حانة عقد التوراة
فارداً أجنحتي الأربعة البيض، فوق جسدي الأًثيري، بين سديمٍ وعماءٍ، فوق سماء وماء، صاعداً إلى حيث كرسيّ القدرة، هابطاً على خشبتي ومعي ياقوتة العرش، إلى ياقوتتي الحمراء، تطاردني مسوخ الكائنات الأُولى، وتحاصرني تنانينُ السموات السبع الطباق، قاصداً مبتغاي الأخير، حيث زهرة عمري في حانة عقد التوراة، في مدينة الملائكة والشياطين والمردة والبشر، منطوياً على قلب من ياقوت أحمر، وروح مخلوقة على عين صاحبها.
هنا، أيتها الكرخاء، منال عمري.
هنا، أيتها المدينة التي خرّبها أهلها، حلمي غير محدود النهايات.
هنا، يا واحة الأشواق،
الله والإنسان، وصورتهما:
البريئة والمُدانة،
العاشقة والناسكة،
الميتة والخالدة،
سالمة المتولّي.
***
الكرخاء رمل.
… ولا تزال القرية تستدير على نفسها منذ الحقب التي تلت تكوّن العَماء، عندما أَفاضت الياقوتة الحمراء على نفسها، فخلقت العقل، وهي الآن تلتوي على نفسها مثل أصَلة جنة آدم، حتى يوم الناس هذا. ومع هذا الدوران السادر في عطن الإبل وعراك الصِّلال وقراءة المراثي المستعادة من جوف بكائيات الدهور الخالدة، نُشرت الجثامين من أَرماسها، وانتشر النمل الأحمر على جدرانها وفوق تلالها وبين فجوات صخورها، وظهرت خيولها وحميرها وبغالها تتبوّل على أفخاذها الهزيلة الكسيحة، فتبيّن للعابرين أنهارها والمختفين في جحور وديانها وجبالها، أيَّ وبال حَطّ على أسطح البيوت وشواهد القبور وعيون الآبار، حتى غطّى الجدب منابت النخيل، وساح نزيفُ الأرض الحَصراء السَبخَة على ما تبقّى من القيعان المكشوفة لتلك الأنهار المندرسة، وفرّت طيور الفاخت من ذروات النخيل ذات الجذوع السود، ولم تعد ذكور الضفادع تنقّ فوق سطح المياه الخضر في البرك البعيدة على ضفّتيّ النهر الكبير، ولم نَعُدْ نسمع أيّ تغريد للعنادل السّكرى، إذ لم يَبْقَ في قريتنا المظلومة والظالم أهلها، بقيّة من شجرة تين أو غصن من كرمة. إنها القارعة: أهكذا أكلت المدينة نفسها وأبناءها وتاريخها وفنونها وآدابها، بعد أن صارت أبراج مكاتب وزرائب مطايا وسباعاً مستأنسة لدكتاتور أو غازٍ أو جلاّد أو مقامر أو محدث نعمة أو تاجر حرب؟! الكرخاء مستوطنة جديدة لمستوطنين جددٍ، الكرخاءُ رمل وأشلاء أشباح.
الرمل في فراغ. الفراغ في كأس. الكأس في قارورة. القارورة عَماء تصطخب بين جنباته كائنات لا تُرى بالعين المجردة وحيتان عملاقة وزواحف بأجنحة من حديد ورؤوس بشرية، وثالثة من سلالات القوى الكونية العمياء، تتعارك بسيوف وبلطات ورماح ومُدى ونيران تنطلق من أفواهها وأُنوفها وأَدبارها، وتتكلم بلغات لا قِبل لبني قومنا بها، ولا يشبهها سوى هذا الغبار الكرخائي الأصفرالثقيل الذي يخترق كل مَسامة في جسدها، ولم ينْجلِ عنها في أيّ يوم من أيام تاريخها السحيق، حتى صار أهلها وسكانها أشلاء من غبار، رأيتهم في كابوس من كوابيسي التي ما انفكّت تحاصرني آناء الليل وأطراف النهار ينسلون من كل فجٍّ عميق، بقايا أشباح راجلين وركباناً نحو بيوتنا الغبراء بعد أن صارت غباراً خالصاً، بيوت لا تصاوير فيها سوى الصورة الوحيدة المنسوخة للرجل الغامض الذي يسكن في مكانٍ ما في البرج ذي الطوابق المئة خلف السور الصلد والمرتفع مثل سيف بثلاثة أشداق، مع جنده بزيّهم الترابيّ الواحد، وحرسه الخاص من أولئك الأغراب بسحناتهم الغريبة تماماً عن أهل الكرخاء الأصليين، وأرديتهم الخضر المُموّهة التي لا يشبهها سوى ذروق الطيور المنتشر على أفاريز حيطان المساجد وذروات المعابد. والكرخاء مساجد وصوامع لا يذكر اسم الله بين جنباتها، وسجون وثكنات ومكتبات وشوارع ومتاحف وخمّارات ونواد ونقابات وأحزاب كلها من غبار، أنهار وجداول وسواقٍ وبطائح ومستنقعات، هي رمل في غبار.
