حرب العوانس
أمراء أقوياء وصارمون. صعاليك مضحكون يحرصون على الأسرار والخفايا ويداهنون في القول. يتملّصون من المواقف المحرجة بشطاراتهم وألسنتهم الشعرية الحكيمة. يتقاطعون مع من هم أكبر منهم شأناً ومنزلة. لكي يكونوا على السياق الذي ترويه خالتي شهرزاد، بتوقعي من أنهم سيفوزون على الأمراء بسبب حِكَمِهم وبراعتهم في الملاسنة، وإيراد أخبار الأولين وحفظ قصائد الجنس والحب والجمال والحكمة. غير أن سيوف الأمراء تقلب المعادلة في اللحظة الأخيرة، فينزوي الصعاليك بعيداً عن وميض السيوف، كما تنزوي الكلاب وهي تعقد ذيولها بين سيقانها الخلفية. تلك هي الحكمة القاسية للسيف، كما ترويها الخالة البارعة ببطء يكاد يكون مملاً، من دون أن تستعجل في ليّ الحكاية إلى غير ما هي عليه. لكنها تعطيني حكمتها الأثيرة بدلاً من الاستطراد: قد ينتصر السيف مرة أو مرتين، لكنه لا ينتصر في كل مرة.
تبقى مسترسلة في ليالي الشتاء الطويلة بأمور وحكايات مشوقة كثيرة. كطفل تعلّمني التجربة من تلك السير والمغازي. تقطعها أحياناً، عندما تجد نفسها وقد تغلب النعاس عليها وقلّت شهوة الحديث فيها. أو ضاع منها رباط الأثر الحكائي، فتُدخل نصف جسدها الساخن في جسدي وهي تتأوه. تقطع خيالي السارح مع أولئك الصعاليك المهزومين بقوة السيوف، لأجد نفسي في خيال آخر، برائحتها الذكية وعطرها الليلي الذي يستغرقني في خيال أعمى، مثلي مغمض العينين، وتغفو بأنفاس منتظمة تقريباً. صدرها يعلو ويهبط بخفّة. ينغرز نهدها الأيمن بي. حتى أكاد أشعر بأنه يمرق بين أضلاعي حتى الصباح البارد الممطر؛ عندها أمرر نهاري بالأحلام والكوابيس والفراغ والنظر إلى الشارع الفارغ، حتى يأتي مساؤنا المشترك، فلا تنسى أن تحدثني عن شواهد كثيرة لشهداء صغار وأرامل مراهقات وكبيرات وحروب ملعونة ونساء صغيرات وعازبات وصبيان، يستمرون في الحياة بقوة بالرغم من مصاعبها الجمّة وكوابيسها الخانقة. ولا تنتهي عند خادمات وبغايا ومتحولات وسحاقيات، يكتمن أسرار بعضهنّ دائماً، يرسمن مصائرهنّ بطريقتهنّ الغامضة، ولا يودعنَ أسرارهنَ في الهواء الطلق إلا من كانت خائنة للعِشرَة والملح والزاد.
هناك مخصيّون وعبيد وخدم وحشم، هم صناديق العلاقات السرية التي لا تُباح. وأميرات تائهات في القصور والجنائن المعلقة وغير المعلقة، يبحثن عن حقائق مجهولة غير واضحة. ربما يبحثنَ عن مُتعٍ لا يعثرن عليها في أروقة القصور. بل في دهاليز المطابخ والأقبية الرطبة المظلمة والغابات المظلمة المتاخمة. وشهرزادي الأرملة – العازبة هي خالتي الوحيدة. أسميها شهرزاد لأنها حكّاءة شتائية. لسانها يؤلّف المؤلَّف. مستطردة مثيرة. تغمرني في ظلام الحكاية وعطرها وظلام الغرفة ورائحتها حتى أتيه في تضاعيفها. ويتصلب جسدي عندما تدفن جسدها القديم تحت بطانية مشتركة وغرفة واحدة صغيرة دافئة، حتى تكاد تنفتح عيناي المغلقتان “لنا ما تبقى من الوقت.. أنا عمياء مثلك” ودبيب أصابعها المبرومة يبعث القشعريرة بي “أمسك أصابعي.. أريد أن أغفو على نبضكَ المتسرب” ليكون ليل الشتاء غامضاً ومعذّبا لعزلتي النفسية التي أحاول تسكينها بروحي مع شهرزاد الوحيدة، التي ترى ما لا أرى. وتفهم الذي لا أفهمه. مُدرّبة على العزلة والأسرار. فأنقاد إليها بلا ملل. صارت تهتم بوجودي أكثر مما