حرائق الليلة الماضية

توازيات وتقاطعات
السبت 2018/12/01
غرافيك "الجديد"

تنويه:

أولدت الأحياءُ الكبيرة للمدن العشرات من القصص التي تستغرق روايتها عشرات السنين، كحيّ “العشار” بالبصرة، المنصَّف بنهر متفرع من شط العرب الكبير، كانت تُستوفى في زاوية مصدره ضريبةُ “العُشر” الجمركية، خلال العهد العثماني. لا تتعدى مساحة هذا المركز التجاري ميلاً مربعاً واحداً، لكن الدوران حوله مقرون بعدد القصص المروية عن حياة ساكنيه وعامليه المحسوبة بحوادث غير مسجلة ولا تنتسب لراوٍ بعينه. تتداول الألسنة حكايات شفاهية خفيفة بوزن طاقية رأس، أو ثقيلة بوزن كيلة قمح في قبّان ضريبة العُشر، أو بخفاء جمجمةٍ قادمة من وراء الأسوار؛ وكل راوٍ يطارد لقطةً عابرة من جريان النهر البشري المجاور للنهر الطبيعي، يستخلص منها متعة للنظر ونغمة للصوت ونشقة من رائحة إنسان.

أروي عن المربع القديم ثلاثة نصوص.. ولي في كل قصة مذهب ورفقة ومغزى. ولا أهمية لعدد النصوص المروية عن المربّع الشعبي هذا؛ في عصر ما عاد يأبه للأرقام أو لمرور السفن في الأنهار؛ فما يبقى من الرواية أثر ممهورٌ على جبهة لا تكفّ عن ملامسة الشمس والرياح الساخنة. كلّ نص هو أوّل، وهو أخير كذلك. جولات لا تنتهي عند جدار أو ساحة أو مقهى، وكلّ حاكٍ هو محموم، لا يعرف موقعه من هذا الاضطراب اللذيذ. لستُ الحاكي الأول، ولست الأخير. لا أعرف من أتبَع ولا ذاك الذي يتبعني. حبل جرّار من التوازيات والتقاطعات.

1. أول ليلة.. كل ليلة

ليلة رعناء طاف المتظاهرون الأحداثُ خلالها حول البنايات المحترقة، صاخبين ملثّمين، نصفَ عراة. أوقِف اللقطةَ حتى صباح اليوم التالي، مع عشرات من لقطات الليلة الماضية. أعود في الصباح فأحرّك المشهد: الدخان ينعقد راياتٍ ملولَبة فوق البنايات الواطئة؛ رائحةُ احتراق تملأ الهواء.

مئة خطوة في مربع “العشّار” تُحسَب بمئة شظية تدخل الرأس. مفكرة الهاتف النقال تمتلئ بالملاحظات المتتابعة وتفيض عن حدّها على الحفظ، تقابلها ذاكرة تستعيد الصور وترتب الشظايا الملتقطة على جانبي الممرات الداخنة. قائمتان متقابلتان تجهزان النصَّ الملولَب، رماديّ السحنة، بآلية التوازي والتقاطع. تتحرك الأقدام وتتصل الأفكار بتيار جامح، هو عزم الحركة في مربّع العشار الدافق نفسه.

في كل قصة مذهب ورفقة ومغزى
في كل قصة مذهب ورفقة ومغزى

القائمة على اليسار تتدرج بأحداث الأيام الثلاثة الماضية، توازيها قائمة بمحفوظات الأمس المرتّبة على مدى العقود السبعة من حياة “العشّاري” المتجول دون هوادة. لا يقتضي سردُ المربّع الحياتي سوى الوصل بين السواكن والمتحركات كي تعمل ذاكرةُ النص آلياً وتقترب شواهدُ اليمين من كوامن اليسار، في القائمتين المتوازيتين. حركة لولبية متصلة على محور التجاور والتبادل.

أبدأ بسحب شظية من قائمة الملاحظات اليمنى (تمثال العامل ذي المطرقة أمام مئذنة الجامع بجانبه) فتتداعى القائمةُ الموازية بإجراء التقاطع المطلوب وتركّب المشهدَ المتحرك (النحات عبدالرضا بتّور يخطف بدراجته، على خلفية المشهد الملبّد بسحب الدخان). تعوزني الرائحةُ والكلام المخزونان لهذه اللقطة، فتنجدني اللقاءاتُ السريعة على ضفة نهرٍ ضحل، كان النحّات يرتاده ويخوض في طحالبه بحثاً عن الديدان لحوض أسماكه البيتي.

أنتقل إلى مفردة أخرى في قائمة اليمين (طحالب) فيتحرك النهر الأخضر في قائمة الشمال، ويجهّزني بوقتٍ للسباحة في ظهائر الصيف القائظة (صبية عراة يتقاذفون أجسامَهم النحيلة من قمة جذع نخلة شديد الميلان على الضفة المطيَّنة). أما مفردة (شصّ) فستجتذب المزيد من الأسماك المشكوكة في خوصة اصطادها صبيانُ النهر قبل سباحتهم فيه (أدخلتُ لقطتها في قصة: إله المستنقعات، قبل أربعين عاماً). التفرّس في صفحة نهرٍ أخضر يبعث لي بسهمٍ يخترق الروح ويشطرها كقبلة سامّة.

