جنةٌ البصرة

من يوميات الانتفاضة
السبت 2018/12/01
عشق للأرض

على مرمى البصرة كان السياب غريباً على شط العرب. تحفّه الصخور والأعشاب اليابسة وكلس المياه الزاحفة إليه، وكان الفراهيدي يدندن في بئر المدينة ليوثّق (بحر البصرة) الجديد تحت هدير التظاهرات وتفاقم أصوات المتظاهرين، بينما كان أبوالأسود الدؤلي يوجّه تلاميذه إلى فقه اللغة العربية ويضع النقاط على الحروف، ويتغنّى الفرزدق في البرية بأغنيات الصيادين العراق ويقرأ النشيد الوطني وعيناه تدمعان؛ وأبعد من ذلك تقادمت أصوات محاربي ثورة الزنج العباسية بسنابك خيولهم وصليل سيوفهم وهديرهم الأسمر وهم يدخلون البصرة ثائرين على ظلم ذوي القربى تحت هجير الشمس الساخنة، فامتزجت السيوف المشرّعة وتصادمت وبرقت في نهار كثير الشمس حتى حجبت الرؤية، فصارت السيوف مظلات وسقائف تحمي المحاربين الهادرين كأنهم نخلٌ يمشي ومياه تتدفق من البحر الى النهر، يومها كان الفراهيدي يعيد ترتيب بحوره ويضع لها أنغاماً جديدة، فالسيوف تعيد ترتيب الأوزان وتمنحها ألقاً آخر، وتبعه السياب ناشداً وناشجاً وهو في ريعان شعره، لكنه غريب على الخليج وعليلٌ في المدينة، حينما نادته راعية الأغنام: لا وطن لكَ إلا القصيدة فهاجر معها.. فهاجر السياب وما يزال في غربته الطويلة منذ أكثر خمسين سنة.

واختار قبراً ليبقى وحيداً تحت شمس البصرة وإلى الأبد. غير أن أصوات المتظاهرين أيقظته من غفوته الطويلة فخرج من قبره يتسقط أخبار الجيل الجديد الذي لم يره، فكان المارّة يروون له حكايات تموز/ يوليو الجديدة التي تريد تفريق الحق من الباطل وتعيد صورة المدينة القديمة يوم كان البحّارة من أرجاء الدنيا يحطّون رحالهم بين السواقي وعرائش الكروم، يلعبون مع البط والعصافير ويتحمّمون في أنهار “أبو الخصيب” المنتشرة بين البساتين كالشرايين الحيّة، فيتحولون إلى بط وعصافير وقوارب وظلال باردة، ويدوّنون أسفارهم تحت أشجار البمبر عن جنّة عرضها البصرة والبصرة.

درس الإنشاء

صبيّةٌ خرجت من حلم اليقظة وهي تقف على نهر العشّار من الجهة المقابلة للمتظاهرين وفي يدها علمٌ ودفترٌ وممحاة، وأمامها الآلاف من المتظاهرين بجسد واحد لا فاصلة فيه، يمتد حتى يخرج من يقظتها إلى يقظة الأنثى الصغيرة التي كان عليها أن تكتب في “درس الإنشاء” كما أوصتها معلمتها قبل العطلة الصيفية: أكتبي عما ترين.

وكانت ترى مدينة تركت أيامها الساخنة وكهرباءها المقطوعة وماءها المج ونزلت إلى عمق الحياة المفقودة بين الجموع الحاشدة ورأت صبيان المدرسة ملفوفين بالأعلام ورايات البياض، متعرّقين ولاهثين. تسير معهم أفواج النخيل برؤوسها المقطوعة والأنهر اليابسة التي يحملها طلاب مدرستها بأكفان سود وتوابيت من جَريد النخيل، ورأت الدموع تتوهج في العيون والشموع توقَد على الأرصفة والعصافير تهرب من الحرائق والفواخت تهدل على غير مواعيدها.

جلست على مصطبة مخسوفة وهي تشرّع أمامها دفتر الإنشاء الصغير وتنظر إلى بياض أوراقه وفي لحظات قصيرة اسودّت الورقات لكنها مسحت الدخان المتطاير، غير أن السواد كان يتقاطر من الأبنية المحترقة وكان يلوّث الورقات، حتى استعانت بصبي مر قريباً منها: يا أنتَ.. تعال وامسح دخان الورقة.

في درس الإنشاء ستعرض الصبية ذات يوم دفترها “الأسود” أمام معلمتها وهي تتمتم: لا أعرف أكتب على سواد الأوراق. تضمها معلمتها وتبكي.

فاصلة

يفتح شط العرب شرياناً طويلاً في المدينة اسمه نهر العشار، حيث كانت تجلس صبية درس الإنشاء، التي لا تعرف أن الوالي العثماني محمد هدايات باشا حفره قبل حوالي 140 سنة، فهي ابنة اللحظة الخافرة الهادرة التي انفصلت عن التاريخ القديم وكبر فيها حب النهر والمدينة وشناشيلها وأبلامها التي تراها في كراريس الدروس وجغرافيتها، فتهجس أن في داخل النهر ثمة حياة كانت مع الموج تجري، وكانت أرواحٌ فيها تسري وأنّ تاريخاً طويلاً ومعقداً تعيده حماسة المتظاهرين وصيحاتهم الرهيبة بأن تعود المدينة إلى تاريخها الباسل ونخلها السامق وبلابلها التي كانت توقظ المدينة مع كل فجرٍ وصلاة.