مضى “كنزنا يكبر” وتعني دنانير الصدقات اليومية، بل أعفتني من المكوث في الباب خلال هذه الأيام الباردة “أخشى عليك من الزكام” لا أقول بأنني أعتدت طريقتي في البقاء هناك كل يوم، غير أنني افتقدتُ الشارع والرصيف ونساء السوق وطالبات الكليات وعطورهنّ المهيّجة. حتى تلك المرأة التي وجدت بي ضريحاً متحركاً لابنها الشهيد افتقدتها، وكثيراً ما كانت تحوم بذاكرتي. لا شك بأنها تشبه أمي أو خالتي “المطر يبللك فتمرض.. وأنت لا ترى شيئاً” ولا أملك إلا واقعي الشتائي المُمل، منتظراً أن يكف المطر عن الهطول وتظهر شمس الشتاء اللينة/لعله سيطول/لأشم فيها روائح نساء السوق وموظفات الدوائر ومراهقات الثانويات اللواتي يلقين في حضني بعض الدنانير من مصروفهن المدرسي. مثل الكثيرين الذين يضعون في يدي أو يرمون في حضني أو حتى في زيقي بعض الدراهم وأجزاء الدنانير الفائضة في جيوبهم. لا أراهم ولكنني أشمّهم. وأتحسس وجودهم بخبرة بقائي في هذا المكان على عربتي الكهربائية الصغيرة. لكن أماسي الشتاءات بنكهة الخالة الأرملة – العازبة تلقي عليّ رائحة غريبة. عطراً أنثوياً ضاجاً بالحياة المكتومة. ظهر في شتائها الأربعيني كما تظهر نجمة أمام أعمى، فتخطفه بوميضها الفضي الصاعق. عيون العميان مصابيح قد لا تكون مطفأة تماماً. وإذا انطفأت فإن كثيراً من المصابيح تشتعل هنا وهناك. تتبادل مواقعها في جسده، كلما ازداد النبض ومُحيت المساحات المحظورة منه. لهذا في حكايات الخالة الشتائية الكثير من نكهة الجسد المخفي الذي يريد أن يتحرر من عبودية قديمة وطوق سائب ورجل دميم لم يستطع أن يفتح أبوابه الضعيفة وشبابيكه الصغيرة التي ظلت سبعة أيام تومض له بألوانها الخافتة والساطعة. لهذا عادت لي. استدعتني بعد استشهاده السريع. أعود لها في طيف آخر لا أراها كما كنت من قبل. ليس ذلك الصغير الذي ينتصب في الحمّام، أعتقد أنه نبتت بي رائحة ما بعد الجامعة. لم أفهمها إلا عندما عدت الى هنا بعينين منطفأتين وجسد مخذول. لم تجعلني وقتها أن أتوارى بعيبي الفظيع “هذا حقك من الناس الذين بقوا يرون كل شيء، ويمارسون كل شيء”، فأشم رائحتي برائحتها مع تعاقب الفصول “تقدر أن تعود إلى فضائك الصغي”، لا أعتقد بأن وجهها دميم كما كنت أراه سابقاً، أو مثلما رآه زوجها الشهيد. فقد أحسست بصورته المعقولة. فيه شيء كثير من الجاذبية. أشعر بأن جسدها مترنح لاكتنازه باللحم الفائض عندما تمسّني، وعندما ترجّ البيت بخطواتها الذاهبة بين الصالة والمطبخ. وهي تقصص عليّ ولسانها لا يكف عن الكلام “أنت تحتاج الى الكثير من الحب.. لا عليك.. أنا هنا.. سأحكي لك عن زعفرانة في الليل وعن جسدها المحموم الذي يشتهي الملك”، وما أن يهبط المساء بالمطر والبرد، حتى تبدأ وتنتهي من حكاية زعفرانة الشيطانة التي أغوت الملك السمين، بنهديها المتوثبين راقصة ومغنية موشحات في لياليه الخمرية الحمراء، حتى تنتقل إلى لُباب محظية الوزير الشركسي البيضاء فاتنة الرشاقة، وكيف دبّرت له مكيدة عظيمة لتصل إلى قلب السلطان في حب عاجل، أقصت به وزيرها المغفل، وأشاعت عنه بما لا يستحقه ليس أقلها أنه خائن الزاد والملح والمنصب، ليدبّر انقلاباً على السلطان، وهذا وحده كان كافياً أن تطير رقبته من شرفة الملك، وتتدحرج حتى يتلقفها النهر الكبير.
