جماليّات الخطاب السيَري
يشكّل كتاب “جماليّات الخطاب السيري: الهُويّة، الفضاء، النوع”، بأجزائه الأربعة، للناقد العراقي محمد صابر عبيد، الصادر حديثاً عن دار فضاءات في عمّان، مشروعاً ضخماً، بل أول مشروع من نوعه بهذا الحجم في الثقافة العربية، يتناول كلّ جزء منه مساحةً سيريّةً خاصّةً، متوغّلاً في أدقّ تفاصيل النصوص السيريّة المنتخبة وحيثياتها، في السبيل نحو فضاء الكشف النقديّ عن طبقات الخطاب السيريّ وتحوّلاته المتموّجة بمخزوناته ومحمولاته الغزيرة والعميقة والمتشظيّة.
يوضّح المؤلف في مقدمة الكتاب مغزى اختياره لمفهوم “الجماليات” قائلاً إنه “مفهوم مفتوح بالغ التعدّد على صعيد عناية النقد الأدبيّ بمقاربة النصوص الأدبيّة المتنوّعة، فالنقد الأدبيّ في آليّاته النقديّة الإجرائيّة الكاشفة والفاحصة إنّما يهدف إلى إبراز الطاقات الجماليّة التي تنطوي عليها النصوص، والكامنة في طبقاتها وظلالها وزواياها وأفيائها وإحالاتها وتمثّلاتها، في سياق تحليل عناصر تشكيلها من لغة وصورة وإيقاع وبناء، وتأويل وحداتها الأدبيّة المكوّنة لهيكلها الإبداعيّ العام عن طريق فحص العناصر في علاقتها بما تنتجه من قيمة ودلالة ومعنى، فالخطاب السيريّ يكتنفه الكثير من التداخل والتفاعل والتمثّل بين عناصر تشكيليّة عديدة لا يجوز إهمال أيّ منها في أثناء القراءة والمقاربة والتداول”.
يحمل الجزء الأول من الكتاب عنوان “مداخل سيرذاتيّة: التنوّع والتداخل”، والجزء الثاني “هُويّة الخطاب السيريّ: التشكيل والرؤية”، والجزء الثالث “تمثّلات الوعي السيرذاتيّ”، والجزء الرابع “بلاغة العلامة وتأويل الرؤيا: من السيرة إلى التجربة الأدبيّة”. واحتوى كل جزء على مجموعة فصول قُسّم كل منها، أيضاً، إلى عناوين فرعية، تبحث في كل ما يتعلّق بالخطاب السيريّ وجمالياته. ففي الفصل الأول من الجزء الأول، الذي جاء بعنوان “الخطاب السيرذاتيّ الجامع: خصبُ المحكي وشعريّةُ التفاصيل” نقرأ “صحراويّةُ العنونة: الصورة والاسم”، الخطاب السيرذاتيّ: القصد السرديّ والمغزى الحكائيّ”، “الخارطة السيرذاتية: هندسة البناء الزمني”، و”الفضاء السيرذاتيّ والخفاء والتّجلّي”.
وفي الفصل الأول من الجزء الثاني، وهو بعنوان “التشكيل السيرذاتي: التجربة والكتابة” نقرأ “التشكيل السيرذاتيّ الرسائليّ”، “التشكيل السيرذاتيّ المذكراتيّ”، “التشكيل السيرذاتيّ الشعريّ”، “سيرة الحياة في سيرة السرد”، “السيرة الطائرة: إشكالية المعنى والتباس الحدود”، و”الخطاب الذاتيّ المقنّع: إشكالية التجنيس”. وفي الفصل الأوّل من الجزء الثالث، المعنون بـ”السيرة الذاتيّة الشعريّة: قراءة في التجربة السيريّة لشعراء الحداثة العربية”، نقرأ مجموعة مباحث منها “زمنيّة السيرة الذاتيّة: التذكّر والخلق”، “بنية السيرة الذاتيّة وشكلها الأدبيّ”، “سيرة الشاعر وشعريّة السيرة”، “وعي الخارج: إدراك المفاهيم الكبرى”، “وعي الداخل: حدود الشخصية الشعريّة”، “مصادر الثقافة وخصوصية الأنا الشعريّة”، و”المكان وتأثيث البيت الشعريّ”.
ومن مباحث الفصل الأول من الجزء الأخير، والذي جاء بعنوان “علامة الموت: الرؤيا والتأويل”، نشير إلى “علامة الموت: من فضاء الإحساس إلى وطن الكتابة”، “عتبة الإهداء وتجلّي خطاب الموت”، “الشعر شاهد الموت وقرينه الفاجع”، “النبوءة الشعرية: علامة الموت”، و”الأنا الإشكالية: شعريّة الموت”.
يبيّن المؤلف في مقدمة الكتاب أن فنون السيرة المتنوّعة تنتشر على مساحة سرديّة واسعة من الكتابة السرديّة الحديثة، وهي تتداخل مع الفنون الإبداعيّة كافة، الكتابيّة منها والجميلة، وتُعدّ فاعليّة تداخلها الأجناسيّ، مع بقيّة الفنون، من أبرز العلامات التي تميّزها بوصفها مرجعيّةً جوهريّةً وأساسيّةً لا يمكن تفادي حضورها في المدوّنة الإبداعيّة، على اختلاف أشكالها وألوانها ومظاهرها، على النحو الذي يحمّل النقد الأدبيّ والنقد الثقافيّ مهمّة مقاربتها، وفحصها، والكشف عن قيمتها الأجناسيّة الخاصّة من جهة، والحساسيّة التهجينيّة التي تثيرها في تداخلها وتفاعلها وتصاهرها مع بقيّة الفنون، وما تنتجه من أشكال وأنواع من جهة أخرى.