سلّة البلابل

وجد الحاج سعيد في حديقة البيت عدداً من البلابل ساقطة ومتكومة. كان منظرها الغريب قد هزّه وهو ينقل الجثث الصغيرة إلى سلة فاكهة من الخوص حتى امتلأت بها وكان يستغفر الله، حابساً ألمه وهو ينظر إلى أشجار الحديقة التي اكتنزت بالأعشاش، غير أنه تحامل على نفسه وحمل سلّة البلابل وعبر الساحات والتقاطعات ومن ثم عبر نهر العشار واحتشد مع المحتشدين حاملاً على رأسه سلة البلابل الميتة وهو “يهوّس″ حتى فقد صوته في آخر الليل، وهدّه تعب السنوات التي كان يحملها على كتفيه؛ وكانت البلابل تتململ وتغرّد معه وتستيقظ من غفوة سمومها المالحة، ثم تطير مع الحرائق إلى جهاتٍ مجهولة.

تلك اللقطات النادرة صورتها عدسات الموبايلات وهي تلتقط البلابل الميتة بسموم المياه حينما صحت وأيقظها هدير الأصوات وارتجاج الأكتاف وتزاحُم الأرجل في محنة الانتفاضة وثورة شبابها ونسائها.

سلة الحاج فرغت.

اكتفت بلابل الحديقة بموتها المسموم/ السريع، ونفضت أجنحتها

امتلأت سلة الحاج بعلب المياه الباردة.

ربما تحوّلت البلابل إلى مياه عذبة فطارت وتركت سلة الرجل تدور بين المتظاهرين حتى هدأت حرائق المدينة.

الابن الثالث

كانت أم سنيّة/ التي فقدت بَصَرها منذ أعوامٍ طويلة / توصي أولادها الثلاثة: لا تعودوا إلى البيت إلا والبصرة معكم. ولأنهم يفهمون لغة الأم خرجوا متحزّمين بالحياة والامتلاء الروحي للمدينة.

قبل الليل بساعتين كانت البصرة محمولة على أكتاف شبابها كالتابوت الأخضر، يطوفون بها بين الحرائق والحدائق الجافة والأنهر الملقاة هنا وهناك؛ بين الرصاص الحيّ والقنابل المسيلة للدموع، وأم سنيّة تتسقّط الأخبار من الغادين، بعينين دامعتين وقلب مهموم وهاجس لا يخيب من أولادها سيعودون بالبصرة لتفتح عينيها الكليلتين وتتمرأى بقرية الطفولة القديمة التي عاشتها بين الماء والخضراء والوجوه الطيبة؛ وقتها كان المتظاهرون يجوبون المدينة ويزرعون الأمل في كل مفصل فيها، وكانت أم سنيّة البصيرة ترى الحرائق التي أشعلها الظلاميون المندسّون ليشوّهوا حلاوة النصر، وتسمع هدير الأصوات وتنصت إلى حناجر الشباب الصادحة، لكنها بقيت تترقب موعد البصرة التي سيحملها أولادها الثلاثة الذين غيبهم الظلام بين المتظاهرين حتى الفجر/ عندما عاد اثنان من أولادها متأخرين وبقي الثالث في ردهة مستشفى معتمة من ردهات البصرة وفي غرفة تنزُّ منها دماء المتظاهرين. لحظتها أبصرت ورأت البصرة متوهّجة في ابنها الثالث الذي لم ترهُ أو تبكي عليه بعد.

بصرياثا

أكثر من 600 نهر كانت تجري في البصرة، تتخلل بساتينَ جنوبها وتغدق عليها الماء العذب، فتروي أوردتها وزواياها وتنشر الخضرة في أرجائها، حتى كان الرحّالة والقناصل الأجانب لا يبارحون أفياءها وشطّها ونخلها وأشجارها وورودها وجنائنها وأنهارها المتناوبة وجريان الحياة فيها، فأسموها فينيسيا الشرق وبندقية العرب، لكن قبل ذلك كانت المدينة هي “الخريبة” و”أم العراق” و”خزانة العرب” و”عين الدنيا” و”ذات الوشامين” و”البصرة العظمى” و”الزاهرة” و”الفيحاء” و”قبة العلم” و”الرعناء” و”السبخة”، وأطلق عليها الكلدانيون تسمية “بصرياثا”، أي القنوات لكثرة الأنهار فيها. كما حملت الاسم الأكدي “باب البالميتي”… إلخ.

***

كان صوت الرجل، وهو يروي لأحفاده شيئاً من تاريخ المدينة، يتحشرج وهو يتهيأ للخروج إلى تظاهرات المساء، فقد حان وقت الميدان في ساحة العروسة.

العشاق يتبادلون العيون

على جانبي نهر العشار قنابل مسيلة للدموع ودخان وأبنية تحترق.

قبل العصر بقليل كتب مسجاً لها: تجدينني بالضبط عند آخر الحرائق.

وعند آخر الحرائق كانت القنابل الأسطوانية تتقاذف بشكل فوضوي وكانت دموع المتظاهرين تتقاطر وتحمر، بينما انسلّت فتاة المسج من صويحباتها مستنيرة بالنيران التي تشعل النهر لتراه، لكنها لم تره.

كان الشباب يتداخلون فيما بينهم ويتبادلون العيون والأيدي والأقدام والأجساد كلها. فكلما سقط جريح ارتفع. وكلما استشهد عاشق ارتفع. حتى باتت الأكف كلها مرتقعة ولم ينقطع دخان العيون الحارق.

كانت فتاة المسج تقف عند آخر الحرائق وتتطلع إلى كل شيء بقلب يرتجف حتى فزّزها مسج جديد: أنا في آخر الحرائق.. أحترق.

البصرة: 2018

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.