هذه هي الكرخاء كما وصفها رامبو في كتابه الشعري الأول الذي حمل عنوان «قرية من رمل»، عَقِبَ أن حاز على تقريضٍ نادر من منعم الخسران، بعد أن سحب نفساً عميقاً من سيكارته التي يبرم ورقتها، عادة، بأصابع كفّيه حين كنّا في حانة عقد التوراة.
«أنت تجيب على سؤال مهم في نصوصك يا رامبو».
«ما هو؟».
«ما هو الشعر؟. بل قل: ما هو الفن؟». قال منعم الخسران، ومضى مبلوراً بقية سؤاله «هل كنت على بيّنة من هذا من قبل؟».
«لا أتذكر أنني فكرت على هذا المنوال».
«الفن هو الحياة والطبيعة. والحياة والطبيعة لا تخضعان لأيّ تعريف مسبق».
«نعم. الفنّ مثل الطبيعة، يرفض النظريات».
«الفن هو الطبيعة».
«وكذلك الشعراء والكتّاب والرسامون والنحاتون والنفّاجون وبقية طوائف الفنانين. إذا كنت تريد قتل الفنان فافرض عليه نظرية. أيّ نظرية. الفنان صانع قدير. وهذا وحده يكفي للقول إن فلاناً مبدع». قلتُ لمنعم.
رأيت رامبو يتفكّر في حديثي مع الخسران فقلت «عزيزي رامبو، أيّ تعريف مسبق لأيّ نشاط إنساني، يتضمن ما كنت أُسميه: نهج دكتاتورية الخط الواحد في الحياة والفن، هو العفن تماماً».
«هذا صحيح. أنا أدعو إلى تحطيم الأوثان في الشعر والأدب والحياة».
أخرج منعم الخسران، حُقّاً فضيّاً صغيراً من عُبّه، والتقط من داخله شعيرات دقيقة بإبهام كفّه اليمنى وسبّابتها، شعيرات شقراء دقيقة وضعها في كأسه وقال «اسمع عزيزي رامبو، الفنّ لا يسمّى فنّاً إلاّ إذا كان مفعوله في روح الإنسان مثل مفعول هذا»، وأشار إلى باطن الحقّ.
«الأفيون» قال رامبو.
«الدخول في مناطق غير مكتشفة في روح الإنسان وجسده».
«الفن غايتي».
« قل ما تشاء. اغتمار المجهول هو الطريق إلى الفردوس».
كان كنعان الشاطري ينشر مقالات أدبية قصيرة في جرائد الحكومة، ذات مضامين مبهمة بأسلوب غامض. وقد وصفه إبراهيم الملحد عندما غادرنا معتقل «القصر الملكي» بأنه «مترجم فاشل لنصوص أكثر غباءً. لم أتعاطف مع رأي الملحد، ولا مع تعليق نادر أطلقه موفق الساحر، إن فكر رامبو الشاطري أحد أسباب هزائمنا في حروب الكرخاء». كان هذا التعليق يعني لي كثيراً بعد أن عاشرت الساحر بما يكفي لأنه كان يربط رأيه بهذا أو ذاك بقدر ميله الجنسي إليه من عدمه. ولكنه يكون -غالباً- ذاتياً محضاَ في أحكامه، وربما هذا هو الذي جعله ساحراً في أناشيده.
لوحة: حسين جمعان
« أنا أنقُطُ مَحبًة».
« محبة أم جنس؟».
«ماذا تقول أنت؟».
«أنت نشيد جنسيّ صارخ».
«وهل يوجد حبٌّ خارج الجنس؟».
وعندما استقر المقام بكنعان الشاطري أخيراً في «عرصة السوامرة» بالمدينة، اعتكف في سكيك المكتبات حتى لقّبناه بـ»دودة كتب».
« أنا مسرور لهذا الوصف».
« حقاً؟. لماذا؟». سأله الساحر.
«لأنه يعفيني من الجواب على كثير من تعليقاتكم».
