حذار التنمر!
ليتنا ننظر إلى الجانب المضيء لأيّ حدث، فتسارع أعيننا إلى التقاط النصف المليء من الكوب. وليست رؤيتي رؤية شاعرية، أو مجانبة للواقع، إنما لتكوين نفسيّ يميز الإنسان، اللبناني خاصة، لم ينشأ دفعة واحدة، بل ابتني بتراكم التجارب. ففي كل وقت أسود نمرّ به ونخرج منه، إما سالمين متعافين، وإما مع ندوب عميقة الأثر؛ نقول بالمحكي اللبناني «قطعت على خير» أو «مرقت.. تنذكر وما تنعاد». وعبارة/أمنية «ما تنعاد» أضحت من عاداتنا اللغوية، لأن المحن تعاد في وجوه مختلفة، وتحت عناوين متعددة: اقتصادية سياسية طائفية وطنية.. إلى أن بات توقع الكوارث عادة، وحضورها حتميا. لا أذكر ذلك من منظور سوداوي، بل على العكس من ذلك، وعلى الرغم من قتامة هذا القدر، يبقى الأمل مصيرنا، إنه وليد تربيتنا على ما يعبر محمود درويش في قصيدته «حالة حصار»: “نربّي الأمل”.
قبل أزمة فايروس كورونا، هذه الجائحة التي تضع، للمرة الأولى تقريبا، العالم بقاراته الخمس في وضع مماثل من الضغط والترقّب؛ لإيجاد سبل العلاج والخروج من نفقه المظلم، كنا ننتظر لحظة الصفر لإعلان الانهيار النقدي صراحة، وقد اعتدنا فكرة أن لبنان غير متروك، كما سياسة الإرجاء وتأجيل الاستحقاقات. مع «كوفيد – 19» خفت صوت الاقتصاد، وأصوات الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في السابع عشر من شهر أكتوبر الفائت 2019. ومع ارتفاع معدلات البطالة وطرد الكثير من العمال والمستخدمين من مؤسساتهم، وإغلاق بعضها، لا صوت يسمع سوى صوت القلق، ولا إعلان يعلو على نداء الإقفال وحظر التجول أو التعبئة العامة، ولغة الأرقام لعدد الإصابات والوفيات.
وإن وجدت مظاهر سلوكية ونفسية مشتركة بين البشر، فثمة تباينات في نسبة تمثلها على أقل تقدير؛ من مقدار القلق، الخوف، الحزن، الضجر، والشعور بالضيق حصيلة الحجر المنزلي. وفي ظروف التعليم عن بعد، أستدعي مقولة أرنولد توينبي «في التحدي استجابة»، أو على قدر التحدي تكون الاستجابة؛ والتي باتت من الأمثولات المفضلة لطلابنا. في تحدي هذا الوباء يكفينا أن نراقب استجابة العالم وأشكال استجابات الشعوب والحكومات والأفراد، كل بحسب طاقته ووعيه وقابليته للحياة. أن نوجد في البيت، ليكن خيارا لا إكراها؛ فتأخذ القناعة طريقها نحو الإيمان بهذا الخيار، وننعم بوجود حميم، وبوفرة وقت تعزز الطاقة الإيجابية، طاقة الألفة وإشاعتها لتحسين نوعية الحياة.
وفي استعادة للزمن منذ بداية أزمة كورونا، نتأمل مراحل ثلاثا؛ في المرحلة الأولى نشط البحث عن أسماء الأوبئة وماهيتها، وتصنيفاتها، وتواريخ انتشارها، ومناطق تفشّيها عبر التاريخ. ومن ثم تصدر عناوين تناولها أدبيا، وروائيا على وجه الخصوص، الصحفَ والمواقع الإلكترونية، لاسيما «حكايات ديكاميرون» (1353)، وهي الكوميديا البشرية لجيوفاني بوكاتشيو، ورواية «الطاعون» (1947) لألبير كامو، ورواية «الحب في زمن الكوليرا» (1985) لغبريال غارسيا ماركيز. في المرحلة الثانية، وبعد الحجر المنزلي أو العزل، خطونا نحو النظر الفكري والفلسفي والنفسي والأدبي أيضا، في مفاهيم العزلة، والوحدة وأشكالها ومظاهرها وأوجهها، ومعاني التواصل والتضامن في ظل البروز الخطِر لظاهرة التنمّر المرافقة للحجر والإقصاء ليس على مستوى الأفراد وحسب، إنما في تطويق الأحياء وعزل المدن والدول نفسها. أما في المرحلة الثالثة، فربما شرعنا نتوجّه بخجل أو بجدّ، إلى البحث في سبل التخطي وكيفية التجاوز معرفيا وإبداعيا وروحيا، كأنْ نحوّل العزلة القسرية، بما هي حالة سالبة، إلى هدف خلاق. وقد تولدت أزمات جديدة نتيجة الضغط النفسي والضائقة الاقتصادية، وهي العنف المنزلي وجرائم القتل الأسري المتصاعدة في وتيرة مخيفة لا تقل خطورة عن الإصابة بالوباء، بل هي أوبئة نفسية واجتماعية بدأت تلوح في الأفق وتخط مسارها نحو تفكيكنا.
