حتى لا تصبح "الجديد" خبراً قديما
ليس مصادفة أن تكون مجلة “الجديد”، التي تصدر من لندن منذ 2015، أكثرَ المجلات العربية شهرة وطموحات، وجرأة ومغامرات فكرية، وجدّة طرح وقوة رأي. ذلك أن أول مجلة بالمعنى الحديث إنما صدرت من لندن، قبل نحو ثلاثة قرون من اليوم (1731). حدث ذلك يوم ارتبط ظهور المجلات بالمدينة الحديثة، وهي المنابر الثقافية التي شكلت وعي المثقف واحتضنت قراءاته وتصورَه وتحليلاته… ولما ارتبطت المجلات بحرية التعبير أمكن أن نفهم سبب نجاح “الجديد”، وهي تصدر من “المنفى الثقافي” لمؤسسيها، ولعدد من محرريها، بعيدا عن أشكال الرقابة الجديدة التي تمارسها مجموعة من الدول العربية على الحق في التعبير، والحق في الحلم بالتغيير، وفي الممارسة الثقافية الحقة والمستقلة…
خزانة الأدب
يقترب مفهوم المجلة في تراثنا العربي من “خزانة” البغدادي، ونظائرها في كتب “الأدب العام”، الذي يشمل الشعر والنثر والفكر والنقد والتاريخ والعلوم الأخرى… ذلك أن كلمةMagazine التي أطلقها إدوارد كِيف على المجلة اللندنية الأولى The Gentleman’s Magazine إنما أخذها من الكلمة الفرنسية Magazine، المأخوذة من الكلمة العربية “المخزن”؛ أي المستودع. والمصادفة الأخرى أن هذه المعاني الاشتقاقية هي التي وردت مجتمعة في التعريف الشهير للشعر، كما أورده العسكري “الشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع علومها”. ما يوحي بأن الشعر العربي كان أول مجلة شاملة عن الثقافة العربية، استعرضت أخبار العرب وأفكارهم وآدابهم وعلومهم…
في حوار أخير أجريته مع الشاعر المغربي المخضرم عبدالكريم الطبال سألته عن المجلات الثقافية، ومنها مجلة “الشراع” التي أصدرها سنة 1961. ينتهي الطبال، في معرض الحديث عن المجلات الشعرية، تحديدا، إلى أن مطالعة مجلة أفضل من قراءة ديوان شعر، ما دامت تقدم للقارئ تنويعا على أكثر من قصيدة وأكثر من تجربة شعرية، أو مجرد صوت شعري منفرد، ولو كان متفردا. من هنا، أمكن القول إن المجلة أفضل من الكتاب، أيضا، حيث تعرض وجهات نظر شتى، خاصة عندما تخصص المجلة ملفا خاصا في كل عدد، وسؤالا ثقافيا أو إشكالا ملحّا وراهنا، بينما يتناوله كل مشارك في الملف انطلاقا من قناعاته الخاصة، واستنادا إلى معارفه وتجاربه، ومجال تخصصه وساحة اشتغاله. كما ظلت المجلات الثقافية العربية منطلقا لأهم المشاريع الثقافية العربية، حين أصدر المفكرون العرب مقالات في مجلات عربية كانت مقدمة لمشاريعهم الفكرية الكبرى، على نحو ما فعل طه حسين وعلي الوردي وقسطنطين زريق ومحمد عابد الجابري وصادق جلال العظم وفاطمة المرنيسي وعبدالله العروي ومحمد أركون وهشام جعيط وعلي حرب… ثم لن ننسى أن المجلات الثقافية ظلت هي المنابر الحاضنة لمشاريع التحديث والتنوير في العالم العربي، منذ “الحديث” السورية الصادرة سنة 1927، والأمر نفسه بالنسبة إلى مشاريع الحداثة الشعرية، التي بدأت مع “الأديب” و”شعر” في لبنان، وقبلها “الأنديس” و”المعتمد” في المغرب، برعاية شاعرة إسبانية، وقبل كل هذا تلكم المجلات الرائدة، مثل “الهلال” و”الرسالة” في مصر، ثم مجلة “ليلى” العراقية، الصادرة سنة 1923، حيث كانت أول مجلة تعنى بقضايا النساء في “الوطن” العربي. كما أن المجلات الثقافية إنما ارتبطت بالمشاريع الفكرية والأدبية والفنية، عبر تاريخها كما فعل أبولينير وإليوت وبيكاسو وسارتر…
ربيع ثقافي
صدرت مجلة “الجديد” في منعطف تاريخي فارق، يوم هبت رياح الربيع العربي سنة 2011. لكن المجلة إنما صدرت ثلاث سنوات بعد ذلك، أي – مجازا- بعد “احتراق الربيع العربي”، أو بعدما أجهضت الكثير من الأنظمة العربية الفاشية أحلام الشباب العربي في التغيير.
