جنة الغرب التي صارت جحيمًا

قراءة في رواية "الوقائع المربكة لسيدة النيكروفيليا" لحازم كمال الدين
الأربعاء 2021/09/01
لوحة: قيس السندي

لعبت المتغيرات السياسيّة التي أعادت تشكيل المنطقة العربية في الحقبة الأخيرة، بدءًا من حرب الخليج الأولى ثم الحرب على العراق، وصولاً إلى الحرب السورية، والحرب في اليمن والإبادة الجماعية التي حدثت في إقليم دارفور والحرب الأهلية في الصومال، دورًا فاعلاً في تشكيل طبوغرافية المكان من ناحية، ومن جانب آخر في تشكيل هوية الإنسان العربي، الذي لجأ كحلّ وحيد لمقاومة استبدادية الأنظمة العربية إلى اتخاذ الهجرة واللجوء كمنقذ له من الوقوع ضحية لأجهزة الدكتاتوريين الأيديولوجية.

كان لتأثير الهجرة الفردية (كحالة العراق نموذجًا) أو الجماعية (كحالة سوريا) نتائجهما السلبية في ما أصاب الإنسان العربي (من المحيط إلى الخليج) من هوان وذل واغتراب وغربة ومطاردة، وعدم استقرار، وافتقاد معنى الأوطان، فلم يَعُد الوطن كما صورته الأغنيات العاطفية الموئل والملاذ والحضن الذي يحتمي به أبناؤه، بل المكان القاهر والطارد في آن واحد، الذي يحمل عذابات الإنسان وأوجاعه، وهو الأمر الذي انعكس – برمّته – على الخطاب الأدبي الذي تفاعل مع حراكية الهروب من المكان والبحث عن بديل يجتر فيه الإنسان مآسيه وذكرياته، فتكوّنت سردية بديلة تحددت معالمها مع إشكالية الوضع الجديد، والأزمة التي صار عليها الفرد في المجتمعات الجديدة /الملاذ (وفقًا لتصورهم)، بما أحدثته من حالة الانقسام بين الحنين لأوطان صارت بمثابة أغلال وقيود بسبب المعاناة في الحياة المعيشية وعدم الشعور بالأمان، وقسوة الأوطان البديلة التي مارست هي الأخرى سطوتها في التنكيل والتغريب والقهر بكافة أشكاله المادي والمعنوي.

بين المنفَى واللجوء

وبصفة عامة لم يعد المواطن (الهارب أو اللاجئ) مُرحَّبًا به داخل الأوطان الجديدة، وفي المقابل لم يتضاعف شعوره بالانتماء إلى الأوطان الأصلية، بل على العكس تمامًا، صارت الأوطان القديمة مجرد ذكريات عن القهر والمطاردة والتنكيل، وفي بعضها مجرد مقابر أو توابيت إلكترونية – كما عبرت رواية “النبيذة” (2017) لإنعام كجه جى – للراحلين.

ومن ثم لم ينفصل الخطاب الأدبي الناتج عن كُتّاب قرروا الهجرة أو اللجوء إلى أوطان بديلة عن تلك المعاني التي راحت تترسخ وتشكّل وعي الإنسان العربي في موطنه الجديد، وهو يرى مأساته تتضاعف، فاطّرد في كتاباتهم ما يشير إلى معان تتجاوز مسألة الاغتراب والمنفى التي كانت ثيمة أساسية في سرديات الستينات والتسعينات من قبل كُتَّاب سجَّلوا تجاربهم في المنافي بعدما ضاقت بهم رحابة أوطانهم، على نحو ما رأينا في سرديات الطيب صالح “موسم الهجرة إلى الشمال” (1967)، وحليم بركات “طائر الحوم” (1988)، وبهاء طاهر “الحب في المنفى” (1995)، وفيصل عبدالمحسن “عراقيون أجانب” (1999)، وإبراهيم الدرغوثي “الدراويش يعودون إلى المنفى” (1998)، وإبراهيم نصرالله ” طيور الحذر” (1999)، وأبوالمعاطي أبوالنجا “العودة إلى المنفى”(1999) والحبيب السالمي “عواطف وزوارها” (2013)، وعلي بدر “الكافرة” (2015) وغيرها من مرويات تعكس – بصورة أو بأخرى – محنتي اللجوء والمعاناة اللتين يعانيهما الإنسان العربي في الأوطان التي شكّل مخيال الحُلم الأميركي (حُلم جنة الغرب) الذي كان سائدًا في أوائل الثمانينات يوتوبيا جديدة لأفرادها، لكن كانت الصدمة؛ فأضحت الأوطان الجديدة/البديلة وكأنها تعاقدت مع الأوطان المهجورة بعقد ضمني، على استمرار تغريبة هذا الإنسان، والعمل على محو هويته، فصارت الجنة بمثابة الجحيم، ولكن هذه المرة هو الذي اختارها بعكس الأوطان المهجورة التي كان ينتسب إليها بأفعال قدرية كالميلاد والنشأة وغيرها.

الفارق بين سردية المنافي وسردية اللجوء المتأخرة، أن الهجرة أو اللجوء كانا في السردية الأولى لأسباب مرتبطة بالحروب التي تجرعتها المنطقة العربية منذ احتلال فلسطين عام 1948 مرورًا بنكسة حزيران وما أحدثته من أزمة هوياتية وفقدان للثقة، أما اللجوء في السردية الثانية فكان بفعل وطني بامتياز بعد توغل قبضة الدكتاتوريين في الحكم، وتنكيلهم بكل الأصوات المعارضة، أو بسبب عودة الاستعمار من جديد ولكن بمصطلحات جديدة تناسب إيقاع العصر، كالدفاع عن الديمقراطية، أو محاربة الإرهاب.