ومن وراء حجب القائمتين المتوازيتين، يسقط شِهاب من مدار كبسولة رائد الفضاء السوفييتي يوري غاغارين، فيكشف نورُه عن أوّل نصّ سرديّ كتبتُه على حافة مسفن الدوكيارد في العشار، أمام هيكل سفينة جانحة. آنذاك أهديت قصتي القصيرة إلى عمّال المسفن، واليوم أعلّق صورة السفينة المجهَّزة للتصليح على جدار غرفة الاستقبال؛ أما الوجوه العمالية المكدودة فسأستدعيها من قائمة التجهيزات التي جمعتها الليلة البارحة.

أبتعد عن الأفق الداخن بحرائق الليلة الماضية، وأحصي مدّخراتي من الألفاظ المجهّزة (نعال، قبعة، لثام، لافتة كارتون، مصيدة مطاط، قنينة ماء خالية، سفرطاس ألمنيوم، ملاعق، أقداح ورقية، قطرات دماء، ضماد متسخ..). أتوغل في المربّع الحي، يستردّ أحياءه المأخوذين بتيار الصخب والغضب والتوجس، يرتّبهم في أماكن أعمالهم المعتادة؛ كلّ في حانوته وكلّ وراء عربته أو بسطته في أركان السوق؛ ثم أنيخُ بقائمتيّ على تخت مقهى في ركن العطارين، أحتسي قدح شاي معطَّر.

العطّار المتدرّب في القائمة اليمنى، إزاء العطّار المتمرّس في روائحه وتأملاته البعيدة في القائمة اليسرى؛ توازياتُ الحاضر إزاء تقاطعات الماضي في وعي العشاريّ المتجول؛ أخوةُ الكاووس وأخوة الناموس يشقّان الممرَّ الهادئ ويدخلان اللقطةَ الأخيرة يداً بيد، وخطوة بخطوة.

2. زهرة الجماجم

حينما تصمت المدينة بعد يوم عنيف، تنهض الأيقوناتُ المرسلَة من “الجانب الآخر” لتطوف في الشوارع المقفرة، وتنفذ في غفلة من الدرَك في مخادع الناس المتعبين.. لا أحد في المدينة يعرف موقع هذا “الجانب” مهما اشتدّ حدْسُه..

مع هذه الأيقونات تتجدد روحُ المدينة العتيقة وتسهر على مصير أطفالها.. أنصِتْ لحفيف خطواتها واستعِنْ بحواسك وبداهتك، واسألْ جارَك إنْ كنتَ غافلاً عن زيارة واحدة منها.

أيقونتي واحدة لا تتغير. وأنا أسمّيها بـ”زهرة الجماجم”. رُحتُ أناديها بهذا الاسم حين روَت لي حكاية اختفائها بستر الظلام. رعدةٌ ستصكّ بدنَك لو تسنّى لك سماعَ مقطع من أخبار زمانها؛ وهي تبلغ اليوم سنَّ النضج والتفتّح.

جانب من مبنى حكومي احترق خلال الانتفاضة الأخيرة
جانب من مبنى حكومي احترق خلال الانتفاضة الأخيرة

جيء بأمّ “الزهرة” لتلِد طفلتها في ليلة دكناء من آذار/مارس ١٩٩١ في قسم الولادة الباردة بمستشفى الأطفال، محروسةً بثلّة حرّاس غلاظ، حتى إذا تمَّ إطلاق الحياة الجديدة من الجسد الأمومي المعذّب، اصطحبها الحرّاس عائدين بها إلى زنزانة الإعدام، التي سبقَها إليها زوجها. قالت “زهرة” – وهذا اسمها المؤقت الذي عُرِفت به بعد الولادة: “اصطحبوا أمّي إلى غير رجعة، وكتمَت قابلةُ المستشفى خبر ولادتي، وسلّمتني إلى مُعينة القسم لترضعني لكنّها لم تسمّني باسم آخر حتى يحين وقت إيوائي بدار الأيتام، مع الأطفال اللقطاء ومجهولي المولد. وكان العام الذي لُفِظْتُ فيه عام جوع وفقر ومهانة اضطُرَ الآباء فيه إلى بيع أطفالهم للأسُر الغنية”.

أبقت الدارُ على الاسم المؤقت للطفلة المجهولة الأبوين، ولم يغيّر (ع) الاسمَ الذي استنقذَ به الطفلةَ من مأواها لقاء مبلغ من المال دفعه لإحدى ممرضات الدار، تلك التي تسلّمت الطفلة من المعينة. بعد سنوات، حين زارت امرأةٌ غريبة المنقذَ (ع) تطالب بابنتها المبيعة لأكثر من يد، شكّ المالكُ الأخير بأمرها، وسألها عن المُخبِر الذي دلّها على الطفلة المستنقَذة. لم تُفِد الزائرة الغريبة بمصادر إخبارها، لكنها همست للمنقذ (ع): “أتسألني عن مُخبِري بمكان ابنتي؟ أتظنّ أنني أجهل أثرَ الخيط الدامي الذي قُطِع من سُرتي ذات ليلة من آذار/مارس؟ إذن فاعلمْ أنّ الجماجم لا تحتاج إلى دليل. ما أمتلكُ من قوة استدلال يفوق قدرة خرائط غوغل الافتراضية على تحرّي أوكار المدينة الملعونة. لا تعترض طريق جمجمة يا صديقي!”.