من هنا، كان لزاما على المثقف العربي، الذي نزل بدوره إلى الشارع، أن ينتقل من ساحة التحرير إلى ساحة التفكير. أو من ساحات التحرير المطوقة إلى مساحات التحرير المتاحة والمشرعة، لما اختار الشاعر السوري نوري الجراح، وبلاده تحترق، بترحيب من الكاتب العراقي هيثم الزبيدي، القادم من أنقاض العراق، إصدار هذه المجلة. وكان عنوان الملف الأول “الربيع العربي الدامي”، بينما رسمت افتتاحية العدد الأول منطلق ومسارات الخط التحريري لهذا المنبر الثقافي العربي، معلنا أنها مجلة “فكر حر وإبداع جديد”، كما هو شعار المجلة، وكما هي شعريتها ومهنيتها التي اختارت المواجهة النقدية والفنية الخلاقة لما يجري في العالم العربي من أحداث ودماء. ولقد ظلت سائر ملفات “الجديد” ومقالاتها ومقترحاتها من النصوص الإبداعية، والأعمال الفنية، مدفوعة بحرقة السؤال عمّا يجري ويعتمل في العالم العربي، وعن فقدان شروط الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية، إلى درجة فقدان معنى لهذا العالم العربي، كما جاء في الحوار المطول الذي أجريته مع الكاتب المغربي المقيم في فرنسا الطاهر بنجلون، ونشر في عدد يناير 2019 من “الجديد”، حين أعلن واثقا أنه “لا وجود لعالم عربي” أصلا.
يورد نوري الجراح ويُعَدِّدُ في افتتاحية العدد الأول السياقات التي جاءت فيها “الجديد”، والمساقات التي قادت إلى إصدارها، حين جهر الشارع العربي بشعارات وأغنيات، ولمّا رسم جداريات وخطط أمنيات من أجل التغيير، بينما خفت صوت المنابر العربية وتراجع حضورها، فلم تصمد، في الغالب، سوى تلكم المجلات العلمية المتخصصة أو مجلات المنوعات والمشاهير والدعاية “غير المجانية”. وبينما وضع الجراح منطلقا للمجلة، بوصفها منبرا لاستئناف المغامرة الفكرية والجمالية الخلاقة التي بدأتها الثقافة العربية في أبهى لحظاتها، خط مدير المجلة هيثم الزبيدي خارطة طريق “نحو مثقف جديد”، كما جاء في زاويته التي يختم بها مواد كل عدد، وهي غالبا ما تتخذ وعدا جديدا بعدد جديد وأفق أرحب.
ربما كانت “الجديد” ولا تزال تصدع بمشروع التحديث في الثقافة العربية والشعرية العربية على مر الأزمنة، منذ أعلنها أبو تمام “الدار ناطقة وليست تنطق/ لدثورها إن الجديد سَيُخْلَقُ”.
حجر ثقافي
عدا حضورها في بعض المعارض العربية والدولية، لم تأخذ “الجديد” طريقها إلى التوزيع في المكتبات والأكشاك العربية التي عانت من الضياع في السنوات الأخيرة، بسب التراجع المرعب لنسب القراءة في “العالم العربي”. خاصة وأن الجديد إنما تصدر وتطبع في أوروبا، الأمر الذي يزيد من تعقيد مهمة التوزيع، بسبب تكلفة الشحن أساسا، وإكراهات التداول والتبادل الثقافيين.