الوطن المقبرة

كتب

في رواية العراقي المهاجر إلى بلجيكا حازم كمال الدين “الوقائع المربكة لسيدة النيكروفيليا” (دار فضاءات، بالأردن – 2020) نتلمس ملامح صورة مأساوية لفعل اللجوء، فالرواية تصوّر مآل اللاجئ العربي بنكبة جديدة لا تقل مأساة عن حاله قبل اللجوء، فاللاجئ منتهكة آدميته، ومفروضة عليه شروط لاإنسانية، ويعيش في مسغبة حقيقية، يده ممدودة للمساعدات المكبِّلة بشروط مجحفة، وإرادته مسلوبة خاضعة للتوجهات الفوقية التي يفرضها الطرف الأقوى على الضعيف.

الرواية وهي تصور بشاعة فعل اللجوء الذي لم يعد ترفًا كما كان من قبل، بل صار ضرورة تفرضها الظروف اللاإنسانية التي يعاني منها العراقيون والسوريون (الآن بعد الأحداث الأخيرة)؛ تدين السياسات العربية الوحشية، وحالة القمع التي تفرضها الأجهزة الأمنية ويدها الباطشة من جهة، وفي نفس الوقت – من جهة ثانية – تدين السياسات النزقة التي أدخلت الشعوب في أتون حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، لكنهم اكتووا بنارها بفقد الأبناء في الجبهة، أو بالاضطرار إلى الهجرة والهروب من جحيم الفقر والصراعات الطائفية، والتنظيمات التكفيرية، هكذا كان فعل اللجوء بمثابة نتيجة طبيعية للسياسات الخاطئة التي مورست على الشعوب المغلوبة وهذه المرة ليس بفعل الاستعمار وسياساته التنكيلية وإنما – مع الأسف – بأيادٍ وطنية، اللافت أن اللجوء (أو الهجرة) لم يكن حلاً للمأساة بل فاقم (/ ت) المأساة على نحو ما تُصوِّر الرواية قصة بطلة الرواية وزوجها (الملقب بالرئيس) اللذين فرّا من مطاردة الأنظمة الاستبدادية في العراق إلى بلجيكا (المكان الحُلم)، فوقعا في حبائل منظمات اللجوء وشروطها اللاإنسانية، ثم في شراك مافيا الاتجار في المخدرات والبشر.

تقدِّمُ الرواية بطلا الرواية على أنهما ضحيتان للأنظمة الاستبدادية، ثم في مرحلة لاحقة تجعلهما ضحايا الظلم الذي وقع على الزوج عندما قدم طلب اللجوء، فبطلة الرواية امرأة أو فتاة فشلت في البحث عن الأحلام الرومانسية في وطنها، غادرت وطنها لحظة “إبصار أحلامها تغرق في طوفان الهباء” (الرواية: ص 48). تنتمي إلى أسرة متناقضة أيديولوجيا، علمانية ملحدة، وفي الوقت ذاته تطلب الشفاعة من الله؛ فأسرتها دينيّة ظاهريًّا وماركسيّة باطنيًّا، ماركسيتها ولدت من “البحث عن العدل الذي استشهد من أجله الحسين” (الرواية: ص 50)، وهو الأمر الذي انعكس على شخصيتها، فصارت تجمع بين النقيضين، فتصف نفسها بأنها “الملحدة تتشبع بالإيمان“( الرواية: ص 131).

بسبب هذا التناقض على مستوى التكوين الفكري والأيديولوجي المشكّل لمجتمعها من جانب، وما نشأت عليه في أسرتها من جانب ثانٍ، خايلها – ظن أقرب إلى اليقين – منذ طفولتها، بأن الوصول إلى الغرب بمثابة العثور “على التوازن ما بين العمر العاطفي والعقلي”.

متاهة سردية

لوحة: قيس السندي
لوحة: قيس السندي

يبدأ السرد ببطلة الرواية وهي محجوزة في بيت خفي من ضواحي المدينة القديمة في “خينت”، تُقدَّم كسلعة لراغبي المتعة من الشواذ، ومفضّلي جماع الأموات (النيكروفيليا)، ثم ينفتح الخطاب السردي على تفاصيل أسباب هذا التواجد، وحكاية هروبها من بلدها، لائذة بجنة الغرب، فتسقط في جحيم لا مثيل له، وسط عصابات بيع الأجساد التي بدأت مبكرًا مع خالها الذي استباح جسدها لنفسه تحت تعريشة الكروم على صوت نباح كلبها لوسى.

هكذا يدخلنا الراوي في متاهة سردية غاب فيها اسم البطلة، الذي لا يظهر إلا متأخرًا في الباب الخامس، حيث تُعرّف بنفسها في مضمار استغاثة بصوت تنامى إليها من وراء الجدران هكذا “يا أخت أنا داليا رشدي لاجئة عراقية” ويبدأ الراوي عبر صوت الأنا في إزالة اللبس عن هويتها، فنعرف أنها من مواليد بابل عام 1978، يسارية معارضة هربت مع زوجها أيام حكم الرئيس صدام حسين، حاصلة على ماجستير في التمثيل من كلية الفنون الجميلة، كما أنها كاتبة روائية.

هكذا يفصح السرد عن هوية تلك المجهولة التي كان التعامل معها على أنها جسد في غرفة يمارس عليها البغاء، مع بعض الشذرات التي تتسرب من الهلوسات هنا وهناك عن ماضيها. لكن مع الباب الخامس، تبدأ صورة المجهولة في الانجلاء وتنكشف هويتها في سرد ذاتي/اعترافي يتضمن نقمتها على ما شعرت به أثناء اللجوء، حيث المعاملة اللاآدمية، وهي النقمة التي يُشاركها فيها زوجها، وإن كان تأثير الحنق عليه مضاعفًا، فيحدث التحول إلى النقيض تمامًا، بعد انتسابه إلى جماعة تقوم بالتهريب، فيمارس كافة الموبقات، بما فيها خيانة زوجته وفي سريرها، وفعل الخيانة يُضاعف من أزمة البطلة/الزوجة، فتدخل في مرحلة انتقام من الزوج، فتسقيه من نفس الكأس التي تجرعت منها، فيزيد فعلها جنون الزوج الذي يتحول إلى جلاد لها.

