هكذا، بلا نهاية، عاكسة التحولات الهائلة التي يشهدها العالم بفعل ارتطام المخيلة المبدعة بزمن العمل الافتراضي للمخيلات البشرية. لكن سؤالا مؤرقاً لا يني يطرح نفسه علي: هل إن كل هذا الوهم الغرائبي الذي دهم العالم وبنى نفسه داخل العالم الواقعي ليصبح هو العالم، في سبيله إلى الإطاحة، نهائياً، بكل ما عرفناه عن أنفسنا من قبل، متحولاً بنا إلى عالم لا نعود نعرف معه من نحن؟ عالم نمتلك فيه هويات جديدة،

 لا يصدر سؤالي عن حنين إلى ماض شعري واقعي أو متخيل، ولا عن إجحاف بحق المغامرة الإنسانية، أو عدم إيمان بقدرة الإنسان على الخلق والابتكار، إنما لو كانت الاندفاعة الإنسانية اليوم تتعامى عن انفلات قوى “الجشع الاستهلاكي” التي تهدد الفطرة الإنسانية بضرب من “الشر الإلكتروني المركب” إلى درجة هيمنة الروبوت وتفضيله على الإنسان، إذا كانت هكذا هي صورة الآتي، فلسوف، بالضرورة، تتعطل المخيلة الشعرية، وينتهي زمن الشعر بانتهاء زمن الإنسان لصالح جيش من الروبوتات ونخبة ماكرة تتحكم بالكوكب.

***

كل ما يجري اليوم ينذر بأن التطور الطبيعي للذكاء الاصطناعي سيقود العالم إلى بشرية جديدة من نوع غير مسبوق، فنحن شيئاً فشيئاً نتحول إلى كائنات إلكترونية. والسؤال الآن، هل يحدث ما يحدث من دون مقاومة، من دون وعي بالمخاطر التي ما نزال لا نعرف عنها شيئاً، ولكن علاماتها بدأت تتشكل، بدءاً من التحولات المتسارعة لعلاقة الفرد بذاته، أو بأسرته الصغيرة، وانتهاء بعلاقته المضطربة بالعالم الذي كلما تكشف منه جديد في حقل الوجود الموازي للوجود، كلما غمض واستغلق في وجوده الطبيعي.

IV

ما سلف لا يمنعني من الأمل، ولا من القول إن المجد في الأرض لن يكون أبداً للصورة الهاذية، ولا للسيف، لن يكون في هذيان الإقبال على سراب الصور هرباً من حقائق المعنى، ولا في انفلات عمل الغريزة على حساب إشراق العقل ونبل الوجدان، لا سطوة للقوة بإزاء الكلمات مهما كانت صورها وأزياؤها براقة ووعودها مغرية.

المجد يبقى للكلمة، فهي المعبر الأسمى عن المعنى العميق للوجود الإنساني، لا يمكن للصور أن تسافر في الأعماق الغائرة لدواخل البشر، ليس في وسع الصور أن تلامس لغز العقل والشبكة المعقدة للحواس الإنسانية، ولا أن تعبر عن حاجة الإنسان للبوح بمكنوناته العميقة التي يجهل كائناتها وظلالها، لقول ما لا تقوله الصور، ما لا يمكن أبداً للصور أن تسبر طبقاته وأحاجيه.

المجد، أبداً للكلمات، مادامت الخلاصة الجوهرية للكينونة الإنسانية إنما تتجلى في ذلك النزال بين الوجود والعدم، وبين النور والظلام، وفي الغوص عميقاً تحت القشرة المرئية للوجود في بحث لا نهائي عن المعنى.

جرس أفكار وتأملات، قد تبدو غائمة قليلا، على المنقلب بين يومين في روزنامة الزمن الصغير، وهو يلتهم الزمن الكبير، زمن الوجود الجوهري للإنسان.

نوري الجراح

لندن في 1 كانون الثاني/يناير 2022

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.