ولمّا لم يجد سبباً يقنعه بهزيمة الكرخاء أمام الغزاة الخارجيين والانقلابيين الداخليين على سؤاله القصير (لماذا خسرنا الحرب؟)، أخذ ينشر تلك المقالات القصيرة في تلك الصحف (التي يقرؤها محرّروها فقط) على وفق رأي الساحر. لكنه خرج علينا ذات يوم بنصّ قصير نشره في صحيفة «الوحدة» عنوانه (وحدتي تحاور رامبو)، ما دعا موفق الساحر إلى أن يدعوه بـ(رامبو). كان الساحر مغرماً بسلوك «رامبو» وحياته الخاصة، لكنني أشكّ كثيراً في أنه اختار سلوك «فيرلين» وحياته مع كنعان الشاطري.
***
…. وعندما كان رامبو يقرأ علينا في حانة عقد التوراة قصيدته الطويلة «امرأة الرمل»، هبّت سارة المتولّي واقفة وهتفت «نخب الفن والشعر والجمال والحرية. نخب الفوضى». وعند ذلك ساد الصمت في قلب الحانة، وشاهدت دهشة الروّاد وقد أخذتهم كلماتها. كانوا صامتين كأنهم في مقبرة «وادي السلام» في ظهيرة يوم في شهر تموز، وهكذا هي سارة دائماً: امرأة التصرفات اللامتوقعة والمفاجآت والشذوذ، إنها الكرخاء التي رأيتها في جسد سارة المتولّي وروحها، في تبذّلها المستهتر وأدبها الرفيع والمتعالي، في كل حركة من جسدها أو في نظراتها، في صخبها الصموت وصمتها الصاخب.
«أنتِ موسيقى تضجّ بصمتها».
«أنتَ تتكلم عن بيتهوفن. أليس كذلك؟».
«أنتِ التي أعنيها الآن».
«أنا أٌنثى هيّأت نفسي لأكون جديرة بحياتي».
أشرقت ضحكتها الساحرة في الفضاء الأزرق الشفيف، وختمت غامزة: «وجديرة بالاستعمال ايضاً».
« أنتِ حواء بعيداً عن أَيّ جنة. أنتِ الجنة».
أبعد الخسران نظارته الطبية عن عينيه، فظهر عَمَصهُ التام، ثم سحب نفساً عميقاً ثانياً من سيكارته، ومجّ مجّة رابعة من كأسه، واستمر يتأمل في سارة، كما يتأمل صابئي ماهر في خَشْلٍ يعود لسيدة سومرية هي التاريخ كلّه، وخاطب معبوداً لا يراه أَحد سواه:
«أحسنت. أحسنتَ خَلقا أيها الفنّان المبدع».
وسارة المتولي امرأة لا تشبه سوى سارة المتولي ذاتها (كتبت في مذكراتي ذات لحظة)، إنها تريد أن تصنع قدرها بنفسها وتقوده إلى نهاياته، كما لو أنها تصرُّ على أن تنفي أيّ علاقة لها بما هو خارج روحها وجسدها. كانت تبدو لي كأنها تحوّل الإنسان إلى إله، ثمّ تتعبّده، وهي في جدل لا ينتهي مع نفسها، أو في حلم عميق، أو مسافرة في عوالم قصيّة وبعيدة المنال. وفي تلك الأثناء كانت تعيد طرح سؤالها الأثير «منيف، ما معنى هذا كله؟».
«يبدو لي أنَّ معناه، في هذا السؤال ذاته».
وقرّبت شفتيها الفاتنتين إلى كأسها فكشف ضوء الحانة القسم النافر من ثدييها الناضجتين، وانتثرت خصلة من شعرها الأسود على جبينها الذي أشرق وسط العتمة الزرقاء بخيوط بيض فبانت مثل نافذة قصيّة مفتوحة الضلفتين في مركز غلالات من ثلج وغبار وبساتين بعيدة، عندما ينفرز الخيط الأبيض عن الخيط الأسود.
«كلما قلت إنني أعرف، أكتشف أنني لا أعرف. يا لخساراتك يا سارة».
« يا لك من سعيدة. هذه هي المعرفة».
أعادت عليّ سارة حديثاً طويلاً مع روحي حول مفهومي للخسارة حين قلت لها «خسارة الروح هي أُمّ الخسارات». ثم تريّثتُ قليلاً وقلت:
«سارة، ربما تكون خسارة الناس نعمة ضخمة».
«أنت مسيحي؟».
«جديّ الأول مسيحي».
«وجدتي لأُمّي يهوديّة».
وكانت قالت لي حين كنّا عائدين إلى الكرخاء من بيروت ذات سنة بعد أن نجونا من القتل في جبال مدينة «إربد» الأُردنية: كفانا تعباً.تعال نرجع إلى فراغنا المثير.تعال معي إلى الكرخاء.