تكشف الرواية بذكاء شديد مآل اللاجئين وما يتعرضون إليه من انتهاكات جسدية، ومعنوية بإهدار الكرامة والرجولة، لكن من سلبيات الرواية أنها وقفت عند محطات لشخصيات انحرفت في بلاد اللجوء، وركزت عليها دون أن تقدم النماذج الإيجابية التي استطاعت أن تجعل من اللجوء مجرد محطة عبور لتحقق الكثير من أحلامها، والأمثلة تعج بها المواقع الإخبارية عن لاجئين نبغوا وقدموا ابتكارات، ومنهم من اندمج وصار مواطنًا، بل لعبوا أدورًا مهمة في مجتمعاتهم البديلة وتبوؤوا مناصب قيادية سياسية وغير سياسية.

تشوهات الرجل الشرقي

يشخص الخطاب الروائي في لمحات خاطفة عبر الشذرات التي تحدث بفعل الهلوسات الناتجة عن الحقن، أمراض الشرق الماثلة في الذكورية/الفحولة، وما ينتج عنها من زنا المحارم الذي كانت إحدى ضحاياه البطلة/داليا رشدي بفعل خالها، وكذلك أمراض الميراث على الرغم من أن هناك تشريعًا سماويًّا ينظم القسمة بين الأبناء، وبالمثل زواج الأقارب الذي يحدده الآباء سلفًا حفاظًا على نقاوة العرق، وبالمثل الامتهان الذي يُمارس على جسد المرأة، واستلاب حريتها، تارة بفعل الأبوية التي تفرض وصاياها عليها، وتارة بفعل النسق والعرف فاعتداء الخال عليها (أي داليا رشدي) لم يقابله عقاب، أو حتى تهديد بفضحه، وإنما تدثرت بجريمتها دون أن تجرؤ على أن تنطق باسم الفاعل.

كما أن الاعتداء الجسدي على المرأة عند الرجل الشرقي له ما يسوّغه؛ فالمخرج المسرحي في الخماسية التي كانت تقرأها داليا على اللاب توب، قتل زوجته بسيف إسلامي عتيق عقابًا لها على فعل الخيانة، والرئيس زوّج داليا رشدي يعتدي عليها، لأنها دنست فحولته، وإن كان في نهاية المطاف يعتبرها سلعة يتاجر بها لمن يدفع مقابل ما يحظى به من نشوة من فعل مضاجعة الأموات، إضافة إلى ذلك، النظرة الذكورية للمرأة، فالمرأة (أيًّا كانت) ما دامت غير الزوجة – في نظره – ليست امرأة، وإنما “واحدة من الأسطول” كما عبّر المخرج المسرحي الذي وجدته زوجته مع ممثلة وهو يدافع عن فعله المشين.

تشوهات صورة الرجل الشرقي التي يجسدها الخطاب الروائي لا تقف عند هذا الحد، بل تتعداه إلى نظرة عامة سلبية للمرأة، وهو ما يتمثل في محاولة محو ذاتها، والتقليل من شأنها بمقارنتها بغيرها كزوجة المخرج الذي برر إقدامه على خيانتها بجهلها بفنون الجنس، في حين “هو يعشق الجنس” (الرواية: ص 146)، وهذا تكريس لفعل الفحولة التي يتباهى بها الرجل الشرقي، اللافت أن احتقاره لجسدها، ووصمها بأنها لا تجيد فنون الجنس، كان له تأثيره العكسي، فقد دفعتها رغبتها في تلاشي القصور الجنسي (الذي اشتكى منه الزوج) إلى السقوط الأخلاقي جرّاء تعلُّم فنون الجنس، كما تكشف الرواية عن تفشي ظاهرة المثلية الجنسية بين النساء في المجتمع الشرقي، وإن كان بصورة مواربة عبر رسالة الكاتبة العراقية التي أرسلتها لداليا ووصفتها بأنها “لبؤة سمراء ولهيب داكن” (الرواية: ص: 149)، وهو الشعور الذي تنامي إلى داليا، وبررت عدم إقدامها على الفعل لأنها تخشى التابو الشرقي.

عبر مواقف الشخصيات مع المرأة تكشف الرواية عن صورة سلبية للرجل الشرقي، فهو مستبد وأناني ذكوري مهووس بالجنس (وهذا يؤكد الصورة الذهنية الراسخة بفعل الاستشراق، والتي تجاوزت إلى الافتراء على الرسول الكريم) حتى لو اضطر إلى زنا المحارم على نحو ما فعل خال داليا، أمّا تذرعه بالرجولة والفحولة، فيكون كردة فعل لمقاومة ثورة النساء كما في صورة المخرج المسرحي بطل الخماسية التي وجدتها داليا رشدي على اللاب توب، فالمخرج مع أنه رومانسي يغدق عليها بالأشعار الرومانسية، ويعزف على جيتار على نحو ما وُصف في الخماسية، ويرفض أن يوأد حبه بفعل ميراث الحقد بين الآباء على الميراث، إلا أن هذه صورته ظاهريًّا أما حقيقته فهو كثير العلاقات النسائية، ويتعامل مع المرأة خارج إطار المؤسسة الزوجية على أنها أسطول، وما إن تتمرّد عليه زوجته بعد اكتشاف خياناته، ومحاولة عقابه بنفس السم الذي جرعه لها، أي الخيانة، حتى يتحول إلى ثور هائج وينتهي به الأمر إلى قتلها. وهو ما يتكرر مع اللاجئ العراقي المناضل اليساري، فما إن أمسكت به زوجته مع مومس، حتى لطمها على وجهها وقال “إنها قحبة لا أكثر، إنها ليست امرأة، أنتِ زوجتي وحبيبتي وابنة عمي!” (الرواية: ص 156).