لولا أن المجلة راهنت، ومنذ انطلاقتها، على الجمع بين نسخة ورقية وأخرى رقمية، ما جعلها تحظى بمتابعة على نطاق واسع. إلى أن حل الوباء بالعالم، نهاية 2019، غداة تعذر طبع الصحف والمجلات، بينا واصل موقع “الجديد” عرض أعداد المجلة على القراء بداية كل شهر، تحديدا، كما يليق بكل مجلة احترافية… ولعل هذه المنصة الرقمية “الموقع الإلكتروني” هي التي ضمنت للمجلة استمراريتها، حين تخلصت المجلات من تكلفتي الطبع والتوزيع معا. ويبقى عرض الصيغة المصففة للمجلة pdf على الموقع الإلكتروني، حيث يمكن تحميلها، واعتمادها مرجعا للباحثين والمتخصصين، فضلا عن المقالات نفسها المتاحة للقارئ، السبيلَ الوحيد لضمان حضور المجلة في المشهد الثقافي، والجسر الذي سيعبر بالمجلات والصحف، وربما بالكتب أيضا، من الحامل الورقي إلى الزمن الرقمي. وهو ما سيضمن للمجلة انتشارا على نطاق واسع، وقراءً من كل الأزمنة والأمكنة، ما لم يُنظر إلى المجلة الرقمية على أنها مجرد ترف وسائطي وتواصلي. وعلى المجلة ألاّ تنفصل عن الوعي بمثل هذه التحولات، على نحو ما فعلت “الجديد”، وهي تخصص محاورَ وملفاتٍ وأعدادا للثقافة الجديدة والرقمية، وللفنون المعاصرة والتجارب الأدبية والفنية المبتكرة.
من هنا، وجب التأكيد على أن “الجديد”، عنوانا وخطا تحريريا وفكرا تنويريا، لا يقتضي من المجلة الحرصَ على جدة المقالة والدراسة وجودة النص الأدبي والعمل الفني المنشور والمذكور في المجلة، ولكنه جديد على مستوى تقديم المتن الأدبي والفني للمجلة، وفق قنوات ووسائط تواصلية جديدة.
أفق جديد
تنتمي المجلة في التصنيفات الإعلامية إلى حقل الإخبار، المرتبط هو الآخر بحق أساس من حقوق الإنسانية عنوانه في العهود والأوفاق الدولية “الحق في الوصول إلى المعلومة”. وبخلاف الصحيفة التي تسعى في نشر سبق صحافي من حق الناس الاطلاع عليه، ومن واجب الصحافي نشره، تتصدى المجلة لنشر معارف وأفكار وطروحات واجتهادات غير مسبوقة. لذلك، ينحدر الاجتهاد والجديد من جذر لغوي؛ صَرفي ودلالي واحد. وبهذا، تضمن المجلة الحق في الوصول إلى المعرفة كما تضمن الصحيفة والنشرة الإخبارية الحق في الوصول إلى المعلومة. ومن هنا، أيضا، تصبح استمرارية المجلة واجبا، ما استطاع المحررون إليها سبيلا، وما استطاع الكتاب والقراء. ذلك أن المجلة، وبخلاف الكتاب، و”المشروع الفني” إنما هي عمل جماعي، كما تقدم، كما أن استمراريتها مسؤولية جماعية ومقاومة ثقافية، ضمن ثقافة الحق، تلك التي تضمن حقوق القراء في المعرفة، وحقوق الكتاب في تأليفها، وحقوق المحررين والناشرين في عرضها، وحقوق الأنظمة في الضرائب المتأتية من أرباحها، مع واجب دعمها أو احترام عملها على الأقل… غير أن مفارقة المجلة، التي تحمل شعار الحديث والجديد، أنها تصير من باب القديم والماضي ما لم تواصل صدورها، وتجدّد مشروعها الفكري والأدبي والفني، نحو أفق جديد دائما… وعليها أيضا أن تستثمر في الوسائط الرقمية لتقديم عرضها الثقافي، وجعل موقعها أكثر حيوية، يقدم أخبارا ومواد ثقافية محينة، تتجدد على مدار اليوم، على غرار نماذج من المجلات الثقافية العالمية، مع الحفاظ على العدد الشهري رقميا وفي صيغة مصورة…
والمفارقة الأخيرة أننا لما نتحدث عن المجلات، بما هي نتاجات وصناعات ثقافية حديثة، إنما نتحدث عنها بصيغة الماضي، وعلى أنها جزء من التاريخ الثقافي العربي. وهذا بخلاف ما يتطلع إليه المثقفون والفنانون، والمفكرون والشعراء، ذلك لأننا أمة تعشق الماضي، وتحن إلى الوراء… ولهذا، نادرة هي المجلات العربية التي استمرت وواصلت مشروعها الحضاري، بينما الأصل في المجلة أن تتوالى أعدادها وتنتظم في الصدور، وهي تشكل وعي جيل إثر جيل، وحين تغدو المجلة عابرة للأجيال، تستطيع، حينها فقط، أن تؤثر في التاريخ، وتغير مجراه.