لم يستطع المنقذ (ع) اعتراض الأيقونة الزائرة، وسمح لها باصطحاب ابنتها (زهرة) معها إلى “الجانب الآخر”، حيث تعكف الجماجم على إحياء مسرحية جديدة كل ليلة، تمثّل أدوارَها بعد عودتها من زياراتها الخاطفة للمدينة المتهالكة. ثم لا تسألْني عن ذلك “الجانب” الذي قدِمتْ منه الجمجمة، فقد يكون موقع المَقْيَرة القديمة، أو دُوغة الجصّ؛ لكن لا تقلْ إنّها المقبرة؛ فالمدينة كلها أصبحت مقبرة كبيرة.

3. الحائط الوردي

بمحاذاة شارع المركبات العام، الواصل بين جنوب المدينة وشمالها، يمتد جدارٌ طويل، ملطّخ بالتجريبات الجرافيتية المضطربة. الضميرُ المكبوت يلطّخ الأبصارَ بملاحظات شتى من هياجنا السياسي الراهن. هياج فضائحي مدوّر من أزمة إلى أزمة.

الإهمال ينتهك كل ملمح جمالي من عمران مدينة البصرة
الإهمال ينتهك كل ملمح جمالي من عمران مدينة البصرة

تفصيلة من جدار الجرافيتيات الصبيانية الساخطة، تركّب تخطيطاً لشعارات سياسية ناضجة على خلفية إحساسٍ جماعيّ، هيجانِ روحٍ بلا مأوى ولا هدف. شعارات الأمس النزقة، تختلط بعبارات خليعة سافرة، ورومانسيات ثوروية غاربة. الجدار الذي عُدِيَ بشعارات الوقت السياسي المجدب، ينقل عدواه للأبصار العابرة خطفاً أو مهلاً، مازجا المسموحَ بالممنوع، النظامَ بالفوضى، الكهولة بالشباب.

خرجتُ على عادتي كي التصق عن قرب بالجدار الجرافيتي المخبول- وكنتُ ألمحه عن بُعد في ماضي الأيام- أتحسّسُ خبَلَ الصبيان المعبّر عن هياجٍ مستتِر يوشك أن يطيح بالأمتار القليلة الباقية من العقل الاجتماعي والسياسي لمجتمع الجذامير الشعبية. تنتشر الأشكال المتعانقة مع حروف الهوية الملتوية على سرّها الدفين. أسيرُ على منهج محلّلي الرُقيمات الطينية فأستدلّ على هويتي المنقّبة بين المئات من المنقبين الباحثين عن حلّ لشفرات الجدار. الجدار يحيط بتاريخ مخلخلٍ من أساسهِ.

لكن صراعا دهريا يتدخل دائما في عرقلة التنقيب الدورية، فهناك من يصبغ الجدارَ بلون وردي ويهيئه لإعلانات جديدة، وشعارات واعدة، عاقلة حتى حين، مجنونة في كل الأحيان. لكن الصبّاغين أشخاص لا يعرفهم أحد أيضاً، ولا تراهم عين. وظيفتهم الوحيدة: إدارة الوعي الطافح بالسخط والعصيان. بذا تستمر حياةُ الجدار ورسومُه، وتجتذب اللعبةُ أجيالاً من العابثين والمتمردين يجربون ردودَ الفعل المنقّبة في خطوط الجدار الكونكريتي.

أولئك الصبيان الغاضبون يحوّلون الرسومَ الجامدة إلى حياة متحركة يشحنونها بالغضب نفسه، والسخط الذي لا يعرف حدوداً. صبيان الأمس (بما يكفي من الرسوم) يتظاهرون إزاء الحائط (بما يكفي من النضج). الحائط الوردي يتكلم لغة أخرى، يحمي ظهورَ أولاده الأشقياء (بلغة كوكتو أو محمود درويش).

الحائط لا يتزحزح عن مكانه، التاريخ يعيد رسومه، لكنّ الرسومَ تتحرك إلى أمام. أمّا حين يتوقف كلُّ شيء عن الحركة فالجدارُ سيتحرك، يستنهض ذاكرتَه المضطهَدة برسوم جديدة؛ يستعيد شخصاً (بلا اسم) يحمل سطل الطلاء كي يرسم ما تتوق إليه نفسُ رجلٍ كهل ألقتْه الجموع المتظاهرة إلى حافة الجدار. أقِفُ أمام هذا الرسم (الكهل بصحبة عائلته من الأرانب) وأهتف متعجباً: “يا للوقت! كم يعدو مثل أرنب”.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.