تفكيك صورة الغرب المثالية

إذا كانت صورة العرب جاءت سلبية إلى حد بعيد، فالرواية في المقابل لم تمدح الغرب على حساب الشرق، بل على العكس تمامًا فالرواية تفكك صورة الغرب، أو الجنة التي كانت سائدة في فترة التسعينات مع تنامي الحلم الأميركي، فتكشف عن واقع فجّ، مليء بالعنصرية والتطرف، والإقصاء إلى حد إنكار الآخر، واختزاله في صورة أحادية مقيتة، انبنت على أطلال الصورة النمطية والمستهلكة التي كرّسها الإعلام الغربي عن الإسلام منذ قديم الزمان، وتأكدت مع تنامي الحركات الجهادية المتطرفة التي خرجت كردة فعل على الديمقراطية المزعومة التي بشّر بها الرئيس الأميركي جورج بوش الأب في العراق، فلم يعد في مخزون الصورة سوى “الإرهاب وتقطيع الرؤوس وتفجير البرجين، وتغوّل المساجد في أوروبا”، هكذا اُختزل الإسلام في صورة – يريد الغرب استحضارها مع الأسف – مزرية تجرد الإسلام من كل قيمه الحضارية، ودعواته السامية عن الإخاء والمساواة وحُسن معاملة أصحاب الديانات الأخرى، واحترام المرأة وإعطائها المكانة اللائقة.

لوحة: قيس السندي
لوحة: قيس السندي

كما يُبدِّدُ الخطاب الروائي – في أحد أهدافه المهمّة – الولاءات للغرب، ويجرده من صورته المثالية، فلم يَعُدِ الحُلْم أو مآل الحالمين بفراديس عدن، وإنما هو لا يقل بشاعة واستبدادًا وانتهاكًا للآدمية والحقوق، وتبديدًا للهًويّة من الأوطان التي فروا منها. فقد تساوت البلدان في دحر الإنسان وسلبه إنسانيته وهويته. وبالمثل يفنِّد دعاوى حرية المرأة التي تجأر بها أبواق الغرب، ويفصح عن حقيقة – مؤسفة – مفادها أن الغرب لا يرى في المرأة العربية إلا جسدًا، وعندما يحتفى ويولي اهتمامه بها، فهذا ليس لإيمانه بعقلها أو ما ينتجه من فكر، وإنما لما تثيره لديه من رغبات وغرائز، على نحو ما حكت صاحبة الصوت المبحوح عن كيفية تلقي المثقفين الغربيين لها، وإصرارهم على تنميط المرأة في صورة واحدة، فيجبرونها على الحديث عن الجنس عند العرب، ووصول المرأة إلى الأورجازم؛ فالدعوة إلى “الفيمينيست” ما هي إلا برافانًا أو ستارًا يحجب الأغراض الدنيئة التي يسترونها بالدعوة إلى حرية المرأة واحترام فكرها.

تشخص الرواية الأمراض الاجتماعية والنفسية التي انتشرت إثر تعقدات العصر، وما تخلله من حروب وصراعات، وتسليع البشر باستباحة أجساد الأحياء والأموات على حد سواء، فرأينا ظواهر اجتماعية كشفت عن رجال (أيّا كانت سلطتهم ومكانتهم العلمية، فوكو على سبيل المثال) منحرفين ومعقدين نفسيَّا، يُمارسون البغاء مع الأطفال أو ما يعرف بـ”البيدوفيل” أي اشتهاء الأطفال الصغار جنسيًّا، وهي تلك الجريمة التي لاحقت فوكو حتى بعد وفاته، بعدما أعلن صديقه عن ممارسته البيدوفيل مع أطفال قُصّر أثناء رحلتهما إلى الجزائر، وهناك أيضًا البارافيل والنيكروفيليا (مضاجعة جثث الأموات)، الغريب أن هذا الفعل يمارس عبر طقوس دينية واحتفالية تجعل منه ظاهرة مجتمعية خطيرة تهدد أمن وسلامة المجتمع.

بالطبع لا يقدم المؤلف القضية دون أن يفند دوافعها فيذكر أن وراء كل نيكروفيل أسبابًا تدفعه إلى ممارسة هذا الشذوذ، وهو ما استغله تجار الأجساد البشرية، في تجارة رابحة تدر عليهم أموالا طائلة.