من الطريف أنني أعدت اكتشاف دراستي في روايات ربيع جابر الذي، وإن تناول ثيمة الحروب اللبنانية في اتكائه على التاريخ، فلم يغفل مسائل الأوبئة والتلوث في تاريخ الجماعات والشعوب؛ لأن محوره الإنسان بوصفه ذاتا في مواجهة تحديات الطبيعة، وابتذال العيش في اليوميات.
في روايته «الفراشة الزرقاء» يبرز السلّ (جرثومة وليس فايروسا) محركا للأحداث وعنصرا مبدّلا للمصائر، إلى جانب الجراد الذي قضى على المحاصيل والأشجار، وعجز الناس عن التصدي له. كما تناول ظاهرة «دبلان الربيع» الذي يغزو دود القزّ؛ فيقضي على مواسم الحرير التي كان يعتاش منها اللبنانيون الجبليون، وسكان مدن إيطالية (باليرمو وصقلية بحسب رواية «كنت أميرا»). وفي رواية «يوسف الإنجليزي» يتناول أزمة الفلاح اللبناني المحاصر في عيشة بين حرب طائفية تلوح في الأفق بتحذيرها الدائم، وتهديد وبائي لمزروعاته: فطريات تغزو الأوراق تدعى «لفحة الصيف»، فتذهب بمحصوله وآماله، وتعرّضه للعوز شتاء. أما في رواية «دروز بلغراد» فيتحدث عن الهواء الأصفر (كوليرا) وهو وباء بكتيري حصد المئات في بلاد البلقان.
وفي رواية «أميركا»، يخبر الراوي بأن «الإنفلونزا الإسبانية، هذا الوباء الغامض، اجتاح العالم في أعقاب الحرب العالمية الأولى وقتل في القارات الخمس، بين عامَي 1918 و1919، أضعاف ما قتلته الحرب الكبرى، بين عشرين وأربعين مليونا قُتلوا بهذا الوباء». ويتابع متسائلا على لسان إحدى الشخصيات «إذا كان ذلك حقيقيا، فلماذا لا نجد عنه مئات الكتب في المكتبات؟ لا أحد يقدر أن يحصي المؤلفات المتعلقة بالحرب الكبرى. فلماذا لا تتجاوز الكتب عن وباء الإنفلونزا الإسبانية ـ في المقابل ـ عدد أصابع اليد؟!… لماذا طُرد هذا الوباء خارج الذاكرة البشرية؟ لاحقا، في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، سنتذكره، بسبب أوبئة أخرى: «إنفلونزا الطيور» مثلا… ثم يختفي الوباء وحده كأنه لم يكن». وثمة فصل بعنوان «فلورنسا (آذار 1348)» في رواية «كنت أميرا»، يخصصه الراوي لوصف الذعر ومشاهد الموت وحرق الجثث بسبب انتشار الطاعون في المدينة. فيؤكد دائما طرح حيرة الإنسان وعجزه حيال الطبيعة.
استثمار العزلة في أعمال خلاقة يحيلني إلى علوم البيداغوجيا في أحد أبرز مرتكزاتها، بتحويل الخطأ إلى هدف تعلمي؛ هكذا تكون عظمة التجربة الإنسانية. وغالبا ما يُعرب المبدعون عن حاجتهم إلى أعمار مضافة كي ينجزوا ما تفيض به مخيلتهم، خصوصا في مجتمعاتنا العربية القائمة على علاقات اجتماعية وطيدة ـ وإن بدأت تتفكك باطراد ـ فنشكو أحيانا من وطأتها بما يشبه الإلزام في التزاور، ليأتي فرض الحجر المنزلي ذريعة محببة لمن يهوى الوحدة ويحتاجها في شؤونه الفكرية؛ هي الوحدة الإبداعية الطبيعية، بوصفها ضرورة للإنتاج. يقلّبون صفحات منسية من دفاترهم، يكشفون عن عناوين مرجأة للكتابة، ويعودون إلى قراءات مؤجلة. ولعل ذلك صحيح من وجهة نظر منطقية لجهة توفّر الوقت، لكن الملاحظ أحيانا أن الإنجاز لا يأتي بما يناسب الوقت المتاح. ثمة فوضى واسترخاء يستدعيان تعليل النفس بغدٍ آخر لاستكمال ما بدئ به اليوم، وهكذا تسير الأيام. هذه الحالة تذكرني بمقولة سيكولوجية مفادها أن الضغطة ـ الشعور بضغط الوقت ـ تمكّن الإنسان من الإنجاز في ظروف استثنائية، وبسرعة غير معتادة.
