حجاب الخوف
كان الكاتب بادي ما زال مستيقظا، لقد ألزمه خيط حكاية أن يسير خلفه، فانصاع له في عالم الخيال وهو مستلق على سريره، سمع الضربات الثلاث للساعة الحائطية من صباح الأحد التي غمرت الغرفة فأخرجته من متاهة هذا التصور العسير. كانت بالنسبة إليه هذه الضربات مجلجلة بشكل فظيع والتي قد هزت جدران الغرفة، انذعر لها بادي حتى أنه قد ارتعد من الخوف. بعد لحظة اطمأن قلبه وهدأ روعه فحاول أن ينام إلا أن أصواتا أخرى، لم يكن ينتبه لها حين كان شارد الذهن، أجبرته على التركيز والاستيقاظ. إنه أنين قادم من الخارج، حسبه جشأة (¹)، وسرعان ما اتضح له أنه صوت غير مأنوس لمخلوقات أو أشياء غريبة ذكّرته بأحلام الطفولة البائسة. أرخى سمعه فإذا بالأصوات المتسللة من خلف الباب تهيج رعبه مرة ثانية. أوقد مصباح الليل بجانب السرير وحاول النهوض مرتبكا. هذا الضجيج لم يكن مألوفا لديه وكان من الصعب عليه تجاهله. اشتدت نبضات قلبه. كانت الأصوات خليطا من صرير وطَنِين (²)، أزيز(³) ودنين (4) صليل (5) وهزيم، وكلها أصوات متداخلة خفيضة ذات حِدَّة. انسل الهلع إلى فؤاده واستبد به خصوصا لما وصلت إلى أذنه تلك الحركات الخارقة المنبعثة من حجرة الضيوف. دق الباب فاهتز من مكانه وتدلّى حجاب الخوف أمامه، صرخ عاليا مرتجفا: “من بالباب؟”، وصمت قليلا علّه يميز الواقف خلف الباب من صوته، لكن قرع الباب تواصل بتواتر مرعب دون أن تأتيه إجابة.
في هذه الأجواء الرهيبة تذكر قصص رعب قد سبق له أن ألفها وكانت تنتهي دوما إما باستيقاظ من كابوس أو من غيبوبة مرضية. فأخذ يتحسس جسمه ليتأكد هل هو نائم أم في حالة غير طبيعية. “نعم أنا هو أنا، إلا أني أواجههلوسات الليل، هذا ما في الأمر”. قال في نفسه بتذمّر. قرب منه هاتفه المحمول لإجراء اتصال لكن يده من الرعب لم تطاوعه لفتحه فتركه جانبا.
ثبت عينيه على الباب، تقدم بضع خطوات باتجاهه وقرّب عينه من خرمه ثم قفز إلى الخلف مذعورا، تراجع وكأنه يستعد لهجوم مباغت. دمدم مشتت الفكر من الخوف: “يا ويحي! ماذا يحدث هنا برب السماء؟“.
تشجع مرة أخرى ومد عينه ليرى ما يجري خلف الباب كان عالم آخر قد تشكل: مجموعة من الصخور بأشكال الدناصير قد رصت هنا وهناك على شاكلة أصنام لكنها كانت تتحرك كما يتحرك الغسيل على الحبل بفعل الريح، الفضاء كان عبارة عن أضواء بنفسجية تخفي المنظر الداخلي الحقيقي. خر بادي على ركبتيه مفزوعا وبقي في تلك الوضعية دون حراك وكأن أنفاسه قد انقطعت. فكّر في النهوض وتتبّع ما يجري بالخارج عبر النافذة، فدنا منها أخيرا حبوا، ثم أزاح ببطء شديد بعض الشيء الستارة ومن خلف زجاج النافذة حاول توسيع بؤبؤي عينيه لاختراق ضباب الليل المعتم فتراءت له نقاط حمراء تتراقص فحدق كثيرا ليميز أخيرا في تلك العتمة أشكال حيات عظيمة سوداء بعضها يموج في بعض. لم يعد قادرا جسديًا على أداء أدنى حركة من هول ما يصير بالخارج. لا مفر من مصيبة لم يبق بينها وبينه إلا أن يفتح الباب أو النافدة. “تراني أحلم؟ وإلا فإنه يوم القيامة!” قال محدثا نفسه. بدأت الأصوات تعلو شيئا فشيئا معلنة دنوّها من الغرفة. قرر بادي في آخر المطاف أن يعود إلى سريره وأن يتشهد ويغمض عينه مسلما أمره للأقدار ومنتظرا أن يخرج من الظلام الخارجي كائن بشع ينهي رعبه هذا الذي شل جسمه وأوقف تفكيره. في صمت رهيب من جهته توحدت أخيرا الأصوات في صوت واحد، كان صرير الباب يتكرر حيث كان يفتح ويغلق عدة مرات دون أن يفتح تماما أو يغلق تماما. انتظر بادي مصعوقا أن تقفز عليه تلك الكائنات التي رآها خلف الباب. وماهي إلا لحظة وتحت الضوء الخافت لمصباح المنضدة القريب من السرير، تظهر لبادي المتجمد من الهلع جثة ألقيت أمامه بشكل غريب مع ذاك الضباب الخارجي وربما كان ضبابا عقليا غريبا. أخذ يذرف دموعا حرّى دون أن يحدث نحيبه صوتا، من الغصة شرع في الصراخ وهو يظن أن لن يسمعه أحد. تعاود ساعة البندول جلجلتها وهي تعلن بضرباتها الاثنتي عشرة منتصف الليل.
ويعاود بادي صراخه بقوة مجفلة ويفتح عينه وفي ذهول مميت يرى عبر النافذة المشرعة بريقا ويسمع هزيعا، يهب لإحكام إغلاقها ويتراجع منتصبا بضع خطوات وهو مثبت نظره على النافذة. فجأة رن هاتفه، التقطه برفق بعدما استدار وتوجه إلى منضدة السرير، كان الهاتف ينبهه بموعد منتصف الليل لأخذ الدواء. فرك صمغيه بوسطاه وسبابته اليمنيين واليسريين في آن واحد، محاولا أن يتذكر ما سبق هذه اللحظات، لم يتذكر إلا شذرات مشتتة مما رآه وسمعه، فأرخى بجسمه على المسند بعد أن أخذ حبة من علبة الأقراص، وهو يدمدم ممتعضا: “لعنة الله على هذه الهلوسة السمعية البصرية التي ستقودني للجنون لا محالة.
جُشْأَة (¹): صوت للرياح عندما تهب في الفجر.
طَنِين (²): صوت البعوض.
أزيز(³): صوت الرصاص ويشير أيضا إلى صوت الطائرات.
دنين (4 ): صوت الذّباب.
صليل(5 ): صوت ضرب السيوف أو صوت الحديد.