لحظات التنوير

تتخذ الرواية من آليات التشويق في السرديات البوليسية تقنية لها، فالنص لا يقدم نفسه للمتلقي من المشاهد الاستهلالية، بل يعمد إلى الغموض والإطار البوليسي في التخفي وتجهيل الشخصية الفاعلة وأيضًا المفعول فيها، فلا تسمح لنا الحكاية المروية بالضمير الأنا العائد (في معظم أجزاء النص) على البطلة المسجية كالأموات بفعل الحقن، بمعرفة أسباب هذه الحالة التي هي عليها، ولا حتى التعرف على هويتها، ومن المسؤول عن هذه الحالة التي صارت عليها، وما أسبابها، إلا في الثلث الأخير من النص، وبذلك نكون – بادئ ذي بدء – أمام نص مبهم على مستوى الأحداث التي سنعرف – لاحقًا – أن المشهد الاستهلالي مكانه الأصلي، حسب المتن الحكائي من الثلث الأخير من الرواية، إلا أنه تمّ تقديمها وفقًا لترتيب الأحداث حسب المبنى الحكائي، كما أن أسباب الفعل التي رأينا عليها شخصية البطلة مجهولة لنا حتى قرب نهاية الرواية. وأيضًا على مستوى شخصيات الرواية، فجميع الشخصيات: الرئيس والساردة، وذات الصوت المبحوح، مجهّلة بتعمُّد، ولم تقدّم لها لحظات التنوير إلا في وقفات مفصلية داخل حركة السرد، ومن ثم يتأخر بالنسبة إلينا كقراء معرفة شخصية “الرئيس” ولماذا يفعل بهذه المرأة هذه الأفاعيل؟ ومن لحظات التنوير الملاحق الثلاثة التي يُذيّل بها المؤلف النص، فقد جاءت كاشفة للشخصيات، وعن تدخلات المؤلف ذاته بحضوره الشخصي داخل النص، وإضاءته لنهاية الرواية وكيف نجت داليا رشدي من مصيرها، بحسب اطّلاعه على محاضر تحقيقات البوليس.

تنجلي لحظة التنوير، وهي تقنية مرتبطة بالقصة القصيرة بامتياز، عن الإبهام والغموض للشخصيات، عندما تسرد داليا في منولوج ذاتي تحت عنوان “أنا العاهرة” قصة اللجوء، ومعاناتها هي وزوجها حتى قبول طلب اللجوء، ثم الإملاءات التي فُرضت عليهما، وكانت – حسب رؤية الروائي والبطلة – دافعا للتحولات التي حدثت لشخصية الزوج المناضل اليساري الرومانسي، فنتعرف على طبيعة الشخصيات التي كانت هلامية مع بداية أحداث الرواية، كالرئيس وآية الله يوهان دو فريز، والفلسطيني سمير الأشقر الذي كان يحمل لقب البارون.

تتكرّر لحظات التنوير داخل النص، وهي بمثابة إضاءات للغموض الذي اكتنف ثلثي الرواية، أو إضاءات للقارئ الذي تطارده أسئلة مَن ولماذا؟ فتكون الاستغاثة بصاحبة الصوت المبحوح بمثابة لحظة تنوير تُجْلي بها لنا تاريخ حياتها المجهول، بل تقدم عبرها أشبه

بسيرة ذاتية مقتضبة عنها منذ أن كانت في العراق، ثم وصولها إلى مكان اللجوء، انتهاء بما تتعرض له بعد أن تم حقنها بسائل غريب كي تبدو ميتة، يستغلون جسدها الميت في القوادة، هكذا:

“يا أخت! يا سيدة! يا آنسة! أنجديني! أنا عراقية مثلك! أنا لاجئة. اسمي اللبـ.، اسمي داليا رشدي، مولودة في بابل يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 1978م. أنا يسارية مُعارضة هربت مع زوجي أيام حُكم صدام حسين. في بلجيكا اصطدمت بتعاملهم مع اللاجئين. حين بلغ الأمر حدّ إيقاف الإعانات المالية الشهرية عنا أصبحت (كذا). أنا أحمل شهادة ماجستير في فن التمثيل من كلية الفنون الجميلة. أنا كاتبة رواية. قصة وصولي إلى هنا مليئة بتفاصيل لا تقوى على حملها الجبال (كذا وكذا وكذا) هل تسمعينني؟ اسم زوجي (فلان الفلاني). أنا أسكن بروكسيل. عنواني شارع موريس (الفلاني) رقم (كذا). أرجوك! أنجديني! بلّغي الشرطة عن وجودي! إنهم يزرقونني حقنا عجيبة فأبدو ميتة. إنهم يقوّدون على الميتة التي هي أنا. يقوّدون على ما يسمونه جسد عاهرة فارقت الحياة حديثا. هل تقبلين أن يفعل أحد بك هذا؟ حكيت معها باللهجة العراقية؟ باللغة الإنجليزية؟ باللهجة الفلامانية؟ لا أتذكر! على الرغم من إدراكي بأن صوتي لا يصل أبعد من أسناني، وزفيري لا يتعدى شفتي، ما فتئ شيء غامض ينكش فيّ الصراخ. ولم أعترف بفشل محاولاتي إلا بعد ساعات من مُغادرتها وحلول الصمت الذي ظل صوتي يجول في أرجائه نداء تلو نداء” (الرواية: ص 117).

وهذه الاستغاثة التي تقصد طرفًا غائبًا هو الآخر “صاحب الصوت المبحوح”، بقدر ما تضيء تاريخ الشخصية، إلا أنها في المقام الأول منحت الساردة القدرة على استعادة ذاتها التي كانت غائمة بفعل تأثير الحقن، وتأكيد نجاحها على استعادة وعيها كاملاً باستثناء الحركة، والأهم هو إعلان هويتها التي كانت مُبْهَمة (أو منكَّرة) بذكر اسمها لأول مرة، وميلادها، وتكوينها الثقافي والعلمي، وتاريخها النضالي، وما تعرضت له من انتهاك على يد زوجها.

الغريب أن تدخل المؤلف في الملحق الأول في اختتام الرواية، والذي حمل اسمه “حازم كمال الدين”، ليكشف عن المجهول في الحكاية، جاء بمثابة إضاءة تنويرية عن الأسباب التي دفعت الرئيس في لحظة مفاجئة لأن ينقذ ابنة عمه من الموت، فغطى جسدها ليزود عنها الموت، يرتد بنا إلى طفولة الزوج ومشاهدته للحظة إعدام عمه الذي يكرهه، وهنا يتوازى مع داليا التي يكرهها أيضًا، ومع كرهه له إلا أنه اندفع إلى عمه وهو واقف أمام حائط تنفيذ الإعدام، فهرع إلى العم وغطاه بجسده كي يحميه من طلقات الرصاص التي كانت أخذت فصيلة الإعدام الأوامر بتنفيذ حكم الإعدام فيه.