«الكرخاء هي الشذوذ بعينين ورأس ونفس وقلب».
«كما تقول، منيف. وهذا هو سرّ هذا العدد الكبير من الشاذّين فيها على امتداد تاريخها».
كان جسدها يضحك كله في تلك اللحظات، حتى كادت تقع على ظهرها لولا جدار الحانة الذي أنس إلى حرارة جسدها،
«الشذوذ الفلسفي».
وقالت بعد برهة من الصمت «أيّ عبث فلسفي هذا الضجر الإلهي يا منيف؟».
«ربما هو أساس الخلق. نعم إنني أعني ما أقول».
«منيف، أنت مُترف كثيراً، وفي كل شيء».
«لا يشغلني هذا قط. لا يشغلني أيّ شيء سوى أسئلتي».
«ستاليني يسأل؟ هذا عجيب!».
«أنا أحترم ماركس.أنا أبحث في شأن مسألة الوعي والمصير الإنسانيّين. المسيح وقيصر. محمد وماركس».
«ماركس لم يكن حتى ماركسياً؟». وطوّحت بشالها الأبيض فبدت كأنها سفينة تشقّ غمار ديجور كحلي هائج.
«ومحمد؟».
«أفضل من أعاد تنظّم السلوك الجنسي في المجتمع المكّي كما قال تروتسكي».
كنا نمشي خفيفين على درب ازدحم بالأوراق الصفر بين صفّين من أشجار البرتقال والنارنج والرمّان في طريقنا إلى «حانة غيفارا» فوق رابية تكاد تسقط على المحيط الأخضر الفسيح.
وكان ذلك الأصيل أحد منحنيات شعوري بأن سارة تكون امرأة مكتفية بذاتها في تلك اللحظة التي تشتعل رغباتها في أن تكون جزءًا من حركة الطبيعة، سواء كانت منفردة مع نفسها، أو تمنح رجلاً تحبّه كرماً غير ذي حدود من روحها وجسدها بجوار نخلة مذبوحة في بستان مهجور، أو في حوار فكري عميق مع صديق، أو حتى في خلوة مع جلعوط البغدادي.
«كل حركة من جسدي جزء من حركة الطبيعة».
«هكذا؟ هذه هي الموسيقى».
«لا حركة نشاز عندي. إنني أخشى على الوجود من الانفجار، إذا ما صدرت منّي حركة معاكسة لقوانين الطبيعة الأَزلية».
«هل تحدثتِ مع البغدادي بمثل هذه الأفكار؟».
«جلعوط غريزة فقط».
«هكذا يعتقد الساحر أيضا».
«أووه، إنهما صنوان في أمور أخرى».
وأكملت غامزة «الغُلامة».
كنّا نسير كأنّنا نطير فوق بساط الأوراق الصفر، وكانت سارة تؤدي حركات راقصة بسرعة ودقّة مذهلتين، فتتحول حافة تنّورتها القصيرة إلى دائرة زرقاء، يظهر منها فخذان صبّا كأنهما عمودا رخام صاف لم تَدُسْه قدم بشريِّ، بين مساقط أضواء قوس قزح، في فضاء يتنفس عطر جسدها الذي بلّله نثار من العرق الفرات. ثم انغمرنا في قُبلة طويلة، تغطّي جسدينا الأوراقُ الأولى لشجرة الحياة، ونغرق في رحيق عشب مهروس، ورائحة طين أسود يلتصق بجسدينا العاريين.
«رائحة العشب المهروس. آآآه. إنها تدوّخني».
تنفست سارة بعمق، ثم همست متأوّهة «عندما تضع كفيك على خاصرتيَّ أشعر أنني أحترق». والتصق جسدانا ونحن ننزل من شرفات الأرض سراعاً نحو الغياب الفردوسي الكامل. وكان جسدي لا يزال يرتجف مثل َفَرخِ حمام خرج للتوّ من بركة ماء دافئة وصغيرة بعد ظهيرة شتوية ماطرة في كرخائنا العزيزة.
ولكن، لماذا يحدث هذا لي مع سارة فقط؟
لوحة: إسماعيل الرفاعي
***
في مقهى غيفارا التقيتُ موفق الساحر وشاباً كان ينادي عليه الساحر باسم رامبو،لأنه كان كثير الشبه بالشاعر الفرنسي الأشهر، حتى نسي كثيرون بعد ذلك اسمه الأول وكنيته العائلية. وكان كنعان الشاطري سعيداً باسمه الجديد إلى درجة الافتخار، حتى أنه لم يعد يعير بالًاً لمن ينادي عليه باسمه القانوني. أشار إليه الساحر:
«هذا هو رامبو الكرخاء».
