حقًا إن دمشق هي الجنة
خلافاً للحجاج المسيحيين السابقين لم يعبأ الحاج الألماني ثيتمار كثيراً بزيارة القدس، بل يمكن القول إنه زارها مكرهاً، ولكنه أبدى اهتماماً بالغاً بزيارة مكانين فقط يقعان خارج حدد الأرض المقدسة عند المسيحيين، وهما دير صيدنايا شمالي دمشق، حيث أيقونة السيدة مريم العذراء الشهيرة، ودير القديسة كاترين في جبل سيناء، حيث كتب عن المكانين بوله شديد تجاوز بمراحل عباراته المقتضبة حول القبر المقدس في مدينة القدس، والتي باتت تحت حكم المسلمين مرة أخرى، بعد أن طرد السلطان صلاح الدين آخر صليبي منها قبل وصول ثيتمار بثلاثين عاماً.
لا أحد يعرف معلومات قطعية عن هذا الحاج الغريب الذي لا نعرف سوى اسمه، وأنه من ألمانيا، وباقي المعلومات المتداولة حوله هي استنتاجات مأخوذة من نصه ذاته. فبعض الباحثين قالوا إنه كان صليبياً، كونه كتب في مستهل رحلته بأنه أخذ النذر الصليبي، ولكنه لم يكن مسلحاً، كما نلمس في سياق الرحلة. ويشي نصه بأنه كان على درجة عالية من الثقافة، حيث يُطلق عليه بعض الباحثين لقب المعلم الألماني. بينما بذهب البعض إلى أنه كان رجل دين من فيستفاليا وقائد مجموعة رهبانية.
ولكن تزامن رحلته مع الحملة الصليبية الخامسة، وغموض طريقة وصوله إلى عكا، وحديثه عن مرافقين مجريين، يرجح أنه كان على صلة مباشرة بالصليبيين، وربما أتى مع الملك المجري أندرو الثاني، فالذين التحقوا به كانوا في معظمهم من جنوب ألمانيا، وقد وصلوا في الفترة ما بين تموز (يوليو) وآب (أغسطس) من عام 1217 إلى مدينة سبليت الكرواتية على البحر الأدرياتيكي، ولكنهم اضطروا للانتظار بسبب قلة السفن لنقل الفيالق. وفي التاسع من شهر تشرين الأول (أكتوبر) هبطوا في قبرص، ومنها أبحروا إلى عكا وانضموا إلى حاكم مملكة القدس جون برين، وملك قبرص الصليبي هيو الأول، وملك أنطاكية الأمير بوهيمند الرابع للقتال ضد الأيوبيين.
ترك ثيتمار نصاً لاتينياً بعنوان “كتاب الحج”، ولكن هذا النص اعتراه الكثير من الاضطراب بسبب تصرف الناسخين، إذ توجد منه الآن ثماني عشرة مخطوطة، معظمها مختصرات عن النص الأصلي، وبعضها يحتوي نصاً مقحماً حول جبل سيناء، ولكن المخطوطات الأكثر أمانة للأصل هي أربع واحدة في هامبورغ، وثانية في برلين، وثالثة في روستوك، ورابعة في ولفنبوتل.
في عكا بين حشود الصليبيين
وصل ثيتمار إلى عكا في خريف العام 1217م، وكانت المدينة يومها وما يجاورها تعجان بجنود الحملة الصليبية الخامسة، الذين بلغ عددهم عشرون ألفاً من الفرسان، ومئتي ألف من المشاة، بحسب بعض المصادر التي لا تخلو من مبالغات. وبعد أن أقام في عكا فترة من الزمن، ربما من أجل الإعداد لرحلته إلى دير صيدنايا، شمالي دمشق، لرؤية أيقونة السيدة مريم العذراء التي كانت تنضح زيتاً. سافر ثيتمار عن طريق الناصرة وقانا برفقة مرشد مسلم، فرأى نين وجبل طابور الذي احتله المسلمون، كما يقول، ثم مر بالقرب من حطين والطابغة وصولاً إلى طبريا، ومنها سار على الشاطئ الجنوبي للبحيرة، وعبر نهر الأردن وسار إلى قرية فيق في الجولان، ومنها إلى خسفين، ثم نوى، فمليحة، فالصنمين، ومنها إلى الكسوة، وصولاً إلى دمشق التي بلغها في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1217 ومكث هناك، بحسب قوله مدة ستة أيام.
دمشق الجنة الأرضية
بعد أن يصف دخوله إلى دمشق، بما في ذلك الرسوم التي كان عليه أن يدفعها، يبدأ ثيتمار بالحديث عن المدينة نفسها التي ربطها بالمكان الذي قتل فيه قابيل شقيقه هابيل، وهي قصة مازالت متواترة في دمشق حتى اليوم، وهناك مقام في جبل قاسيون يرتبط بهذه المأثورة.