تعددية الخطاب الروائي

لوحة: قيس السندي
لوحة: قيس السندي

تميز الخطاب الروائي بخطاب لغوي يمتح من روافد عديدة ما بين خطاب فصيح عبر السرد الذاتي والغيري، وقد تجلّى في أبهى صوره عبر تمريره للكثير من الآيات القرآنية داخل السياق دون تمييزها، فصارت وكأنها لغة الخطاب الروائي ذاته، وأحيانًا يستعير بعض الآيات مع تحوير لبعض كلماتها داخل النص، إضافة إلى ترديد بعض أبيات الشعر العربي، وبين خطاب التداول الشفاهي من العامية العراقية حيث الأمثال تطرد بوفرة، وبين خطاب لغوي ثالث هجين يمزج العربية بالأجنبية، وهو ما بدا واضحًا في عتبة العنوان الرئيسية إذ تشكل العنوان من كلمات عربية وأسفلها ترجمة إنجليزية للعنوان (الوقائع المربكة لسيدة النيكروفيليا THE CONFUSİMG EPİSODES OF THE LADY OF NECROPHİLİA) وكأن الراوي يمهد لهذه الهجنة منذ البداية، إضافة إلى تناثر الكثير من الكلمات التي ترد إلى البطلة في غرفتها، وهي ممزوجة بكلمات أجنبية وبعضها عربي.

يستفيد حازم كمال الدين من فن كتابته لفن المسرحية حيث المشاهد القصيرة، القائمة على الحوار بين شخصيتين، وكذلك المونولوجات التي أشبه بإضاءات كاشفة لجوهر الشخصية، وما تكشفه من استبطان للاّوعي، وإن كان الحوار يتميز بأنه مدغم في السرد داخل بنية النص، فتغيب مستهلات الحوار: قال: وقالت، أو حتى يبدو كخطاب غير مباشر. كما يقدم نصًا يتحاور مع فنون بصرية وسمعية وكتابية، فتارة نراه يتماهى مع الصورة البصرية عند رينيه مارغريت، وتارة يتماهى مع ماكبث لشكسبير، وموسيقى موتسارت. كما النص ذاته يأخذ في تقسيمه شكل القصة القصيرة، حيث الوحدات القصيرة، والاعتماد على الوحدات الكاشفة، فيقدم وحدة سردية بغرض شرح أحد المفاهيم التي مررها داخل مرويته فيقطع السرد، ويقدم شرحًا تفصيليًّا للعدّادة أو الملاية، وبالمثل عندما يقطع السرد ليقدم معلومات عن سوق مريدي الذي يصفه لنا هكذا “فهناك سوق كبير متخصص في شؤون التزوير اسمه مريدي يقع شرقي العاصمة بغداد، وفيه يمكنكم شراء أي شيء تحلمون به، وثائق مزورة، أعضاء بشرية، أسلحة متطورة وغيرها“، لا يكتفي بتحديد مكانه كنوع من التوثيق والمرجعية، بل يقدم وصفا تفصيليًّا بمعالم السوق وأقسامه هكذا “يتكوّن سوق مريدي من ثلاثة شوارع تضم عشرات المحلات الفارغة إلا من شخص يجلس خلف مكتب بسيط يستمع لما تريدون الحصول عليه، فيخبركم أن ما تريدونه متوفر لديه، أو لدى المحل الفلاني في نفس الشارع أو الثاني أو الثالث” (الرواية: ص 165).

وبعد أن ينتهي يشير في الوحدة التالية إلى عودته للسياق، فالقطع جاء بغرض التوضيح فقط. كما أن الهامش غير منفصل عن المتن، فيقدم تعريفات لبعض الكلمات، ويحدّد بعض الأماكن التي ورد ذكرها داخل النص، وإن كان تكرار تعريفه لمعنى اللغة الفلامانية، مع تشديده بأن التكرار غرضه التذكير، في ظني لا داعي لمثل هذا التكرار والاستطراد في التعريف، وإن كان غاب عنه تعريف بعض الكلمات مثل البادفيل والبارافيل على غرار مع فعل مع النيكروفيليا وأحال القارئ إلى موسوعة ويكيبيديا دون إشارة إلى المعاني المقصودة.

كما يتبنى الخطاب الروائي على مستوى الشكل تقنيات ما بعد حداثية بمستويات متعددة بدءًا من إقحام الصورة داخل النص، فالصورة جزء من المتن الروائي، فتتكاثر الصور والأشكال التوضيحية وشروحاتهما داخل النص، وبيان مدى تأثيرهما على الشخصية، وأيضًا باستخدام الميتاسرد، فتحل شخصية المؤلف الحقيقي داخل النص، واعتبارها شخصية لها دور حيوي في ربط أجزاء النص؛ فيفرد للمؤلف باسمه الشخصي وحدة سردية في نهاية الرواية، ليضع المتلقي في لعبة قوامها اللغة بتماهي ذات المؤلف مع ذات الراوي الأنا، بعد أن سحبه إلى داخل المتاهة السردية، وأيضًا عبر تقنية الرواية داخل الرواية.