مثل هذه الحكايات المولودة من بعضها لا تحتاج إلى عينين متفتحين في ظلام شهرزاد ورائحتها الغريبة التي تنزّ من جسدها فائراً كإبريق الشاي. أسمع أزيزه كل ليلة. وذراعاها حول رقبتي وشفتاها الغليظتان في رقبتي، كمن تشتهي عضّي. حتى تنعس وتنام وأنفاسها في أنفاسي. وصدرها الصلب يثقب أضلاعي. ولا أدري كيف أغفو. لكن يأخذني خيال بعيد إلى الشارع والناس والمطر والبرد. وروائحهم التي لا يمكن لي أن أخطأ بها، عندما اعتدت على أن أفتح منخاريّ لأتعرف على أنفاس وروائح الماشين والمتخاطفين من حولي. وأسمع نقر خطواتهم الذاهبة والعائدة، من الجيران وجيران الجيران والعابرين وطلاب المدارس وطالبات الجامعات المبكرات. والعابرين في الحي، وجامعي الأزبال والعلب النيكيلية المرمية في الشوارع والأرصفة، وأصحاب التاكسي الذين يلتقطون الموظفات المتأخرات عن دوامهنّ الصباحي. أكاد أعرف الأغلبية منهم في صباحاتي الحارّة والباردة. إذ لا تتأخر خالتي عن إيقاظي على منبّه الساعة. وتساعدني بأن أفطر ببيضة أو بيضتين وخبز محمّى على مدفأة قديمة وكأس من الشاي. ثم تدفعني إلى خارج الدار، كأنها تريد أن تتخلص مني وهي تدردم: سأبعث لك فطوراً آخر لما أنتهي من تنظيف البيت. وهذا شعور ينتابني كلما ضاق صدري وتقلصت بي حكمة القدر. قد يكون هذا غير صحيح. لكنها ربما لا تعرف أن في الأعمى كائنين يعيشان معه في لحظة واحدة. أحدهما قديم يرى الألوان مثلما هي، والآخر مغمّض ومعطوب بعد الصدمة المعتمة. يخاف من أن يفتح عينيه حتى لا يرى الكارثة كما هي. يلتمس بخياله كل شيء. تنشط حواسّه المتبقية وتتضاعف بطريقة غير عادلة؛ فتتضخم الأشياء من حوله. كما يتضخم بي ما تقوله الأرملة – العازبة من دون أن تقصده. ومع هذا عليّ أن أتعايش مع واقع الحال، ومعها. أعرف بأنها تحبني وتحميني مما أنا فيه، وهي سياجي البشري. ولا أنسى بأنها أبقتني في بيتها زمناً ليس قصيراً ، حتى عدتُ إليها فاقد البصر في معركة كنت خائفاً فيها جداً. أبقتني تحت سقفها ويومياتها البسيطة، قبل أن تضعني في عجلة صغيرة أمام البيت: “أنت لا ترى أحداً.. لا تخجل.. ليعرف الناس أن الحرب ملعونة.. ليست بنا حاجة إلى فلوسهم.. لكن هذا بعض حقك الذي سلبته الحرب منك ومنحته للناس.. فأرهف أذنيّ للأصوات القريبة والبعيدة. وعرفت الكثير من الأصوات بين النساء والرجال والصبيان والمراهقين. الطالبات المرهقات. ونشاء السوق الثرثارات. تعرفت على عدد ليس قليلاً من الناس مع الأيام في ثبات المكان بي. كأنني كعبة تطوف الناس حولي.. أبوحيدر سائق التاكسي الذي أعرفه من شخير سيارته وهو يصفّها على مقربة من عربتي.. أمّ سجاد جارتي التي فقدت ابنها شهيداً. تجلس قربي بين يوم وآخر. تبكي واضعة رأسها على مسند عربتي، فتُبكيني معها. تجعلني أجهش بحرقة. وقد يحصل أن بعض النساء الذاهبات إلى السوق القريبة أن يتجمعنَ حولي ويبكين موتاهنّ البعيدين والقريبين. فيتحول مكاني إلى مجلس عزاء صغير وعربتي إلى ضريح.. سميرة موظفة المالية القديمة تضع في جيبي ديناراً أو دينارين وتدعو لي بالشفاء كل يوم.. أبوكريم يتنحنح قبل أن يصل قريباً مني كأنه سيدخل المراحيض. أصوات ناعمة ومنخفضة لطالبات