ولم أسال الساحر عن الرديف الكرخائي لرامبو الكرخائي. وحين قلت له إنني لا أشك في أن «فيرلين» كان وحشاً على غرار «دياكلييف» مع «نجنسكي»، نظر إليّ الساحر معاتباً وقال إن ذلك الثري الروسي كان وحشاً مفترساً، والوحش عنده غريزة الامتلاك والقتل فقط. الوحش لا يعرف الحب.
«احتلال جسد إنسان آخر ليس حباً».
«أنا أتكلم في الحبّ، منيف».
«ربما أنت تتحدث عن الحب الأبيض؟».
«أتمنى أن تكون محقّاً».
«أتؤمن بالحب الأبيض حقّاً؟».
«بل أتبنّاه».
«هذا ما رايتك عليه في السجن».
«الحب في السجن معادل للحرية».
«الحب أَم الاشتهاء؟».
«الاثنان».
وكانت تلك اللحظة الفريدة موعداً لم أُخطّط له ولم أسعَ إليه. لكنه واجهني في بطن المقهى المطلّ على الساحل الأخضر بمدينة الجزائر.
«أنا سعيد جداً في هذا اليوم».
«وأنا محظوظ فعلاً».
كانت المقهى التي يشبه بطنها جوف طائرة نقل بريد متقاعدة تبدو صامتة تماما، بينما بقيت سارة المتولي صامتة كذلك، ترسل بصرها نحو أرضية المقهى المدهونة بزيت تنظيف تنبعث منه رائحة كحولية حادة. وكان الساحر يتحرّاها بعينيه اللتين تشبهان عيني أُنثى فهد تتابع فريستها ليلاً.
«أنا مسرور بكما يا منيف».
«هذه سارة. سارة المتولي»، أَومأتُ بكفي اليمنى نحو سارة.
«أنا وسارة نعرف بعضنا»، قال الساحر، «منذ زمن بعيد»، مستمراً في ملاحقتها بعينيه اللتين تشبهان بيضتي دجاجة مسلوقتين لم يتم تقشيرهما بعناية.
استمرت سارة في صمتها، تنظر إلى أرضية المقهى، بعد ذلك جلست على كرسيّ مقابل للساحر، وإلى يسارها جلس رامبو.
«نعم. نحن نعرف بعضنا».
«منذ زمن بعيد؟».
«منذ زمن بعيد». ردت مبتسمة.
أفردت سارة سيكارة من علبتها بين أصابع كفها اليسرى. واستمر الساحر يلاحقها بتلك النظرة التي لا تصدر سوى عن فهْدَةٍ تتربّص بطريدتها ليلاً.
«ماذا تشربون ؟»، سأل الساحر هادئاً.
«عَرَق» أجابت سارة، وأكدتْ «عن نفسي فقط».
رفعت عينيها السوداوين الفاتنتين نحو موفق، وثبّتت شعر رأسها خلف أُذنيها، وأرسلت إليه سحراً جعله يرخي جسده قليلاً قليلاً، ثم كسرت سيكارتها من منتصفها وقدمت له نصفها الثاني:
«موفق، يبدو أنك قد شخت؟».
نظر إليَّ بابتسامة مصنوعة بعناية من دون أن يطلب من سارة ناراً لنصف السيكارةً، وسألني:
«وأنت، ماذا تقول؟».
«إنه الزمن يا موفق».
« نعم. هذا الجبار العنيد الذي لا يعرف صديقاً». قالت سارة المتولي.
«ولكنني لا أزال أُغني. ألا يكفي الغناء للوقوف بوجه هذا الجبار؟». ثم قال بعد برهة قصيرة كأنه يتحدث إلى كائن آخر:
«لم يهزمني الزمن بعد».
وبعد أن دارت الكؤوس بيننا، وغادر آخر الرواد بطن المقهى، قالت سارة تقطع صمتنا وتأملاتنا:
«سنغنّي».
أومأ موفق برأسه، ثم جاء صاحب المقهى فقال له الساحر:
«أغلق الحانة يا سي بلحاج».