كما يلعب صوت المرأة المبحوح داخل الرواية دورًا محوريًّا كعنصر من عناصر التنوير التي اعتمدها المؤلف، فهو أشبه بالقرين الذي يحفِّز الذات على البوح، ومن ثمّ تطرد الاستعادات للذات، وعن ماضيها وهي تسعى للتعرف على صاحبة الصوت المبحوح، بل تتقاطع ذات داليا رشدي مع ذات صاحبة الصوت المبحوح، وهي تسرد حكايتها التي تتوازى في كثير من تفاصيلها مع حياة داليا، فالأخيرة روائية، شهد لها الجميع، هربت من العراق بعد أن بلّغ محررها الأدبي السلطات الأمنية بأنها في روايتها تهاجم السلطات العراقية، بعد تنصله من علاقة انتهت بينهما إلى فراش، فتضطر إلى الهروب إلى بلجيكا، بعد أن هددها بإبلاغ السلطات عن كتاباتها المعارضة، ثم يكشف لنا الروائي أن صاحبة الصوت المبحوح ما هي إلا الروائية شبعاد البابلي، وفي ملحق أخير تأتي مقتطفات من حياتها على لسان داليا رشدي، على نحو ما ورد في يومياتها التي كتبتها بناء على طلب الطبيب النفسي المكلف من المحكمة.

كما أن الخطاب الروائي يحيل إلى أو يتداخل مع مرجعيات ثقافية متعددة موسيقية (موسيقى موتسارات، وأغاني وموسيقى دُوا ليپا)، وفكرية (أدبيات كانط وديكارت وبريخت وجروتوفسكي)، وفنية (لوحات رينيه مارغريت، ومايكل أنجلو) وأدبية (كأشعار امرئ القيس وبدر شاكر السياب ونزار قباني، وسركون بولص، ونصوص مسرحية وروائية لكتاب عالميين) وغيرها، والأهم هو حضور القارئ كعنصر أساسي في عملية السرد، لا باعتباره متلقيًّا خارجيًّا بانتظار الخطاب، وفك شيفراته واستنطاق دلالاته، وإنما باعتباره عنصرًا داخليًّا، مشاركًا في تتبُّع مسار حركة السرد، وتفاعل الأحداث، فيحرص الروائي/السارد، على إخباره بحركة السرد وتفصيلاته، بل يقدم له مبررات ردة الفعل التي وقع فيها البطل، فمثلا عندما تبدأ البطلة وهي تسرد بضمير الأنا في سرد شخصي يُبدِّد استحالة السرد الناتجة عن روي ما لا يمكن أن يرويه السارد العليم، نراها تسرد واقعيات مرجعية عن تاريخ العراق،  فتقول “بلدنا لا توجد فيه طبقة رأسمالية ولا طبقة عاملة كما تعلمون” (الرواية: ص 48)، ثم تستفيض في شرح أسباب الغياب بتقديم تقرير أشبه بتقرير اقتصادي يشخص الحالة/أو الأزمة العراقيّة، وأسباب هذا الغياب وصعود الطبقة الوسطى على حساب الطبقات الرأسماليّة والعاملة.

كما يتمُّ تحويل الذات إلى موضوع عبر لعبة تبديل الضمائر، فتصير الذات التي يعود السرد إليها بالأنا إلى مخاطب وكأنها منفصلة عنها لا تنتمي إليها، تحاورها وتستثيرها بالأسئلة علّها تقف على حدود هويتها، ومعرفة وضعيتها في تلك اللعبة التي أقحموا جسدها فيها، بجعله مستباحًا لطالبي المتعة من النيكروفيل.

محاولة الذات لاستعادة أناتها، تتجلى في الهلوسات السمعية التي تطرد كثيرا داخل الوحدات السردية، والتي تشي في كثير منها عن حالة الذات قبل تواجدها في غرفة الوداع الأخير، فتطرد كلمات ومصطلحات تتصل بواقع ثقافي متغيّر ومتطور متابعة لحالة حداثته اللاهثة على نحو: ديالكتيك، فائض القيمة، التناصات البنيوية للميتاسرد وغيرها، ثم يأتي لها صوت المرأة المبحوح الذي يأتيها من خلف جدار غرفتها كطوق نجاة ترتد به إلى ماضيها بغية التعرف على ذاتها، فكأن ورود الصوت إليها بمثابة تثبيت لها بأنها لم تصب بلوثة، فنراها تستغيث بها أكثر من مرة، وتقول لها انقذيني، وأنجديني:

“حفزت حواسي ولعبت دور الرقيب على نفسي: أثبتي لي بأنك لم تفقدي عقلك، وبأن ما تسمعين أصواتا حقيقية! انتزعت من ذاكرتي أحداثا جوهرية في حياتي وأخرى هامشية؛ الوقائع الدقيقة للهروب من العراق. تفاصيل رعب التهديد برفض طلب اللجوء في بلجيكا وإعادتنا مخفورين إلى العراق. شُرب الشاي في كافتيريا كلية الفنون الجميلة في بغداد. السقوط من منصة قاعة الخلد البغدادية لحظة تسلمي جائزة أحسن مُمثلة. التواء وسقوط كعب حذائي في بالوعة بين الرصيف والشارع أثناء عبوري شارع الرشيد البغدادي. اصطدامي بعمود كهرباء في منطقة الوزيرية البغدادية. تمثيلي في فرقة المسرح الفني الحديث. حوارات نورا في مسرحية بيت الدمية. آيات قرآنية أُجبرت على حفظها في طفولتي. ضحكات أمّي أثناء الطبخ. مُداعبات أبي على مائدة الطعام. عبوري نهر الفرات بقارب صغير وغناء ‘البلّام’. كلبي الضخم الأمين لاسي. عرائش الكروم في بساتين خالي على شاطئ الفرات” (الرواية ص ص: 58، 59).

بعد محاولات استعادة جسدها المسجّى في غرفة الوداع الأخير، تأخذنا في رحلة ارتدادية لزمن قبل زمن السرد الحالي، زمن استعادي بامتياز تسرد فيه مأساتها، ومصيرها ومصير وطنها في آن واحد، فمأساتها الشخصية لا تنفصل عن مأساة وطنها، بل حالات الانتهاكات التي حدثت لها سواء كانت معنوية أو جسدية كانت نتيجة طبيعة لتبنيها ورفعها لشعارات يوتوبية ليس لها مردود أرضي في دنيا واقعها.