جامعيات. يمرقن من أمامي فتمرق ظلالهن خفيفة. أشم روائحهنّ وعطورهنّ، وأتخيّل أجسادهن من صور قديمة أعيدها وأركّبها عليهنّ. تلك الصور الراسبة في ذاكرتي من سنوات الجامعة قبل أن تتخطفني الحرب، وتصيّرني آلة بشرية تستقطب العطف والمال وتزيد من خيالي. وعيناي مغمضتان. محروقتان، ووجهي مجعّد. انتهت الحرب منذ زمن طويل وبقي الأثر حتى اليوم. وأنا أكبر على عربة ببطارية مشحونة تقف أمام البيت. أحياناً أغفو عليها. تتشظى ذاكرتي وتنفتح عيناي، عندما تستقدمان أيام الجامعة وسنواتها وشبابها. لكن سنوات الحرب تعيد إغماضهما، فأبدو لمن يراني من المارّة، كأنما أبكي من دون دموع. هكذا أتخيل؛ فلم يبقَ لي إلا هذا المشوار الأعمى أمام باب البيت يتصدق عليّ الجيران والمارّون والعابرون. وفي البيت الأرملة – الباكر، تلمُّ من جيبي ما اكتنزُه من مال متفرق. فتعدّه لي وتخبئه في مكان ما. في صندوق تحت سريرها كما قالت لي مرة لئلا يسرقه اللصوص: الدنيا ليست أماناً يا أخي.. سيكبر المال في هذا الصندوق.. لعلنا فيما بعد نجد ابنة الحلال لتكون عوناً لك..! يدغدغني هذا الكلام. أحلم بابنة الحلال، بعيداً عن ذكريات الجامعة وطالباتها الجميلات المثيرات. أصوات يومية تمر على أذني من بنات الجيران وجيران الجيران. وعطور تداهمني في الصباح وبعد الصباح، فأميز الأنواع بطريقة سلسة. أنفي تدرّب على الشم البعيد والقريب؛ الصباحي وما بعده. هل شممتم عطر الظهيرة في يومٍ شتائي لامرأة تخرج من شقتها إلى السوبر ماركت ثلاث مرات في ساعة واحدة؟ لا أظن هذا حدث معكم. هل شممتم عطر طالبة عائدة بعد ساعات دراسية من الجامعة؟ لا أعتقد. أنتم تنظرون إلى مؤخرتها المكتنزة وربما إلى رأسها المقمّط بحجاب أسود أو أزرق نيلي. وهو أمر يشبه مشاهدتكم لصدر موظفة شابة عائدة من دائرتها مرهقة. فلا فرق بين الرأس المخفي والصدر المخفي. لهذا فإن الاعتياد هو ما يجعلني أفرّق بين هذه وتلك. الرائحة والخطوات والأصوات. أن تدرّب ذاكرتك يعني أن تختزن كل شيء جميل يضاف إلى ذاكرة مرئية قديمة. وهذه ليست ذاكرة عمياء. تذكيه لي خالتي كلما خفت قليلاً في ليالي الشتاء الطويلة. لكن أنفي المفتوح الذي لم يتعرف بعد على عطر الليل ولم يميزه. جلبته الأرملة السمينة. لنقل رائحة الأنثى فيها وليس عطر الليل الذي يمكن لأيّ امرأة أن تضعه على عنقها ووراء أذنيها. روائح النساء أكثر إثارة وليس عطرهن. فهذا جاذبٌ وقتي، وذلك جاذبٌ أبدي كما كان عليّ أن أفهم هذا بشكل عنيف. وشهرزاد الظريفة المحتالة وجدت بي كنزاً في أربعينيتها الوحيدة. مردودي المالي اليومي يغنيها عن أن تشتغل خياطة أو مرشدة في روضة الأطفال. ولا أعرف كيف اهتدت إلى أن تقنعني بهذه الوظيفة الصعبة. أقنعتني بأنني علامة صارخة على وحشية الحرب: ليراك الناس والمسؤولون وأهل السلطة. أنت ضحية كبيرة لها. أنت شاب قوي وكان يمكن لك أن تعيش حياة أخرى ترى فيها الطبيعة والنساء والجمال وتسافر وتعشق وتتزوج وتنجب مثل البشر.. لهذا كنْ أمامهم ولا تخجل. وما يتصدقون به عليك ويمنحونك إياه هو بعضٌ من حقك الشرعي.
وعندما أسألها: أين البعض الآخر من حقي؟
تردد بقهر: التهمته الحرب. أكلته نيرانها العالية.