كنّا في صندوق حجري، لا يشبهه سوى ذلك الصندوق الحديدي في «قطار الموت» (الذي كان ينطلق من بغداد متجهاً نحو «نقرة السلمان» ماراً ببابل والسماوة، حيث كنّا نغني أو نردد أناشيدنا: كانت تلك الوسيلة المتاحة للمقاومة والتمسك بالحياة، بينما كان الأُوكسجين ينفذ تدريجيا في تلك العربات الحديدية التي تجرّها عربة بخارية غاضبة. في البدء دخلت إلى زنازيننا، الفردية والمشتركة، مجموعات الحرس القومي، وأَمرونا بالتخلص من ملابسنا، سوى قطع ملابسنا الداخلية، والبقاء واقفين وأَيدينا مرفوعة نحو الأعلى. استمرت هذه الحال نحو اثنتي عشرة ساعة، تماماً منذ ما بعد منتصف الليل حتى الصباح التالي في ذلك النهار الحار والرطب. شعرنا أَن جلودنا تقشرت عن لحم أَجسامنا، ثم حشرونا في سيارات أَحمال كبيرة سارت بنا نحو محطة القطار، في كرخ الكرخاء، حيث أَدخلونا جميعا في تلك العربات الحديدية التي بلا نوافذ، اللهم إِلا من أبواب حديدية صلبة جداً، تمَّ إِحكام إِغلاقها علينا، فشعر كل واحد منا نحن الجنود الذين بلغ عددنا نحو مئتي ضابط وجندي، وقالوا لنا: لا نريد أن نسمع من أَيّ واحد منكم، أَيّ كلمة احتجاج) لكننا لم نكن نملك سوى الأَناشيد وأغاني العشاق المفارقين. لم يكن معنا سوى الفن.
«بالفن نلاعب الزمن».
وبحركة رشيقة من يدها اليمنى، عبّرت سارة المتولي عن تأييدها لفكرتي وقالت:
«الفن. الخلاص في الفن كما قال العجوز الروسي النبيل».
«الرحمة لروح تولستوي العظيم».
وتلك كانت ليلة من ليالي عمري التي لا يمكن وصفها بتفصيلاتها الدقيقة أبدا. وهكذا هي حياتي أيضاً مع موفق الساحر في السجن الصحراوي البعيد: أغنية متصلة وساحرة. أما بعد أن تقاربت بنا الديار، فلزمتُ نهاية مفازة لا تبعدني عن منزله سوى فراسخ معدودة، بعد أن شاخ جسده، وخمدت قواه، ولم يبق منه غير عينين مثل بيضتي دجاجة مسلوقتين لم تقشّرا بعناية، تتّقدان شهوة وعنفاً.
كان موفق الساحر يمنح نفسه امتيازات متواضعة، لكنه يحسبها مستويات خاصة به في نظرته إلى نفسه، لا سيما في تلك الأمسيات الصائفة أو الباردة في باحة سجن نقرة السلمان الصحراوي: يتناول كسرات من رغيف بارد من شعير كرخائي مدهون بزيت سمسم ذي لون أخضر داكن.
«هذا لتزييت إطار الحنجرة «.
ويطلق ضحكة غامزة نتجاوزها إلى الأغنية المرتقبة، ثم نتكوّر على أنفسنا ويبدأ كل واحد منا في النظر إليه كما لو أنه يغنّي له وحده. وعندما ينبعث صوته الخشن عبر شفتيه الشهوانيتين، مصحوباً بتلك الأنّة التي تشبه تنفس أسد عجوز، أترك مجلسي المنفرد على ذروة برميل بترول فارغ، وأتقدم نحوه، بينما السجناء تحوّلوا الآن إلى كومة عواطف مركزة، وأدع جسدي طوع صوت طبل سومري يأتي من أعماق معبد بعثت به الكرخاء إلى عاشق لم يبرأ من الحب أبداً، ثم أسقط مغشيّاً عليّ.
تلك كانت أجمل رسائل أبعث بها من السجن إلى روحي، حين كان يتوجّب أن أُقاوم الجنون والخوف بالفن والشعر والصمت والهذيان. وكان موفق يعرف تمام المعرفة أنني نقيضه في الحب والفن والبراءة، كان هو يمتهن جسده في حالات من الشبق الجسدي، بينما كنت أحافظ على جسدي بطهرانية الكتابة والتمسك بحريتي الفردية: هذا هو السجن، الحرية في مفهومها الأصيل،أن تتشوّه، أو لا تتشوّه. تلك هي المسالة.
***
… وكان ذلك المساء مفعما بالفرح والسعادة، والدموع أيضاً. تذكّر كل واحد منّا تاريخه الشخصي والرفقة التي ربطت فيما بيننا وكأنها العملية الأولى في التاريخ التي شهدت هذه التوأمة في الأفكار والآمال والمصائر، والجرائر أيضاً. ولم تكن جرائري، على وفق تعبير رامبو، أًحيانا، سوىً شجرة حياتي التي أًدعوها غابتي،عندما أَنفرد بنفسي، وفي حدث خاص جداً، عندما كنت مع مسعود المولى، وهو ما رأَيته في صدر سارة المتولّي عندما كنا في المقهى الجزائري. قال مسعود، بأُسلوب أَكثر وضوحاً وطلاقةً ومروءةً، وخجلاً أَيضاً «أَنتَ ابن أُختك». وأَشار إلى صدره.
