حرب أوكرانيا أو مسمّى الجهل بعالم يطعمنا الخبز
مرة أخرى يمسك بالمثقفين متلبسين بعدم المعرفة وقلة الاطلاع. المثقفون المقصودون غربيون وعرب على حد سواء. الحرب في أوكرانيا، بكل مقترباتها غير العسكرية، تبدو شديدة الغموض لكثيرين. اكتشفنا تدني معرفتنا بروسيا وأوكرانيا على حد سواء. كيف يمكن قراءة أزمة كبرى من هذا النوع فكريا وسياسيا من دون أن تستبقها قراءة طويلة لحال البلدين، والمنطقة. المعنى في مفردة طويلة أننا لا نأتي اليوم ونقرأ الكثير عن البلدين ونبدأ ببناء الاستنتاجات المتسرعة وليدة مناخ الأزمة. كان علينا أن نبدأ منذ وقت طويل في تتبع هذه الدول المحورية في عالم اليوم.
في الغرب، يبدو الجميع منذهلا. طالما ركزت التغطيات الصحفية على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فأن المعرفة العامة محصورة في شخصيته. أضف أنه من خلفية مخابراتية، وهو من الجانب الشرقي السلافي الأرثوذوكسي من أوروبا، فتكتمل صورته كمخادع ومتآمر لا يمكن الوثوق به. ماذا عن بقية روسيا والروس؟ هذا تفصيل كان بعيدا عن اهتمام المثقفين. أدركوا متأخرين أن مراجعة ما كتبه المثقفون من الأجيال السابقة عن روسيا السوفياتية ليس ذا قيمة في فهم الروس اليوم. مرت ثلاثون عاما على انهيار الاتحاد السوفياتي، وتغيّر الناس. اكتشف المثقفون الغربيون أنهم لا يعرفون أيّ شيء تقريبا حتى عن الأثرياء الروس الذين يعيشون بينهم في الغرب. إنهم أوليغارية (مفردة ممتعة صارت مفيدة في شيطنة هؤلاء الأثرياء) من أصدقاء بوتين. لا أحد سأل كيف عاشوا وماذا فعلوا في سنوات العلاقة الجيدة. كانوا مقبولين طالما كانوا رأسمالية ما بعد الشيوعية التي حولت مئات المليارات من الدولارات إلى الغرب. الأوكرانيون بدورهم شعب مهمل لا تتجاوز أهميته أكثر من ساحة سابقة للشيوعية وللغة الروسية.
لم يتابع أحد الثقافة الروسية أو الأوكرانية، ولم يهتم بأدب هذه الشعوب أو حتى إنتاجها التلفزيوني المعاصر. عندما عاد الاهتمام، كان الوقت قد تأخر. كان التأخير مزدوجا. مرة من عدم الانتباه للتغيرات السياسية والنفسية بين البلدين مع احتلال شبه جزيرة القرم عام 2014. ومرة عندما اختلط السياسي بالاستراتيجي بالثقافي بالاجتماعي لنصل إلى اجتياح كامل لأوكرانيا من قبل القوات الروسية بعد أن صار واضحا أن أوكرانيا هي المحطة القادمة للناتو. يصدمك كمتابع كيف أن المثقفين صاروا يتساءلون: لماذا لا يرفض المثقف الروسي قرارات زعيمه؟ وهل تعرفون شيئا عن المثقف الروسي؟ فيودور ديستوفسكي ونيكولا غوغول وليو تولستوي مهمّون، ولكن ماذا عن الأدب الروسي الحديث الذي يمكن أن يفسّر الجرح الإمبراطوري القيصري السوفياتي المشترك؟ هل سأل مثقف غربي نفسه كيف يمكن أن يوصل الشعب الأوكراني ممثلا كوميديا إلى منصب الرئاسة؟
الكوميديا الحقيقية تتجلى برد فعل المثقف العربي في مواجهة حرب أوروبية. مستوى السذاجة في التفسيرات مذهل. في العموم، كان الحديث ليس عن منطق اندلاع الحرب ومن على حق ومن على باطل. لم نر الكثير من التحليلات أو التوقعات لما يمكن أن يحدث عالميا من احتمال لاندلاع حرب كونية جديدة. أغلب مثقفينا لم تكن له دراية أن رغيف الخبز الذي أمامه قادم إما من حقل قمح روسي أو آخر أوكراني. نحن غاضبون من الولايات المتحدة زعيمة العالم الغربي وقائدة الناتو. وطالما هي متوترة من بوتين وروسيا، فنحن نرى الأمور بعيني رئيس روسيا الثعلبيتين. فليقطع بوتين الغاز أو يهدد بقطع النفط. ثم يقف مثقفنا المهتم بالأدب فقط (وربما الساذج منه) ليتساءل: لماذا قفزت فواتير الطاقة وسعر البنزين؟ يكتب مثقفنا عن العولمة وعينه على الإنترنت باعتبارها رمزا لتلك العولمة ولا يدرك أن العولمة تعني توفر القمح وزيت عباد الشمس على مائدته والبنزين في سيارته والغاز في منزله. مثقف اليسار مع روسيا وريثة العناد السوفياتي. المثقف الطائفي مع روسيا أيضا لأنها لا تقف ضد إيران. مثقف اليمين مع روسيا أيضا وأيضا لأنها ساهمت في رفع أسعار النفط عالميا، فاستفادت دول الخليج وصار واردا عودة العطايا المنقطعة بسبب التقشف.
اسأل أيّ مثقف عربي عن مفردات الثقافة الروسية، فسيرد عما يعرفه من الثقافة الوجودية الروسية التي تفسر بالتأكيد ثقافة روسيا القيصرية في القرن التاسع عشر، لكنها لا تقدم أيّ رؤية عن عالم اليوم. لا تستغرب أن يرد أحدهم بأن غوغول كان أوكرانياً وليس روسيا. لن تجد جوابا ملهما مهما حاولت.
ربما ما نعرفه عن الثقافة الروسية أو الأوكرانية هو ما أرسله لنا الاتحاد السوفياتي السابق أيام عزه، عندما كان يترجم أدبه وثقافته وأيدولوجيته الشيوعية ويرسلها هدايا لمعارض الكتب والمراكز الثقافية في العواصم العربية. هناك توقف ما نعرفه عن ذاك العالم.