ويرى عبيد أن الخطاب السيريّ يتحرّى علاقة أوثق مع مجتمع القراءة والتلقّي من الخطابات الأخرى، إذ هو أقرب إلى حساسيّة التلقّي لارتباطه الصميميّ بالتجربة الإنسانيّة، في إحالاتها الواقعيّة المنتمية إلى حرارة الحياة وتدفّقها وصيرورتها، فعلى الرغم من أنّ العمل الأدبيّ، في جوهره النظريّ المُتعارَف عليه، هو عمل تخييليّ لا علاقة له بالواقع الحيويّ الشخصيّ للمؤلّف، فإنّ القارئ حين يجد منفذاً ما في طبقة من طبقات هذا العمل التخييليّ يحيله على واقع المؤلّف، وسرعان ما يتشبّث به كي يوجّه شبكة أسئلة قرائيّة عن علاقة الخيال بالواقع. ويجب عدم إهمال هذه الحساسيّة القرائيّة المهمّة بدعوى التعامل مع الخطاب الأدبيّ بوصفه خطاباً تخييليّاً صرفاً، فالرؤية الجماليّة للخطاب الأدبيّ لا يمكن تجلّيها وتأثيرها من دون تلمّس حيويّة الجانب الثقافيّ المتدخّل في صميم وعي مجتمع القراءة وثقافته وحساسيّته.
ويعتقد المؤلف بأن الفضاء السيرذاتيّ من أكثر الفضاءات الأدبيّة وضوحاً وتنوّعاً وحساسيّةً وقدرةً على التأثير في مساحة التلقّي، وذلك لأنّ عناصر التشكيل الفضائيّ الأساسيّة في العمل الأدبيّ السيريّ من مكان وزمن ورؤية هي الأقرب إلى روح التلقّي، حين تذهب مقصديّة القراءة نحو اللغة، والصورة، والإيقاع، وعناصر التشكيل الأخرى التي تجعل من الخطاب السيريّ قابلاً للإدراك والتمثّل والتحليل والتأويل بناءً على معطيات وقرائن وأسانيد مرجعيّة تحفّز القارئ على التوغل فيها، والبحث عن مرجعياتها لإشباع رغبة التعرّف على جوهريّة النصّ وحقيقيّته، على نحو يجعل من الفضاء السيريّ وسيلةً من وسائل دعم شعبيّة النصّ السيريّ، وخطابه الذاهب إلى جمهور تلقٍّ كثيف وحاضر.
ويؤكد عبيد أن النوع السيريّ يشهد تنوّعاً هائلاً في الكتابات السيريّة الحديثة والمعاصرة، فبعد أنّ كان “النوع السيرذاتيّ”، الذي ينتج “السيرة الذاتيّة” بقواعدها وقوانينها وأعرافها المتداولة، هو النوع الأكثر حضوراً على صعيد التأليف والتلقّي، انفتح الخطاب السيريّ حديثاً على شبكة من الأنواع لا يمكن حصرها وتحديدها بسهولة، وصار الكاتب السيريّ يأخذ حريّةً كافيةً في كتابة ما يشاء داخل الحقل السيريّ من دون أن يلتزم بقوانين ضاغطة تضع شروطاً وحدوداً لكتابته، فطالما أنّ الخزين الكتابيّ السيريّ في تجربة المؤلّف على درجة عالية من الثراء والعمق والتعدّد والتنوّع، فلا سبيل إلى الحدّ من حريّته في اجتراح الطريقة المناسبة المُقترحَة لتجربته.
وقد تطلّبت موسوعيّة الدراسة، في عتبة العنونة، مقاربة الدلالة العامة للفكرة الموسوعيّة التي تنهض على مفهوم “الكُليّة”، بمعنى الشمول والتكامل والخوض الجريء والمغامر في محيط التشكيل وجوهره على حدّ سواء.
واشتملت الدراسة، بأجزائها الأربعة، على فحص عشرات الخطابات السيريّة المتنوّعة لروائيين وشعراء ونقاد، تنوّعاً مدهشاً قابلاً لقراءات أخرى حتماً، وقدّمتْ رؤيةً تزعم قدراً مناسباً من التكامل في الإحاطة بما أتيح لمؤلّفها من اطّلاع على نصوص متعدّدة، صرّح بعضها بهّويّته الأجناسيّة المنتمية إلى فنّ السيرة (خاصةً الذاتيّة منها)، وأخفى بعضها الآخر، أو أهمل الانتماء الأجناسيّ. وحاولت بالمجمل بناء دراسة موسوعيّة تشتمل على فحص كمّ هائل من النصوص ومعاينتها والبحث فيها بهدف تقديم كتاب يجيب على الكثير من أسئلة الخطاب السيريّ، ويحفّز الدارسين للانطلاق من عتبته لمواصلة البحث والدراسة والتقصّي ضمن الرؤية والمنهج اللذين اعتمدهما المؤلف، أو في سياق رؤى ومناهج أخرى، من أجل وضع لبنة صحيحة وشاملة في بناء تصوّر متكامل عن فنيّة الخطاب السيريّ وجماليّته وثقافيّته.
لقد سعى الناقد محمد صابر عبيد، في مشروعه المهم هذا، إلى استقراء أنواع كثيرة من السيرة، ومعاينتها على وفق رؤية نقديّة رحبة، اجتهدت في أن تمنح الكتابة، حال بلوغها، مرتبة التأثير والإدهاش والأدبيّة ما تستحق من قراءة وتحليل.