«مسعود، هذا يرعبني».
وكان صدره يختفي عن العالم وراء قميص أَصفر بلون الرز العنبر قبيل حصاده، فوقه دشداشة بلون أَسود، لا تشبه إلاّ لون دشاديش النساء الكرخائيات في الأَشهر الحرم، بعدها صايته الوبرية الصفراء، ثم عباءته العبّاسية.
«مسعود، أَرجوك».
«لماذا؟ أَنا امرأة معك، ورجل أَمام الآخرين». ثم شقَّت قميصها العنبري، ليبرز ثدياها العامران.
«لم أُعاشر رجلاً غيرك».
والآن، ونحن نعود إلى الكرخاء، أو نجلس في مقهى غير بعيد عن البحر، تعود إليّ صور حياتنا التي تفرّدت عن غيرها في أوضاع ملتبسة ماضية، حيث اختلط هوى الشباب بالرأي الناضج، وتتداخل فيها الآراء الجامحة بحكمة عمر النبوّة، فقالت سارة المتولي لو أن الملحد يحضر الآن لاكتملت فصوص المسبحة. وكان ذلك لافتاً لانتباه مسعود ورامبو.
«أتعرفين إبراهيم يا سارة؟» سألها مسعود.
«وغيره كذلك». ردَّ موفق كأنه يدلي بشهادة مؤكدة ونهائية أمام هيئة محكمة غير منظورة.
لم أستغرب ملاحظة الساحر. كنا نحن الثلاثة: أنا وهو وسارة نعرف إبراهيم الملحد، ذلك الروزخون عندما كان إماماً للجماعة في مسجد بليدة «الميمونة»، بعد أن حاز على درجة «الأستاذية» من حوزة كوفان، وقد امتلأ كيانه كلّه بفكرة تخليص العالم من البؤس والشقاء وصراع الطبقات. بل إنه بعدما تعمَّمَ صار يشعر بثقل هذه الأُمنيات حتى صارت واجباً ضميريّا لا يقدر على تبليغه إلا من وهب روحه لله فقط.
«أنا أمّمتُ نفسي بنفسي».
لوحة: عمر إبراهيم
«له؟».
«له هو؟».
«نعم، له هو، لا لغيره».
كان شغله الشاغل اكتشاف وسيلته الخاصة لتغيير العالم في الكرخاء، فقال لي بثقة ذات يوم إن الهور الجنوبي، وليس البلدة، أفضل بيئة لاختبار أيّ فكرة ثورية جديدة بالكرخاء».
«لماذا؟».
«ليس عندنا قرى مثل المدن البريطانية، أو حتى المصرية». ثم تراجع إلى الخلف قليلاً:
«ليس عندنا طبقة بورجوازية. البورجوازية صانعة المدن الكبرى ومؤسساتها. أما الريف فهو الفلاحون. نحن فلاحون حتى وإن انتقلنا إلى المدن التي صنعتها الكولونيالية البريطانية».
وحين بدأ حياته معلّماً في المدرسة الوحيدة بالميمونة، كان يطبّق فرضيته تلك على واقع موصوف تماماً، وما زاد في قناعته تلك المناظرات التي جرت مع أول داعية شيوعي زار القرية. قال الأستاذ سعد النمر «إنّ الطبقة العاملة العراقية هي التي ستحطم الدولة البورجوازية الحاكمة في العراق، لتقيم بدلاً عنها دولة البروليتاريا العراقية».
« ولكن..!، لا توجد طبقة عاملة صناعية في العراق».
«يوجد من ينوب عنها».
«من هم؟».
«نحن، المثقفون».
وكان ذلك مثاراً لسخرية إبراهيم بن علي الحربي، حين يلتقي نفراً من الدعاة السريين للحركات الاشتراكية الأولى في بلادنا التي دأب الرحالة الأجانب على وصفها ببلاد النهرين الكبيرين منذ النصف الأول من القرن السابع عشر.
«إذا كان هذا خياركم الأخير، فعلى الكرخاء السلام».