إنها ليست جميلة بما يكفي أن يتقدم لها عريس. مع أنها طويلة نسبياً وصدرها صلب كنت أراه قبل العمى بمصادفات البيت. أفخاذها ممتلئة أقرب إلى السمنة منها إلى الرشاقة. لكن وجهها يبعث على الكآبة فعلاً. متقلص وحاقد ومتوتر. لا يوجد فيه ملمح يبعث على الطمأنينة والسلام. شفاهها الغليظة رسمت عليها وحشاً مستفَزاً لا يؤتمن جانبه، غير أنّ العريف القبيح ابن خالتي ربما استهوته مؤخرتها المليانة وحلم بها. لنقل بأنه عطف عليها، وقد يكون عطف على نفسه أيضاً قبل أن يلتهمهما العمر هو وهي. فتزوجها في الوقت الضائع وقيل بأنه لم يفتح بكارتها في ليلة ذات حر شديد انطفأت فيها كهرباء الحي ليلة العرس بكاملها. وقيل بعد سبعة أيام، بأنه لم يفتح بكارتها بسبب انقطاع الكهرباء كما تتندر بعض جاراتنا. كان خائفاً وقبيحاً. لا يعرف كيف يتسلقها في الليل ولا في النهار، فأمضى أسبوع إجازته في ليل بلا كهرباء ونهار ينظر إلى نفسه في المرآة. يخشى نمرة اللاجمال معه، واللسان السليط الذي لا تستطيع حبسه ولجمه؛ حتى ذهب مرتبكاً إلى الجبهة واستشهد بعد يوم من التحاقه. فصارت أرملة، لم تذق طعم الرجل، وبقي فخذاها متشنجين. وجسد العازبة فيها بقي صلباً وموتوراً. ولا أعرف حتى اللحظة هل هي باكر أم لا. مع أن هذا لا يهمني كثيراً، ولا أنظر إليه بوصفه قضية كبيرة أو صغيرة. فهي بالنتيجة أرملة شهيد. لكن أمي يرحمها الله قالت لي وقتها: لا يجوز أن تبقى أختك وحدها وقد ورثت البيت من زوجها الشهيد حتى وإن لم يتزوجها.. كلام الناس لا يرحم.. ابقَ معها يا ابني واستر علينا؛ لهذا فأنا منذ زمن بعيد كبرت على سريرها وفي حضنها وبين ذراعيها. تحمّمني فأخجل أن ترى عضوي الذي ينتصب عادة. لكنها تضحك وتلمسه برفق. تتفحصه بطريقة غريبة “اكبرْ حتى يكبر معك هذا..”، كبرت في سنواتي الجامعية. حينها رفضتُ أن تحمّمني وتستطلع عضوي الشاب وتتفحصه كعادتها. تقدم بها العمر واستسلمت لشكلها التعيس كأرملة بقيت تحافظ على عذريتها حتى اليوم. لكنها ظلت تخشى شكلها الموحش وقد فهمت ذلك فيما بعد. فتدرأ عنها العيب باللسان الطويل واللسان الوحشي. ولا ترى وجهها في المرآة، كأنه عدوّ لها. وحش يتربص بحياتها. تقول لي “لا تتزوج إلا فتاة جميلة لكي تعيش سعيداً” فأقول لها بنفاق ومكر: لا جميلة بين الفتيات إلا أنتِ.. وكانت تحضنني وتبوسني، ومن باب المشاكسة تمد يدها تتلمسه وهي تضحك: هل كبر الصغير ههههه. وكان لا بد أن أفهم جزءاً من عقدتها الشخصية. وربما فهمت على نحو ما لماذا لم يفتح بكارتها العريف المرحوم ابن خالتي. بل تقريباً تكوّن عندي انطباع – ربما غير حقيقي – لماذا استشهد العريس بعد يوم واحد من التحاقه بجبهة القتال. أكيد بأننا عندما نكبر قليلاً نفهم القليل، ومن القليل نستنج الكثير. نتدرج بالعمر والجامعة مع الحياة الصعبة بوجود الحرب والموت والنيران والقصف، لكن خالتي تردد: المهم تتفوق في دراستك.. عسى أن تنتهي الحرب. لكن انتهت دراستي الجامعية وما انتهت الحرب. عشتُ معها في بيتها الذي لم يترك رائحة رجل أشمها. قبل أن أكون جندياً، وبعدما أصبحتُ جندياً. قبل وبعد أن تقلع الحربُ عينيّ وأكون أعمى بسبب الحرب أيضاً. لا أرى شيئاً إلا ظلال ذكريات الجامعة وزميلاتي وزملائي. لم يحدث أنني أحببت فتاة. ولم يحدث أن أحبّتني طالبة من قسمي أو من قسم آخر. فأمضيت سنواتي