في تأملاته في كتاب «العزلة والمجتمع»، يتحدث الفيلسوف الوجودي نيكولاي برديائيف (1874-1948) عن المعرفة بوصفها أحد أشكال الاتصال الروحي لتخطي العزلة، «أنا موجود، ولأني موجود أفكّر. لأني محاط من كل الجوانب باللانهائية التي لا يمكن النفاذ منها، لهذا أنا أفكّر… في عمق عزلته يشعر الإنسان بتفرده، ويتوق إلى الهرب من سجنه الوحيد ليدخل في اتصال روحي مع أنا أخرى. ومن الخطأ اعتبار العزلة نزعة انعزالية؛ إنّ طلب المعرفة وسيلة من وسائل التغلب على العزلة إذ تدفعنا المعرفة إلى الانصراف عن عزلتنا المركزة في ذواتنا، وتنقلنا إلى مكان وزمان آخرين حيث نتصل بالذات الأخرى». هذه التأملات تدفعنا إلى فهم دور القراءة والفن من كتابة ورسم؛ فمن يكتب يستطيع تحمل لامعقولية الواقع بمفاعيله الاغترابية التي تضع التفكير في سياق مغترب. لعل الكتابة في ظروف مماثلة تنتج وعيا مغايرا بالذات، إذ تفكك ما كان مقبولا وتزرع الشك في ما تراه مسلّمات. كما تأخذنا إلى عوالم رسامين وثّقوا في لوحاتهم المدينة الوحيدة ومظاهر المسافات بين الأفراد، والجالسين منفردين، أمثال الأميركي إدوارد هوبر (1882-1967)، والوحدة وسط الجموع كما لدى الأرجنتيني فابيان بيريز (المولود عام 1967) في إحدى لوحاته، وإلى الإسباني سلفادور دالي (1904-1989) في لوحته «إصرار الذاكرة»، وهي تصور مفهوم الزمن الذائب؛ بإمكاننا قراءتها قراءة متأنية في ظل زمن «كورونا».. كل فكرة تشكّل نواة مقالة، فلا يكفّ القلم عن تأكيد وجوده، ومزاولة مغامرته الخاصة في «فن البقاء وحيدا» كما جاء في عنوان كتاب أوليفيا لاينغ، وقد احتل اسم هذا الكتاب مدوّنات بعض الكتاب أيضا.
في استعادة للزمن منذ بداية أزمة كورونا، نتأمل مراحل ثلاثا؛ في المرحلة الأولى نشط البحث عن أسماء الأوبئة وماهيتها، وتصنيفاتها، وتواريخ انتشارها، ومناطق تفشّيها عبر التاريخ. ومن ثم تصدر عناوين تناولها أدبيا، وروائيا على وجه الخصوص
الأزمات التي نمرّ بها تزوّدنا بأكثر من لقاح ضد أيّ أزمة طارئة؛ فنزيح كل مصيبة، عن طريق تحويلها إلى طرفة، لتستمر الحياة. فمن ضمن الأوليات الدفاعية اللاواعية لدى الإنسان ثمة «الإزاحة»، وهي توجيه المشاعر القوية إلى موضوعات أخرى أقل تهديدا، لتفريغ شحنات الغضب أو الخوف، و«التحويل العكسي»، ويكون بتحويل الدوافع والرغبات الخطرة إلى عكسها؛ فيتصرّف الفرد نقيض ما يشعر به للتخفيف من القلق، بأن يضحك على سبيل المثال في موقف محزن.
مهما يكن من أمر اعتياد البقاء وحيدا، ولا أقول عزلة في زمن الانفتاح التقني لمواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاتصال وبنوك المعلومات المتاحة، فضلا عمّا تفسحه لنا عوالم الكتب من أشكال الوجود مع الآخرين؛ فهو ظرف يوجّه اهتمامنا إلى موضوعات لم تكن تشغلنا من قبل، كأن نوسّع مداركنا حول الفايروس والبكتيريا والفوارق بينهما ويعيدنا إلى ذواتنا ـ تأكيدا لمقولات برديائيف ـ وعساه يسهم في تحسين علاقاتنا بأبنائنا ومن يجاورنا، وفي تغيير عاداتنا الاستهلاكية، وشيء من أنماط تفكير سمّمت حياتنا على حد تعبير المفكر الفرنسي إدغار موران (المولود عام 1921). وعلى الرغم من إعلانه أن كورونا كشف أن العولمة ترابط فاقد التضامن، فإننا نلحظ أن هذه الجائحة وضعت الإنسان ـ على مستوى العالم ـ في حالة من التماثل في المزاج والسلوكيات القلقة أمام مصير مشترك غير واضح المعالم. إنما كيف سيتبدّل مزاجنا فيما لو أصيب أحد أحبائنا بالفايروس؟ هل سيبقى للقراءة والكتابة مكان حينما تتقدم غريزة البقاء جميع أولوياتنا؟ ماذا عنّا إذا ما تعرّض أحدنا للإصابة؟ فهل ستبقى الوحدة محبّبة باقترانها بعزل اجتماعي وتنمّر ونفي ينسف كل ما تتغنّى به البشرية من تمسكها بقيم التضامن والتعاطف، أو تتأكد مقولة البولندي زيغمونت باومن (1925 – 2017) إنّ المجتمع أضحى تجمّعا بشريا ليس إلا، وإنّ العلاقات فقدت معناها فلا تعدو كونها اتصالا، وبالمثل رؤية إدغار موران بأن العالم أمسى أمما تنغلق على نفسها انغلاقا أنانيا؟ وحول هذه النقاط يطول الحديث.