جناية الشاعر النرجسي على المرأة الشاعرة
عندما كتبت فرجينيا وولف روايتها “غرفة تخصّ المرء وحده” كانت تدرك معنى الحاجة التي تشعر بها المرأة/الكاتبة إلى مكان خاص بها، تمارس فيه طقوس التأمل والكتابة. لم يكن لهذه الواقعة أن تحمل معناها الدال والمهم لولا سياسة الظلم والتمييز التي كانت تمارسها السلطة الأبوية بحقها، في الوقت الذي كانت تمنح فيه الرجل/الكاتب ما يحتاجه من امتيازات وشهرة. لقد حاولت وولف في هذا العمل من خلال شخصية بطلتها التعبير عن الشعور الفادح بالظلم والقهر بسبب ما تلاقيه الكاتبة من غبن وتمييز في حياتها الإبداعية. لذلك كان شيوع شخصيات المرأة المجنونة والمريضة في رواية الكاتبات الأوروبيات في تلك الحقبة هو التعبير الحقيقي عن واقع حال المرأة/الكاتبة المأزوم، في ظل هذه السياسات الأبوية القاهرة.
ستتخذ هذه المعاناة بعدا أكثر مرارة وأسى عندما يكون الزوج الشاعر هو من يمارس هذا الظلم على المرأة الشاعرة، عندما يحاول أن يتركها تعيش في ظلال شخصيته وما يتمتع به من شهرة دون أن يمنح الزوجة حقها في التفرغ للكتابة وتحقيق حضورها الفاعل في الحياة الأدبية والثقافية. إن نرجسية الشاعر التي تعزز التمركز الذكوري حول الذات هو الذي يجعل المرأة كاتبة وشاعرة تدفع ثمن هذه السلوك الذكوري، وكأن الزوجة يكفيها ما يتمتع به زوجها الشاعر من شهرة ونجومية. في مثل هذا الحال تجد الكاتبة والشاعرة نفسها أمام خيارات صعبة، فإما أن تتقبل هذه العلاقة المختلّة أو أن تبحث عن استقلالها وصوتها الخاص مخلصة لإبداعها وموهبتها وعلاقتها الجمالية التي يمكن أن تقيمها مع العالم.
إن هذا الموقف يحتاج إلى وعي وشجاعة خاصين يجعلانها في منأى عن هيمنة المفاهيم والعلاقات السائدة في مجتمع أبوي ما زال يعلي من قيمة الذكورة، وفي ثقافة ما زال الكاتب يتصدر مشهدها بثقة من يعتقد أنه المبدع الأصيل فيها، وأن على المرأة أن توفر له كل السبل التي تساعده في إنجاز مشروعه. وللأسف يكون على المرأة شاعرة كانت أم كاتبة في هذه العلاقة أن تكون الضحية وتدفع من شهرتها وإبداعها ثمنا لنرجسية الزوج الشاعر وأنانيته الطاغية.
نصف حداثة
المفارق والمدهش في هذه العلاقة أن من يؤدي هذا الدور فيها هو شاعر حداثي لا يكف عن مهاجمة البنية الفكرية التقليدية للمجتمع، كما لا يتوقف عن مديح الحداثة وتأكيد مدى الحاجة إليها لتحقيق تقدم المجتمع العربي وتطوره. إن هذه الازدواجية التي طالما شكلت علامة فارقة حتى لدى أحزاب وقوى طليعية تكشف عن التناقض القائم بين الفكر والسلوك في حياة كثيرين منّا، إذ لو كانت أفكار الحداثة التي يحملها البعض تنمّ عن وعي كليّ وإيمان بها لكانت تحولت إلى سلوك عند البعض، جعلت المرأة الشاعرة أو الكاتبة تتخلص من دور الضحية في هذه العلاقة التي ما زالت محكومة بمفاهيم تقليدية على الرغم من المظهر الخارجي الدال على تحرر المرأة.
إن الشاعر ما زال في قرارته يرفض الاعتراف بإبداع المرأة بوصفه إبداعا منافسا له في القيمة والاعتبار، وعندما يشعر بذلك يحاول بوسائل مختلفة أن يعيدها إلى الحيز الهامشي الذي يجعلها تظل تدور في فلكه، كما كان الحال وما زال مع شاعرة هي سنيه صالح وناقدة مهمة هي خالدة صالح (سعيد). ومن مفارقات هذه العلاقة أن الشاعرة والناقدة هما أختان كانت الأولى زوجة للشاعر محمد الماغوط بينما ما زالت الثانية زوجة للشاعر علي أحمد سعيد (أدونيس) ولنا أن نستدل منذ البداية على الطابع الارتهاني للعلاقة من خلال تغيير كنية خالدة صالح واستبدالها بكنية الشاعر علي أحمد سعيد.
في رثائه لزوجته الراحلة الشاعرة سنية صالح يعترف الماغوط بهذه العلاقة المختلّة التي جعلتها تدفع من شهرتها وتطوير تجربتها ثمنا لتفرغ الشاعر للكتابة الشعرية والمسرحية والتي حققت له الشهرة، لكن هذا الاعتراف الذي يأتي متأخرا بعد رحيل الشاعرة هو مجرد مديح للدور الذي قامت به الزوجة الشاعرة أكثر منه ندما عليه.