حراً تماماً، حتى ابتلعتني الجبهات كما ابتلعت غيري من زملائي الطلاب الشباب. وصار من المعتاد أن تقبّلني من فمي كلما أعود بإجازة. تحضنني وتدفن صدرها الصلب في صدري “من لي غيرك في هذه الدنيا” تنشج في أحضاني “الحمد لله أنك عدتَ سالماً”، فتسحبني إلى كل مكان في البيت وتريني بعض الأثاث البسيط الذي ابتاعته في غيابي “اشتريت سريراً واسعاً ليتسع لنا نحن الأثنين.. السرير القديم بعته إلى أم فلان”، فما زلتُ الصغير الذي احتضنته وربّته، وملأ عزلتها بوجوده اليومي، وخافت عليه كثيراً، كأنه سيطير في أيّ عاصفة تأتي. حتى أنها تنازلت قبل هذا من أن أتزوج فتاة جميلة كما أوصتني “الزواج دوخة راس. فكر بوظيفتك أولاً”. لكن الحرب الطويلة لم تجعلني أفكر لا بالمرأة ولا الوظيفة. فقد كانت تشغلني بحبها وحنانها الأنثوي وطريقتها الفوضوية. تبقيني طفلاً في حضنها. أشم صدرها الصلب من زيقها المفتوح. وتضع يدي بين فخذيها “هكذا أدفأ”، فتضيع في تلك النعومة الساخنة وتتلاشى وتذوب أحياناً في سوائل لزجة تتدفق، لكنها تهمس “لن يخرج علينا الصباح إلا وأنت ستعرف قصة الأميرة الشقراء وأخيها الأمير الأعمى الذي أحبّته وأحبّها”، لكنها تندغم مع أنفاسها وتسحب يدي من ذلك المكان القطني الصلب. أنام ولا أنام حتى تدركني غيبوبة لا أعرف مصدرها. لم تتحدث عن الأمير الأعمى وأخته الشقراء التي أحبته. قد أعرف هذا في ليلةٍ لاحقة. فيها مطر وبرد ودفء شهرزاد التي بدأت تكون أكثر وضوحاً معي. وبدأت كالأمير الذي يعشق أخته في قصتها التي لا أعرف تفاصيلها حتى اليوم. وهكذا يدركني الصباح تلو الصباح. وتأتي المساءات في هذا الدفء الذي افتقده، مثلما تفتقده شهرزاد التعيسة التي تمرر تكمش عضوي. تخنقه وتلاعبه، حتى أختنق معه ويطفر قلبي من صدري، بأمل أن أعرف ما هي قصة الأمير والأميرة الشقراء، وكيف تواصلا في الحياة. وشهرزادي التعيسة؛ مؤلفة الليل؛ تكلمني كثيراً لتطرد الملل الأعمى بي. ووحشة العزلة التعيسة. تروي لي قصصاً كثيراً “من خيالها كما أعتقد” عن النساء والرجال والزواج والمراهقات والأرامل. جاءت بأمثلة معينة عن أقاربنا البعيدين والقريبين. لكنها مثل شهرزاد، تنسل الحكاية تلو الحكاية لتشدني إليها، وأنا على سريرها في غرفتها الدافئة. أضيع في متاهات الأسرّة العريضة والضيقة لأميرات وعشيقات وبغايا وسبايا وزنجيات وموالي مكتنزات باللحم والشحم والأنوثة الخارقة.
بعض ليالي الشتاء تفضل أن أكون في سريرها “غرفتك باردة” تضمني بحنان “عطرها عذب” لم أشم من قبل رائحة امرأة سواها “يخيفني الليل الذي فيه رعد وبرق ومطر” تحكي لي تلميحاً عن النساء الأرامل والعزباوات ومحنتهنّ في غياب الرجل. تحكي لي عن الرجل وشوقه إلى دفء المرأة “الزوجة أو عشيقة” تكلمني بخفوت. في الخارج مطر يطرق على النافذة “المطر حلو لو معك امرأة ” أشعر بأنفاسها قريبة من أذني، وحركة يديها المخفيتين لا أعرف أين، وحفيف البطانية حولها. تتأفف بعد لحظات وتتلوى، كأنها هدأت “نمْ.. لا أريد أن أشغلك. الصباح لك” وصباحي هو الشم والخيال. حتى الغريب الذي يمر تنبهني حواسّي إليه. لاسيما النساء والفتيات الكثيرات اللواتي يذهبن إلى السوق ويعُدن منه. أو مستطرقات المحال الصغيرة والكبيرة. يتبضعنَ القليل من احتياجاتهنّ البيتية ويتركن روائحهنّ قريباً مني، متخاطفات من أمام كرسيي الثابت.
