حدث ما حدث كأنه لم يحدث
I
تهيمن على هذا العدد من “الجديد” المقالات النقدية؛ الفكرية والأدبية. وتشغل مسألة الفلسفة وغيابها وانفلات الفكر التديني ومخياله من كلّ عقال، في تفاعل عنفي، مع ما يرافق ذلك من ظواهر مستجدة في الممارسات الثقافية اليومية في ظلال الحطام والدم المتدفق والمهراق في شوارع الحريق العربي وعلى طول رقعة الجغرافيا المنتفضة وعرضها.
ولسوف نلحظ في الآونة الأخيرة في خطابات مفكرين ومثقفين عربٍ معتبرين ولهم إرث وتاريخ مؤسس في نقد ثقافة المجتمع، ما هو أكثر من ذلك. وهو ما ينسحب أيضاً على التفاعل النقدي مع هذه الخطابات. إنه قلق فكري متجدد، قراءات قلقة في الوقائع. بحث في اللغة وبحث في الظواهر عن تلك الكوى التي يمكن للضوء أن ينفذ منها إلى عتمة الحاضر. وهو ما دأبت “الجديد” على الدعوة إليه انطلاقا من الحاجة الماسة إلى الانتقال المجتمعي من ثقافة الصوت الواحد إلى ثقافة الأصوات المتعددة، ومن ثقافة الفكرة المهيمنة إلى ثقافة الاختلاف المتطلّعة إلى هدم جدران التقوقع والانغلاق والتحيز والخوف من الآخر، وهي السمات التي ميزت التفكير العام في ظلّ دولة الاستبداد، وشغلت وما تزال حلقات النقاش الفكري في أوساط النخب الفكرية المطالبة بالتغيير.
II
أتمّ العالم العربي خمس سنوات أليمة من التمرّد الدامي والمتخبّط على سائد احتلته أشباح الماضي ونخرت جسده أمراض حملتها له الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتفاقمة، وعصفت به أوهام الأيديولوجيات القومية والدينية، فتناهبت مصائره الجماعية قوّتان لم تتوقفا أبداً عن محاولات إخضاعه، هما منظومة التدين في طبعات شتى ومنظومة الاستبداد التي أسرت العرب على مدار قرن كامل في حظائر “الخطاب القومي” مفتتحة في “الأمة” المتخيلة عهد المتاهة في شعاب خبل أيديولوجي لم يتوقّف عن وضع الفرد والجماعة في تناقض يومي مع حقائق العصر والإنسان، تحت سماء عربية حبلى بغيوم كاذبة لم تمطر يوماً إلا في كتب الحاكم المستبد وخطاباته المراوغة الموجهة إلى “القطيع».
إما أن الوقت كان مبكراً أو أنه متأخر كثيراً. وفي كلتا الحالتين نحن في “فوات تاريخي”. هل هذا ما وقع للعرب الحالمين بالحرية والكرامة لهم ولنسلهم؛ العرب المنتفضين على ظلام الماضي وخفافيشه، لأجل أن يتخلّص نسلهم الجديد ممّا لم يتمكّنوا هم بأنفسهم أن يتخلّصوا منه على مدار قرن من الخطابات الزائفة. في ظل أنماط حكم بوليسية بائدة حوّلت الفرد إلى خروف والأمة إلى مجتمع من الأضاحي.
III
المثقفون حائرون، وحيرتهم هذه المرة أكثر حقيقية من أيّ وقت مضى، فالحريق يتّسع ورياح العالم تهب به من بيت إلى بيت وصولا إلى العواصم المنيعة، بل وإلى أسرة الآباء المؤسسين وقبور أجدادهم. العواصم التي ظنّت نفسها آمنة من شرور الصّراع وآفات التاريخ ها هي محاطة اليوم بالأعداء، والقلاع العربية لم تعد حصينة. لا في الواقع ولا في المجاز فهي مهددة في الأرض ومهددة في اللغة.
ولكن هل تطرح الثقافات المأزومة الأسئلة، في اللحظات المصيرية من حياة الأمم، لتعفي نفسها من الأجوبة؟ أم أن فكرة الأجوبة هي في ذاتها، وفي أصل كل خطاب ثقافي، ضرب من خرافات الفكر والتفكير، عندما لا يمكن لغير الوقائع في الواقع أن تفعل فيه وتفعل في الأفكار، وما أسئلة المثقفين إذ ذاك، أكانت انفعالاً لحظيا بالوقائع، أو ثمرة تأمل، سوى ترف فكري يعبر عن حيرة لا شفاء منها؟!