يقول عن مدينة دمشق: “إنها ليست محصنة بقوة، لكنها تعج بالناس الذين لم يروا مدينة بهذا الحجم من قبل. إنها غنية بما لا يقاس، مليئة بالحرفيين رفيعي المستوى والرائعين بتنوعهم. مدينة غنية وأراضيها الزراعية مبهجة، سواء تلك المزروعة، أو القابلة للزراعة والمناسبة للمراعي. أما المدينة فتخترقها القنوات الاصطناعية الرائعة التي تتجاوز الفهم البشري، ففي كل منزل وعلى طول كل شارع، تتوفر حمامات أو أماكن للاغتسال بشكل رائع من خلال نوافير مدهشة تبرع بها الأثرياء، وتلتف حول المدينة حدائق في غاية الإمتاع، تسقيها مياه جارية طبيعية. وقد ساهم في إبراز جمالها اعتدال الطقس، ومرح الطيور، وإشراق ألوان الزهور. وإذا أراد المرء أن يرى جمال الطبيعة كلها دفعة واحدة فليس أفضل من هذا المكان، لدرجة أنه يمكن القول حقًا إن دمشق هي جنة أخرى”.
والملاحظة الوحيدة التي يأخذها ثيتمار على دمشق هي أنها كانت مليئة بـ”المسلمين”. فهو يحمل الأفكار السائدة في أوروبا حول الإسلام في ذلك الوقت، والمتعلقة بتعدد الزوجات وغرابة الصيام والوضوء، معتمداً على مفاهيم معيارية تنطلق من الديانة المسيحية بوصفها الدين الحق.
أثناء وجوده في دمشق، ربما في القلعة، حاول ثيتمار رؤية السجناء الصليبيين المحتجزين “في حفرة السلطان” ، لكن الأمر كان خطيراً للغاية واكتفى بالتواصل مع إخوانه من خلال الرسائل، كما قال.
في دير صيدنايا
وصل ثيتمار إلى صيدنايا؛ لرؤية المعجزة التي تتحول فيها أيقونة السيدة العذراء إلى جسد حي؛ ينضح الزيت المقدس من ثدييها. ويبدو أن هذه المعجزة منذ ظهورها، ربما في القرن التاسع الميلادي، كانت قد تحولت إلى عيد سنوي يحتفل فيه المسلمون والمسيحيون بالمناسبة، وقد كتب عنها عبدالرحيم الجوبري الذي كان يعيش في دمشق في فترة وصول ثيتمار إلى المدينة، محاولاً تفسير الأمر بخدعة من جانب رهبان الدير؛ شرح تفاصيلها في كتابه “المختار في كشف الأسرار وهتك الأستار”.
ويبدو أن الأيقونة كانت تعرض على الزوار في أوقات معينة، إذ يقول ثيتمار إن “الراهبة أعدت مكاناً محترماً لكي تضع فيه الأيقونة، وطلبت من كاهن معين، يتمتع بالثقة أن يأخذها ويضعها في المكان المعد لها. لبس الكاهن الثوب بخوف وتوجه إلى الأيقونة. ولكن حين لمسها بيديه الذاويتين أصيب بمرض في جسده كله مدة ثلاثة أيام، فارق بعدها الحياة. وبعد ذلك لم يجرؤ أحد على أن يلمسها أو يحركها”.
وقد شرح ثيتمار كيفية تجسد أيقونة صيدنايا، إذ يقول: “أعدّت الراهبة إناءً أسفل الأيقونة، كانت قطرات الزيت تصب فيه. ومع ذلك، بدأت أيقونة والدة المسيح شيئاً فشيئاً تتلبس أثداء من لحم. أما الصورة، كما يشهد الإخوة الذين رأوها، مثل الأخ توما، الذي لمسها أيضاً بإصبعه، والعديد من الأشخاص الذين أعلنوا أنهم رأوها، فقد قالوا إن الأيقونة تتلبس الجسد من الثديين إلى أسفل. ومن هناك يقطر السائل المقدس”. ويضيف معلومة مهمة تتعلق بفرسان الهيكل، الذين كانوا يأتون إلى صيدنايا للصلاة عندما تكون لديهم هدنة مع المسلمين، حيث يأخذون السائل المقدس إلى منازلهم.
ويذكر ثيتمار قصصاً عن قدرات هذه الأيقونة على الشفاء، منها قصة سلطان مسلم، لا يذكر اسمه، أصيب بالعمى فجاء إلى صيدنايا وانطرح أمام الأيقونة وهو يصلي، فرأى ضوء المصباح الذي كان في الغرفة ثم رأى بعد ذلك كل شيء. وقد أقسم لله أنه سوف يتبرع كل عام بستين جرة زيت لإضاءة الكنيسة نفسها. وقال ثيتمار إنه حتى عهد نورالدين، سلطان مدينة دمشق، كانوا يستقبلون ذلك التبرع.
وأيضاً تحدث عن قصة أحد فرسان الهيكل الذي كان من المعتقلين في دمشق عام 1204م، وكيف ظهر له لحم في قنينة الزيت التي جلبها من صيدنايا، وكيف سال الدم من ذلك اللحم حين وضع سكينه عليه. كما روى قصة شاهدها بنفسه عن امرأة مسلمة كانت تبكي في عيد السيدة العذراء لأنها لم تكن تحمل إناء لكي تملأه بالزيت، وإذ بأمبولة كاملة تظهر بين يديها بشكل إعجازي.