أحياناً تخرج من البيت. تحرص على أن تضع كأساً من الشاي الساخن في يدي لأمسكه جيداً: ساعة وأعود. قفلت الباب.. خذ بالك من البيت. وقد يكون زمن خروجها أقل من ساعة. تعود بصحبة امرأة قد لا أعرفها، لكنني مثل الكلب البوليسي أحتفظ برائحة عباءتها الخافقة. وصوتها وهي تسلّم عليّ وتشجعني “أنت أفضل منهم كلهم” ولا أعرف من هم، غير أنني أستدرك بأنها تقصد آخرين لا عمل لهم. وربما أجد في هذا عزاءً لي اعتدته من كثيرين يأتون إليّ. يتركون بعض الدراهم وأجزاء الدنانير في زيقي أو حضني أو يدي. والمرأة ذاتها في يوم آخر تلاطفني. أشم فيها رائحة مختلفة. أقول بأنها استبدلت عباءتها، فحاسة الكلب بي لا تخطئ. تمسك يدي وتهمس “أنت جميل وشاب قوي.. ليس مهماً أن تراني. بل أنا أراك في عافيتك وصحتك”. فأشد على يدها. أصابعها ممتلئة. ناعمة. تفرد أصابعها بين أصابعي للحظة، فتترك بي قشعريرة موخزة وتمضي “سأزورك متى ما كان عندي وقت فراغ”. تسألني بعد العشاء وهي تمسك يدي، أصابعها أيضاً ممتلئة وناعمة: هل أعجبتك المرأة..! أتساءل كالمستفَز: أيّ امرأة ؟ ههههه تنهض إلى شأن في المطبخ، وتعود حاملة صحناً من الشوندر أشم بخاره المشهّي. أتذكر أن لونه أحمر قانٍ. فأشعر بأن أصابعي تغوص في صحنٍ من الدم. أتردد في هضم الشرائح التي قصّتها بعناية كعادتها. تعود إليّ مشاكل قديمة في الحرب. ابتلع تلك الوقائع الدموية التي لا أريد أن أتذكرها أو أستدعيها. ولعلها تستدرك هذا الإيقاع الذي تعرفه، فتسحبني ببطء “قمْ..هيا” تقودني إلى المغسلة وتفتح صنبور الماء. ثم بيدها – يدها ممتلئة وناعمة مثل تلك المرأة التي تغازلني بهدوء- إلى غرفتها الدافئة “هنا أفضل لنا.. استرخِ” أمدد جسدي مرتاحاً في دفء الرائحة التي تبثّها أرملتي العذراء المتحركة في الغرفة. أظنها تستبدل ثوب البيت بآخر أخفّ منه. لعلها الآن أكثر تحرراً. لكنها تستبدل رائحة الأنثى بعطر ثمين. لا أعرف متى اشترته. أول مرة أشم هذا العطر الفظيع. وأظن أنها قوة مناخيري التي ترتفع مثل أشفار الحصان المهتاج “عطر بلاك أوبيوم إيف من عطور سان لوران” اقتربت مني وهي تضحك “قطرة واحدة تكفي ليدوخ العالم” سحبت جزءاً من بطانيتي وأدخلت ساقيها إلى جواري. أكثر من نصفها تداخل معي “نعمة الموبايل كثيرة”.. “هل تريد سماع أغنية؟”. كنت مأخوذا بعطر سان لوران. كان قوياً ثم هدأ وانتشر في حيز الغرفة المغلقة على دفء الشتاء الذي لا بد منه. تبدد إلى حد ما، غير أنه لم يخرج منها. ظل يدور حولي، أتخيله محمولاً على دورق زاجي مفتوح، ويطوف حول رأسي المخدّر “هل أعرض لك فيلماً عن الحب.. يمكن أن ألخّص لك بعد كل مقطع” وهي تمدّ جسدها إلى جواري. تأخذ يدي وتجعلها وسادة لرأسها، مفلول الشعر. فيمس بعض لحمها خاصرتي. أشعر بثوبها الخفيف وجسدها شبه العاري “إذن أنت لا تحب أفلام الحب” تسألني: “امرأة الصباح هل تعجبك؟” أقول بتلعثم: “لا أعرفها” ربما كانت بي رغبة لا واعية أن أطردها من رأسي. تهمس: “ستعتادان جسديكما. المرأة جسد ثمين. وأنت رجل”. ثم تضيف ” تحتاج أن ترتاح. أن تكون لك امرأتك.. أنت شاب وقوي” وأظل صامتاً. أتلقف لهفتها غير المخفية، وهي تقلب قلّبت بموبايلها قليلا. ثم تستعيد نصف جسدها الخارج عن البطانية المشتركة بيننا. بعد أن أطفأت المصباح الملتصق بمسند