أنا الشاعر الطاغية
في تجربة الشاعرين محمد الماغوط وعلي أحمد سعيد (أدونيس) ثمة مفارقات ومصادفات عديدة. وأول هذه المفارقات أن الشاعرين ينتميان إلى تيار الحداثة الشعرية (قصيدة النثر) ويعدان من المؤسسين لها منذ نهايات خمسينات القرن الماضي، بينما هما على صعيد العلاقة مع المرأة/الزوجة الكاتبة والشاعرة تركا شاعرة وناقدة مهمتين تعيشان في ظلال شهرتهما الكثيفة، دون أن تحظيا بما تستحقانه من شهرة وحضور في الحياة الثقافية العربية. والغريب أن الشاعر أدونيس صاحب الحداثة الفكرية والمنظّر لها هو من يمارس هذا الدور المناقض لأطروحاته بسبب التضخم الذي تعاني منه أنا الشاعر، في حين أن محمد الماغوط في رثائه لزوجته الراحلة يكشف عن حجم المعاناة الثقيلة التي عاشتها بسبب هذا السلوك المحكوم بنرجسية طاغية. لذلك فأن يكون الشاعر حداثيا وصاحب رؤية فكرية تنويرية متقدمة لا يعني أن يكون في سلوكه وعلاقته بالنصف الآخر من حياته حداثيا، إذ تلعب نرجسية الذات والشخصية المتمركزة حول أناها في ثقافة ذكورية لم تزل ترسباتها ماثلة فيها دورا مهما في تكريس هذا الواقع المختل لصالح الذكورية المضخّمة، كما نجدها واضحة وجلية عبر علاقته بالمرأة الكاتبة والشاعرة كزوجة، ما يجعل هذه الكاتبة وهذه الشاعرة تدفع من حياتها وشهرتها ثمنا كبيرا لهذه العلاقة المختلّة.
سنية وخالدة صالح
سنية صالح وخالدة صالح (سعيد) أختان، كانت الأولى شاعرة والثانية ناقدة مهمة، لكنهما لم تحظيا بالشهرة والحضور الذي يتناسب مع أهمية تجربتهما وقيمتها الجمالية والفكرية. كانت سنية زوجة للشاعر محمد الماغوط وخالدة زوجة للشاعر علي أحمد سعيد (أدونيس). يمثل الشاعران تيار الحداثة في الشعر العربي المعاصر ورائدين من رواد قصيدة النثر في نهايات خمسينات القرن الماضي، إضافة لانتمائهما السياسي إلى أيديولوجية سياسية واحدة هي أيديولوجية الحزب القومي السوري. على مستوى علاقته بالمرأة هل كان من باب المصادفة أن تكون شقيقتان شاعرة وناقدة زوجتين لشاعرين معروفين، وأن تبقيا تعيشان في ظلال هذه الأسماء الكثيفة، على الرغم من الموهبة التي تتمتعان بها دون أن يسمح لهما بأن تأخذا حقهما من الشهرة والانتشار والتفرغ للكتابة. الشاعرة هي سنية صالح والناقدة هي أختها خالدة (سعيد)، أما الشاعران فهما محمد الماغوط وعلي أحمد سعيد (أدونيس) صاحب الثابت والمتحول.
الصوت المقموع
لم تكن سنية صالح أقل شعرية من الماغوط لكن لم تتح لها الظروف المناسبة لتطوير تجربتها وتعميقها وتحقيق الانتشار الذي كان يمكن لها أن تحظى به لو أتيحت لها الظروف المناسبة. كذلك كانت خالدة ناقدة مهمة لكنها لم تنل حقها من الانتشار والشهرة، لأن أدونيس حاول أن يبقيها في الصفوف الخلفية بحيث لا تؤثر على نجوميته، التي ظل يعمل جاهدا على تكريسها، بينما لم تستفد هي من شبكة العلاقات الواسعة التي أقامها. لقد استخدم أدونيس خالدة كشريك له أو واجهة في الحالات الخاصة، التي كان يحاول فيها أن يورّطها معه في إنجاز أعمال مشبوهة، مثل كتابهما المشترك عن فكر محمد بن عبدالوهاب الذي اعتبراه فكرا إسلاميا مجددا ومتطورا، أو في الرد على نقد المفكر صادق جلال العظم لموقفه المناهض للثورة السورية ومطالبها بالحرية والكرامة.
لقد ترك أدونيس خالدة تعيش في ظلاله وكذلك فعل الماغوط مع سنية، واللافت أن “مجلة شعر” اللبنانية التي لعبت دورا هاما في تحقيق شهرتهما لم تكن تهتم بهذه التجارب وإعطائها حقها من الحضور والتكريم فقد ظلت فضاء ذكوريا بامتياز رغم ما كانت ترفعه من رايات الحداثة والنقد العنيف للفكر والواقع المتخلّفين. لذلك لم يكن غريبا أن تطوى صفحات هذه النخب والتاريخ الذي لعبته في الشعرية العربية مع انكشاف الأوهام التي كانت تروّج لها مع أول اختبار لمحاولة عبور الجماهير نحو الحرية والديمقراطية ودولة المواطنة والكرامة.