إلى القدس رغماً عنه
عاد ثيتمار من دمشق إلى عكا، ومن هناك استأنف الجزء الثاني من الحج، فأطلق لحيته، وتنكر في هيئة راهب جورجي، وتوجه جنوباً عبر الطريق الساحلي إلى يافا، ثم منها إلى الرملة، فعمواس، فبيت لحم محاولاً أن يتجنب القدس، كما يقول، ربما بسبب تضييق المسلمين على المسيحيين، لكن، ولسوء حظه لم يكن تنكره متقناً، إذ تم أسره خارج المدينة، وسجن في إسطبلات الحمير السابقة لفرسان جبل الهيكل في كنيسة القديس ستيفن، ولكن سرعان ما أطلق سراحه بعد تدخل رفاقه المجريين الذين كانوا يرافقونه في السفر، حيث تعرف هؤلاء على مجريين مسلمين كانوا يقيمون في القدس بقصد الدراسة، فأمضى فترة وجيزة من الوقت يتجول في المدينة المقدسة، من دون تأثر، فكتب يقول: “لقد حول المسلمون هيكل الرب، الذي يقال إنه معبد سليمان، إلى مسجدهم، حتى لا يستطيع أي مسيحي دخوله. الكنيسة التي تحتضن قبر السيد ومكان آلامه لا تزال مغلقة، من دون أنوار ومن دون كرامة وتقدير، ويمكن فتحها بعد أن يدفع الحجاج ثمناً لذلك”.
من هناك واصل ثيتمار طريقه إلى بيت لحم، حيث قام برحلة إلى الخليل قبل أن يعود إلى بيت لحم، فزار بيت عنيا، ثم أريحا، ثم عبر الأردن، وبعد ذلك قال إنه زار صغر وعين جدي غرب البحر الميت. ويبدو أنه عبر البحر عن طريق قارب، ومر بجبل نبو ومأدبا قبل أن يأخذ الطريق السلطاني برفقة أدلاء من البدو، ليسير جنوباً باتجاه حسبان، والربة، والكرك، والشوبك، ووادي موسى، وصولاً إلى العقبة على ساحل البحر الأحمر.
دير القديسة كاترين
بعد ذلك سار في شبه جزيرة سيناء، حيث وصل، في رحلة صحراوية محفوفة بالمخاطر، إلى دير الثالوث الأقدس. وهناك عثر على ضريح القديسة كاترين الإسكندرانية، شهيدة القرن الرابع الميلادي التي اشتهرت، بحسب المأثورات المسيحية، بهزيمة مجموعة من الفلاسفة الوثنيين في مناظرة علنية. وتعد رحلة ثيتمار الدليل الأول القاطع على وجود ضريح لهذه القديسة على جبل سيناء. ويبدو أن رحالتنا كان مغرماً بسانت كاترين، فقد حققت زيارة قبرها له الراحة الروحية التي لم تستطع القدس تحقيقها. يقول في ذلك: “عندما علم أسقف ذلك الدير برغبتي وسبب مجيئي، استعد بإخلاص وصلوات وتراتيل، وبعد أن أضاء المصابيح والمباخر ذهب إلى تابوت السيدة العذراء المباركة كاثرين، وفتحه وطلب مني أن أنظر إلى الداخل. ورأيت جسد القديسة كاثرين، وجهاً لوجه وبلا شك. وقبلت رأسها المكشوف”.
ويخبرنا ثيتمار أنه زار كنيسة العليقة المحترقة التي سبقت في الزيارة والتبجيل مقام القديسة كاترين. وبعد أن لاحظ أن العليقة كان يبجلها المسلمون والمسيحيون وهم حفاة القدمين، يقول: “تم اقتطاع العليقة الأصلية وتقسيمها بين المسلمين والمسيحيين، ولكن ثمة شجيرة تشبهها مصنوعة من صفائح الذهب؛ عليها تمثال من ذهب للمسيح، وعلى يمين العليقة صورة ذهبية لموسى وهو يخلع نعليه، في المكان الذي أرسله الرب في مهمته إلى فرعون مصر ليقود شعبه”.
ويمكن القول إن القديسة هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين هي أول من حدد موقع العليقة المقدسة في سيناء، حيث بنيت عليها كنيسة وأصبحت محطة رئيسة من محطات الحج المسيحي، واستمر الاهتمام بها في عهود الأباطرة اللاحقين، وعلى رأسهم جوستنيان الذي أنشأ دير جبل سيناء في القرن السادس الميلادي، والذي تحول إلى دير سانت كاترين بعد العثور على رفات القديسة على أحد جبال سيناء، وثمة جامع فاطمي داخل الدير بناه أبوالمنصور أنوشتكين الآمرى في عهد الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله في العام 1106م إلى جانب كنيسة التجلي وكنيسة العليقة المقدسة.