السرير. “احزر..” كانت الغرفة مظلمة. “ماذا أحزر..!” “ماذا ألبس أنا ؟!” خفّ العطر في رأسي وازداد بالوقت ذاته. وكانت في حضني الآن. تشمني وأشمها. عطرها مدوّخ “أنت قوي” ثم “يا عيني عليك.. لو تنتهي الحرب وتعود إليّ إلى الأبد” وتقرّب شفتيها أكثر حتى أسمع أنفاسها وأشمها. بل أسمع قرقرة صدرها وبطنها وأشعر بنمل فخذيها الممتلئين يدب لي. فأوازن تعاستي الليلية وانفجاري الوشيك “ما حكيتيلي عن الأمير وأخته” ويبدو أن الأميرة الشهرزادية انتهت من لوثة عقلها وجسدها وهي تخنقني بضراوة نمرة مشدودة الأعصاب، حتى هدأت وشخرت وبقيت يدها مبرومة الأصابع تخفف من خنقه حتى فلتت منه وحررته. وكعادتي أبقى يقظاً. أرى شهرزاد ولا أراها. أشعر بذبول جسدها الآن. أحياناً تغمرني بعض الراحة النفسية لأنني لا أرى الناس من حولي، فهم ظلال معتمة تتخاطف إلى أيّ اتجاه. كثيرون يأتون في ظلمتي الباردة وكثيرون يأتون، وليس أشقُّ عليّ من تلك المرأة الندّابة أمّ الشهيد، التي جعلت من مكاني قبراً لابنها. بين يومٍ وآخر تجلس عند قدميّ وتبكي بكاءً مريراً. حتى أخذت تناديني باسم ابنها الشهيد. فتتجمع نسوة السوق الذاهبات والعائدات. فأصبح قبراً ومزاراً. وهذه الصورة لا تفارقني. تشعرني بالأمهات الحزينات اللواتي غلبهن الزمن بأبنائهنَ. ولا أعرف لم تأتيني تلك المرأة من دون غيرها بعدما تنتهي شهرزاد مني، بحيلة الحكّاءة الماهرة التي تُداخل الحكايات والقصص ببعضها لتمر من خلال جسدي وتطفئه بيدها في أغلب الليالي الباردة. فتعود في ليلةٍ أخرى، وقد تعطرت بعطر فوّاح كأن جسدها مدهون بباقة من الجوري. وشعرها مغسول بالشامبو. ناعم وحريري. تصطفق السماء برعد كأنه صاعقة. اليوم لم أخرج إلى باب البيت كالعادة. مطر غزير أغرق الشوارع والأرصفة والمحال الصغيرة. كنت أشعر باهتزاز الأشجار والأبواب. وفي الليل البارد “كان يا ما كان.. أمير وسيم، يبلغ من العمر واحداً وعشرين عاماً، يعيش في قصر والديه. لكنه ولد أعمى. حجب الله عنه البصر منذ ولادته. ثم وهبه بعد سنة ابنةً ثانية، لكنها ولدت عمياء أيضاً. شقراء كالعسل. وُلدا هكذا بقدرة الرب.. كبرا مع بعض في حدائق القصر يداً بيد. يشمان عطور الزهور والحياة من حولهما. هو يروي لها من خياله وهي تروي له من خيالها.. أشياء كثيرة كانا يتبادلانها همساً عندما كبرا..”. ومع أن شهرزاد التعيسة تستطيع أن تجعل منها حبكة طويلة تشدني إليها، إلا أنها فركت أصابعي، كما يفرك الأمير أصابع الأميرة الشابة “أشعر بالبرد . أريد الدفء..” فأستدرك وأنا أرتجف “أجّلي القصة إلى ليلة أخرى” ترد بصوت مختنق “لا أنهيها الليلة.. تعبت ..” وبدا صوتها مخنوقاً فعلاً، أشبه بالبحّة المتحشرجة في بلعومها “إنهما سعيدان في وحدتهما. تناقشا ذات يوم وهما على تلّة مزينة بأشجار الزينة. سألته الأميرة: لا شك أن الحياة أجمل مما نحن فيه. رد عليها وهو يطوق ظهرها العاري بيده: نحن أجمل من الحياة هكذا، وحدنا.. يجمعنا ليل لا ينتهي لو نريد.. أتريدين هذا؟ فتجيبه الأميرة بخجل: أريد.. لا أريد أن أبتعد عنك. وتروي شهرزادي المتوترة وهي تضع فخذها الغليظ على فخذي “كانا يبتعدان عن فضاء قصرهما الفخم باتجاه الغابة المظلمة وهي تستشعر برداً مفاجئاً يعصف في جسدها الأشقر. فقالت له على نحو مفاجئ: خذني.. إليك”.