فتسرد وقائع جوهرية من حياتها وأخرى هامشية؛ الوقائع الدقيقة لهروبها من العراق، ومأساة اللجوء، وحالة الوقوف على الأعراف خشية الخوف من رفض طلب اللجوء في بلجيكا وإعادتهم “مخفورين إلى العراق”، لحظات المجد (عملها كممثلة مسرح وحصولها على جائزة أفضل ممثلة) والسقوط (تعثرها والتواء كعبها أثناء عبورها في شارع الرشيد).

السرد العنيف

لوحة: قيس السندي
لوحة: قيس السندي

يتمثّل الخطاب السّردي عنفًا على مستوى الفعل (الضرب، القتل، الاغتصاب، الحقن بالسائل المجهول، تناوب اغتصاب الجثة) وعلى مستوى اللغة (الألفاظ التي تصف الفعل الجنسي)، وهو ما يشى بالتماهي مع الواقع الذي فرض آلياته الجديدة، وشكل هوية أفراده، وخطابهم اللغوي، وهو الأمر الذي يمثل ظاهرة لافتة في السردية الجديدة، فالعنف مُستشرٍ في معظم المرويات، التي تسرد عن ضحايا الحروب والتيارات الدينية المتشددة، والصراعات الأيديولوجية، والانتهاكات التي تحدث في معسكرات الاعتقال، وهو ما يشير إلى أزمة مجتمعية راحت تترسخ في واقعنا وتفرض خطابها.

وهذا الخطاب العنيف وجد له أصداءً واسعة في سوق الدراما العربية التي كرست لأساليب البلطجة كفعل قوة وهيمنة يستحوذ على ذهنية المراهقين، وبالمثل في السينما صار البطل الخارج عن القانون هو النموذج الذي يدر دخلا للمنتجين ويجعل شباك التذاكر مفتوحًا لأسابيع، بالإضافة إلى الجرائم البشعة التي انتشرت في مجتمعنا، وغرابة آليات الانتقام التي يستخدمها الأفراد ضد من يختلفون معهم. وهو ما يدق ناقوس الخطر لحلول قيم بعيدة عن قيمنا، ومع الأسف ليست مستوردة من الخارج بل تفنَّنا في صناعتها وجعلها محلية الصُّنْع، فانحدرت السلوكيات وساد الخطاب العنيف الدامي بين الأفراد لا فرق بين أفراد ينتمون إلى نفس العائلة أو يرتبطون بالجيرة والصداقة وغيرهما.

تمثلت الرواية لهذا الخطاب، فشاهدنا القتل والضرب وكذلك التنكيل بالجسد، وغيرها من صور مقزّزة إضافة إلى تمرير شريط لغوي يعج بألفاظ السباب والكلمات الجنسية، في تمثل لواقع يعكس شخصياته وخطابهم على الخطاب الأدبي.

في النهاية نحن أمام مروية قدمت سردية محنة اللجوء وتأثيراتها السلبية، مستعينة بتقنيات حداثية، وما بعد حداثية، أدانت واقع البلاد العربية، وفي نفس الوقت لم تتغاضَ عن أفعال الغرب، وانتهاكاته وعنصريته، تحاورت مع نصوص متعدِّدة كما قدّمت نصًّا تفاعليًّا بالإحالة إلى روابط تفاعلية، ومواقع إلكترونية تقدم معلومات تسعى إلى سدّ ثغرات النص، كما استفاد النص من تفاعلات الواقع الافتراضي، باستعارة الإيموشنات التي حلت كبديل عن علامات التعجب والدهشة والفرح، وهو ما يكشف عن انفتاح النصوص الكتابية الحديثة، على أشكال متنوعة من العوالم الواقعية والافتراضية، وهذا بفضل الفضاء السيبراني الذي وسّع مِن تفاعل النصوص مع وسائل التواصل الاجتماعي وتقنياتها، وتداخلها مع الأمور الحياتية، فلم تعد النصوص الكتابية بمعزل عن محيطها وما يلاحقه من تطور وتحديث على كافة المستويات.

على الجملة يمكن النظر إلى شخصية الفتاة وما تعرضت له من استلاب واغتصاب وتدمير لذاتها وجسدها – على يد القريب والبعيد على حد سواء – إلى دروج الموت، تجسيدًا – بصورة أو بأخرى – أو معادلاً موضوعيّا – بتعبير إليوت – للعراق (وما يوازيه من أوطان مستباحة كسوريا مثلا) كوطن مستباح، تكالب الجميع على انتهاكه ومحوه والعمل على طمس هويته، لا فرق بين عدو داخلي أو خارجي، الكل أسهم بطريقته، وبتفانٍ عجيب ومريب، فيما وصلت إليه من حالة مزرية وتردٍّ حدّ الموات، وربما كان هذه الإيمان بهذا النتيجة المأساوية، ما دفع الروائي لأن يتبّنى رؤية سوداوية قاتمة لمآل اللاجئين دون النظر إلى أيّ إيجابية حتى ولو كانت فردية، وإزاء هذا – فمع الأسف – لم يقدم ولو مجرد بصيص أمل أو نقطة ضوء، للخروج من هذا المأزق المستفحل، بل أسقط جميع شخصياته في هوة سحيقة من المخازي والانهيار الخلقي، وكأنه يشعر بأنه لا جدوى من التعلُّق بأهداب آمال خادعة أو كاذبة، ومن ثم كانت الصورة السوداوية التي رأينا عليها نظرته للجوء، ومصائر الشخصيات القاتمة، في إشارة إلى يأسه المطلق من أي خروج من هذا المأزق!

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.