كانت توقعات الملحد صحيحة. فمع أول هجوم من العسكر المتحالفين مع المثقفين والدعاة القوميين المتعصبين سنة 1963، ترنّحت المنظومة العمالية المفترضة التي يمثلها المثقفون الاشتراكيون، وانهار بناء منظّم استغرق تشيده بالآلام والحرمانات والسجون والتشويه والمنافي على امتداد عقود زمنية متواصلة، في غرف معتقل القصر الملكي الذي حوّله أولئك القوميون إلى أحواض لماء النار والاغتصاب الجنسي وانتزاع الاعترافات.
«لم يُصبنا الانهيار أَبداً».
«لقد مسخوكم من القمة إلى القاعدة».
«القمة، المثقفون، هم الذين مسخوا أَنفسهم في القصر الملكي».
كنت هناك في سنة تالية، في تجربة أخرى مع هؤلاء القوميين، وشاهدت كيف انهار المثقفون الأصنام أَيضاً، بعد ضربة واحدة من كفّ شاب لم يتعلم بعد بما فيه الكفاية فنون التعذيب العربية التقليدية.وهناك التقى رامبو بإبراهيم الملحد أيضا، كما التقى للمرة الأولى في حياته بالذي صار صديقه فيما بعد، جلعوط البغدادي. جلعوط الذي احتاز على وظيفته الرسمية بعنوانها الجديد على ثقافة الكرخاء وتقاليدها: «مُغتَصِب».
وفد جلعوط البغدادي على الكرخاء، وكأنه يهرب من حياة سابقة. اعتزل الناس تماماً، اللهم سوى لقائه الأُسبوعي في يوم الجمعة من كل أسبوع، قبل الصلاة، في بُقجَة بستان بيت جاني مع مجموعة المصارعين ورياضيي الجمال الجسماني والشعراء الشعبيين ولاعبي القمار، حيث كانوا يمارسون هواياتهم قرب جُفرَةٍ بجوار نهر الكحلاء، تتصل بالشريعة التي كانت تزدحم بالفتيان والفتيات في الظهيرات التموزية والشباطية. لكنه بقي سؤالاً حائراً على ألسنة أهالي عرصة الماجدية: «من هو هذا البغدادي؟»
***
ومنذ تلك التجارب القاسية والمريرة، كفر إبراهيم بن علي الحربي بكل شيء ولم يعد يؤمن إلاّ بنقد أَيّ شيء في الحياة.
«الزبدة عندي أن النقد، نقد كل رأي ومعتقد، هو دين الإنسان».
«هكذا ترى الإلحاد؟».
«نعم».
وكانت خطوته الأولى أنه قام برمي عمامته البيضاء في برميل عَرَق مصنوع ببلدة دَيالا القريبة من الزوراء: دخل إلى حانة عقد التوراة بزيّه العبّاسي التقليدي في ظهيرة يوم جمعة، حيث كان جمهور من أبناء المدينة يؤدون الصلوات التقليدية، واضعاً المسجد الكبير خلف ظهره، وخرج من الحانة سكراناً يلعن الشرق والغرب، كافراً بالعقائد الدينية جميعها، وهو يردّد «خلاصنا في الإلحاد»، وكان ذلك مدعاة أخرى لأساطير جديدة تناولها عجائز الكرخاء عن قرب حلول الساعة وظهور آخر الهداة الكُماة، حتى أن السيد القزويني، خطيب الحُسَينيّة المسمّاة باسمه صرخ ذات ليلة بعد أن ألقى عمامته السوداء على الفلاحين الذين كانوا يستمعون إلى خطبته المعادة «اقتربت الساعة وانشق ّ القمر، وسيظهر مولانا المهدي حفيد سيد البشر».
وران صمت مهيب على جمهرة الفلاحين والكسبة والشحاذين وصغار الموظفين الذين كانوا يستمعون إليه فاغرين أفواههم تحت منبر الحسين وحوله.
وكانت حانة عقد التوراة، تشبه هذا المشهد العاشورائي، عندما يمضى الهزيع الأَخير من الليل، ويخلو كلُّ خليل إلى خليله.
وكان الساحر يتذكر الآن، ليلة، ليلة أَشدّ من أن تكون ليلاء، في السجن الصحراوي البعيد عن الكرخاء.
الشارقة
إشارات:
ـ من استهلالات للنص الروائي، بالعنوان ذاته..
ـ الكرخاء: هي بلدة «الكرخة» في بلاد الأحواز العربية،
تقع على نهر بالاسم ذاته، بـ»هور الحويزة» بين العراق وإيران.
وهي»الإسكندرية» التي مرّ بها الإسكندر العظيم في طريقه إلى الشرق.
وهي واحدة من بليدات صغيرة تدعى: اليشن، اشتغل عليها الكاتب منذ البواكير الأُولى لمشروعه السردي في سنة 1963ـ 1964.