يجعلنا هذا نعيد طرح السؤال عن دور المثقّف في المجتمع والتاريخ، عن الطاقة والإمكانات والحدود، وعن علاقة المثقّف بذاته وبالنّاس، وعلاقته باللغة التي ينتج فيها خطاباته أو يستهلك فيها خطابات تتبنّاها ثقافته، وصولا إلى الخلاصة التي يمكن أن يرى فيها ذاته المجتمعية وارتباط تلك الذات بواجباتها المختلفة وما تنتجه هذه العلائق مجتمعة من أسئلة، هي في ذاتها مادّة لمراجعة لم تنجز نفسها، ما دمنا لم نصدم حتى الآن بحالات أو حتى حالة واحدة من المراجعة العميقة للعلاقة بين أهل الفكر والأفكار التي اعتنقوها، وبينهم وبين الطرائق التي اعتمدوها للتعبير عن هذه الأفكار والمعتقدات، وبينهم وبين السّلط التي داروا في فلكها أو تواجهوا معها، سلطة الثقافة، وسلطة السياسة، وسلطة الدين، ولا بينهم وبين الناس.
نعم، للأسف لم نصدم أبداً بشيء من هذا القبيل. لم تتحقق ولا مرة حالة واحدة من حالات الصدمة المؤثرة التي يمكن للمفكر وفكره أن يحدثاها في المجتمع والتاريخ، على شاكلة ما حصل في أوروبا العصور الوسطى، وأوروبا النهضة، وأوروبا الأنوار، وحتى أوروبا عصر الاستعمار الحديث. وأعني بها خطابات أفراد مثقفين من قبل الدفاع عن الذات أو الفكرة أو المجتمع أو الثقافة، أو دفاع عن حقوق الأفراد.
IV
عرفت أوروبا خطابات حقوقية وأخرى ثقافية وغيرها سياسية. والأمثلة في الأذهان كثيرة، ليس أقدمها رسالة دانتي في تقريع الحاكم الذي كان قد أصدر على الشاعر سنة 1302 حكما بالنفي عن فلورنسا يتضمن حكماً عليه بالموت لو هو عصى الحكم ورجع إلى وطنه، وها هو يعده الآن بالعفو عنه مقابل أن يتلقى اعتذارا من الشاعر عن موقفه السياسي بوصفه خطأ. لكن دانتي المتشبث بموقفه كتب تلك الرسالة التي ستدخل تاريخ المقاومة الثقافية بوصفها رسالة المبدع في ثباته على الرأي ودفاعه عن فكرة الحرية وعن كرامته الشخصية كفرد. والسؤال الآن هل كان لهذه الرسالة أن تؤثر في التاريخ الثقافي الأوروبي وتجعل السلطة التي نفت الشاعر تندم على فعلتها، كما حدث لاحقاً، لولا الإقرار الاجتماعي للفرد بكيانه وحقّه ودوره ومكانته في المجتمع كفرد أولاً له حقوق يكفلها له جوهر التعاقد بين الأفراد والمجتمع وبين مجتمع الأفراد والسلطة؟
مثال دانتي كفرد ثقافي مقاوم في مجتمع متسلط لا آتي به للدلالة على وجود أو عدم وجود نموذج مماثل له في الثقافة العربية، ولكن على تأثير هذا النموذج الأوروبي في التيار العام، مقابل هزالة وربما انعدام تأثير نموذج مماثل في مجتمعات الثقافة العربية.
VI
الخلاصة، وحديثنا هنا يقتصر على القرن الأخير عربياً، فإنه باستثناء محاولات نادرة لم تحصل مراجعات نقدية مثمرة داخل الثقافة العربية يمكن لها أن تفعل فعلها في التيار العام.
رأينا الحريق يزحف ويأتي على الخارطة، الطائرات تدمّر المدن والقرى والمزارع، والدمار يجرف البيوت وساكنتها، وجغرافيات الإقليم والعالم تتلقّى موجات الهاربين من الموت.
حدث ما حدث ويحدث ولا أثر عميقاً له في المجتمع بعد أثره في الفكر، مادامت المراجعات النقدية الفردية منها والجماعية متلعثمة ومترددة، مادام مجتمع الثقافة العربية لم يعط وزناً لأصوات العقل النقدي.
ولربما يجد القارئ في بعض ما احتواه هذا العدد من مشاركات فكرية إشارات دالة على قلق الفكر العربي اليوم حيال ما يحدث.
علي عبدالرازق، طه حسين، عبد الله القصيمي، عبدالرحمن بدوي، جمال حمدان، ياسين الحافظ، صادق جلال العظم، علي الوردي، الصادق النيهوم، محمد عابد الجابري، عبدالله العروي، نصر حامد أبو زيد، سيد القمني.
هذه أصوات علامات ظلت تتردد في فراغ اللحظة العربية المعلقة.
حدث ما حدث كأنه لم يحدث. يا لتلك الخفة الدموية!.
كوبنهاغن أيلول/سبتمبر 2016