جنات في نعيم
- يله تعالي تأخرنا.
- هسه أجي. يواش.
ظلت جنات تقلب الأكياس في عالمها اليومي الجميل بحثاً عن الفردة الأخرى للنعال. كانت له زهرة بيضاء بتويجات صفراء اللون، وقد عثرت على الزهرة الثانية بمفردها دون أن تعثر على الفردة الأخرى للنعال. الوردة متقنة إلى درجة أن الخيط مع المتك مع الميسم تم تجسيمها بلون أصفر داخل زهرة نرجس مفتوحة فوق كأس من النايلون مقطوع عن مكانه الأصلي في مقدمة النعال.
بدأت الشمس بالتواري خلف غيمة كبيرة داكنة اللون. قالت جنات لنفسها “ما أكبر هذه الغيمة، لقد جعلت رائحة الهواء تتغير، والظلام ينتشر”. نادى أخوها الذي كان يرتدي كاسكيتة حمراء:
- ماذا تفعلين هناك، لقد تأخرنا.
- يواش، هسة أجي.
- الدنيا صارت ظلمة.
- شي يهمك، صار عندك كاسكيتة ومناظر.
لم يتبق لها سوى كيس واحد صغير تبحث فيه عن فردة النعال الثانية، أما باقي الأكياس فكانت تستطيع أن تميزها جيداً من أشكالها وألوانها، وبحاسة شمّها القوية تستطيع معرفة أصحابها الذين أعطت لهم أسماء وهمية في خيالها: هذولة بيت العصفور، وهذولة بيت البزون، وهذولة بيت الجاهل الذي يملأ الأكياس بالحفاظات. وكلهم يأكلون السمك والدجاج، ويرمون الرؤوس والذيول إلى الزبالة.
- ها.. فضيها عاد. هل لقيتِ الفردة الثانية؟
- لا لم أعثر عليها بعد. عثرت على الوردة فقط.
- الدنيا راح تمطر.
- لن أترك هذا المكان حتى أعثر على ذلك النعال.
- بنت النعال مو الدنيا راح تمطر، والأكياس راح تصير تشريب.
- أنت روح، وسآتي بعدك.
- هل تريدين أن تضربني أمك؟ المعسكر قريب من هنا، وإذا اكتشفوا وجودنا سيقتلوننا.
بدأت قطرات المطر تتزايد، والطيور المتجمعة على الأكياس تبتعد وتختفي، ولم يتبقّ سوى الخروف والبقرة والحمار.
- إذا لم نرجع الآن ستحصل مصيبة.
- وهل النصف دينار مصيبة. عثرت على نصف دينار ممزق ويمكننا لصقه بالبيت. أبي سيفرح به.
- هه.. وسيفتح به مطعماً للكباب.
- وعثرت أيضاً على موبايل؟
- موبايل؟
- نعم موبايل.
جاء أخوها وهددها بأن يضربها بالحجارة إذا لم تترك الموبايل من يدها، ولما تركته اتضح أنه ليس إلا غطاء يستعمل لتغليف الموبايل. أخذ يلعنها، ويقول إن الظلام قد حلّ، وأمهما الآن تدور حول نفسها كالمجنونة مخافة أن يكون الجن قد خطفهما. ما إن سمعت جنات باسم الجن حتى نهضت بسرعة، وحملت في عبها غنيمة ذلك اليوم الغائم: نصف دينار، وفردة نعال، مع الوردة المقطوعة للفردة الأخرى، وغطاء موبايل، ومملحة على شكل “زار” انمسحت وجوهه الخمسة، ولم يتبقّ منها سوى خانة إليك. تجنبت مع أخيها الاقتراب من المعسكر الذي يمران به كل يوم، وتحاشيا الصعود إلى الهضبة الترابية للجنود، وهي الهضبة التي تطل على مخيم مترامي الأطراف يضم الكثير من أولاد الجيران والأقرباء ممّن تركوا بيوتهم المهدمة بقذائف الهاون، وجاؤوا إلى هذه الخيم المصنوعة من القماش الأبيض.
كانت الطيور قد اختفت، ومعها البقرة والخروف. أما الحمار فظلّ في مكانه، وقد انتفخ بوقت سريع نسبياً نظراً لأنه هناك منذ ثلاثة أيام فقط، ويمكن لجنات أن تخمّن بأن محتوياته الدسمة قد اجتذبت عدداً مهولاً من الديدان، وصغارها المولودين حديثاً. ما عدا دودة واحدة صلبة الجسم قوية الأرجل استدلت بحاسة شمها القوية على قطعة حلوى ملتصقة بكعب قنينة مياه معدنية بعيدة عن ذيل الحمار. ولم يكن سهلاً حتى لهذا الخبر أن يبقى طي الكتمان، وانتشر بسرعة البرق بين باقي الدود والنمل والذباب، فتولت مهامّ شاقة توزعت بين القنينة والحمار، الذي لم تكن جنات تستطيع النظر سوى إلى ذيله.
ظلت تمشي مع أخيها لفترة طويلة حتى أظلمت الدنيا تماماً، وسرعان ما سمعت أصوات إطلاقات نارية تتردد من بعيد، وأصبحت الأرض نهباً لعجلات السيارات.
- ماذا جرى.. ما هذا الضرب الشديد؟
- هذه الإطلاقات كلها بسببك. الجنود سيقتلوننا.
- أي جنود؟ لقد ابتعدنا عن الجنود.
كان المطر قد توقف، فخلع عبود نظارته الشمسية، وأرجع كاسكيتته الحمراء إلى الخلف، وقالت جنات لتبدد خوفها من الجن:
- هل تكون هذه الأصوات هي بسبب خروج الجنية من تحت الأرض؟
- ماكو جنية؟ أكو بس جني.
- أنا أخاف من الجني.
- الجني الكبير أو الجني الصغير؟
- ليش هو أكو جني صغير؟
- أي أكو.. هذا الذي يقول شبيك لبيك عبدك بين يديك.
- يعني شنو لبيك شبيك؟
- يعني من الممكن أن يعطيك جائزة؟ تريدين جائزة؟
- جائزة مالتيش؟ هاي أول مرة أشوف جني يوزع جوائز.
- على أساس أنت ضاربة خاشوكة وي الجن. يله قولي شتريدين إذا طلعلك الجني؟
- ضاربتها ليش، والخاشوكة مالتيش؟؟
- خاشوكة مال أبويه اللي خلفني. فضيها عاد شكد تلغين. شتريدين تطلبين من الجن؟
يبدو أن جنات قد فهمت أخيراً، فلم تتأخر في جوابها، وقالت على الفور:
- أريد فردة النعال الأخرى.