حكاية القصة التي تأبى النهاية
“في البدء كانت الحكاية، ثمّ وبعد زمن كانت الكائنات، وفي النهاية تبقى الحكاية”. كانت هذه العبارة افتتاحيّةَ القصة التي راودتْ ناصر القصّاص منذ ريعان شبابه وأيام فتوته؛ حين كانت القصص تقفز عليه من كل حدب، فيحتضنها بحنان. وفي تلك الأيام الغضّة لم يكن الإلهام أحد همومه؛ إذ كان يصطدم به عند كل منعطف، ويهبط عليه على رأس كل ساعة، حتى في أحلامه. تلك الأحلام مكتملة الأركان، بوضوح بداياتها ومتنها ونهاياتها، والتي لا تشبه بأيّ شكل أحلام الغير المتشابكة.
ورغم أنّه من النادر أن يكون لأحد من اسمه نصيب، فقد كان لناصر القصّاص من اسمه كلّ النصيب. ربما من قبيل الصدفة المحضة أن يُضفي لقب العائلة على ناصر فِعْلَ القصِّ، لكن على كل حال فقد كان لوقع اسمه صدًى مميّزٌ وجميل، وكان مُعبّرًا بالضبط عن هويته. ومن فرط التصاق سيرته بالقصص كان البعض يظنون أنّ القصّاص لقبٌ يشهد على باعه في القصّة، ولم يخطر في بال أولئك إطلاقًا أن يكون ذلك جزءًا من اسمه.
بدأت موهبة ناصر بالظهور في سنٍ صغيرة، وحين بلغ العشرين من عمره كان قد كتب أكثر من مائة قصة، وعلى غزارة إنتاجه فقد كان مُجِيدًا لدرجة تثير الدهشة، وتُقارب الكمال. جميع من قرأوا قصصه شدّهم فيها شيءٌ خفيّ عصيّ على الفهم، كانت تُدوِّخ قارئها بسحر أخّاذ، ومثل تلك الأحلام الغريبة التي يراها المرء في سن الثالثة أو الرابعة وتبقى عصيّة على النسيان، كانت قصصه تبقى عالقة في ذهن القارئ إلى الأبد. الغريب في الأمر أنّها حكايات مثل كل الحكايات، مكتوبة بنمط عادي وبلغة تكاد تكون عادية، لكنها لا تخلو أبدًا من الدهشة. وكان ناصر يعزو ذلك إلى الحظّ فقط، فقد اعتقد متيقنًا أنّ للقصص حظوظا مختلفة في الحياة ترفعها أو تحطّ من شأنها، مثل البشر. واعتقاده هذا أحد اعتقادات عديدة ومتطرفة كان يؤمن بها فيما يخصّ القصص؛ أولها هو أنّه كان يؤمن أنّ القصص حيّة، تتنفس مثل كل كائن حي، تعيش في عالم موازٍ للعالم الواقعي، تُولَد وتكبر وتموت، تحلم وتتطوّر، تتزاوج وتنتج أجيالًا جديدة تختلف عن أسلافها، ترهن أمرها للقدر كما تسعى للخلود، تفرح وتحزن، تُصِيبُ وتَخِيب، تنال أو لا تنال، فيها السعيد وفيها التعيس، ومثلنا يُقلقها وجودها وتبحث عن المعنى من الحياة وتخاف الفناء والنسيان.
لعل أكثر ما يُحيّر بشأن قصص ناصر القصّاص ينبع من كونها ترتبط به بطريقة ما، وأنّها مكتوبة بواسطته، فالرجل بحدّ ذاته لغزٌ مُحيّر. الذين عاشروه كانوا يعتقدون أنّ به لوثةً من الجنون؛ ذلك أنّه يتفوّه بأشياء غريبة وأحيانًا بلا معنى، علاوة على أنه كان دائم الشرود، كما لو أنّه يعيش حياة غير الحياة التي يعرفونها ويرى عالمًا غير الذي يرونه. غير أنّه لم يشعر مطلقًا باختلافه الذي يقول به كل من حوله، كان يعلم أنّ له حياة واحدة سيعيشها، وكان راضيًا تمامًا عنها.
لقد كان لناصر القصّاص سيرة أدبية ناصعة يحلم بها كل الكُتّاب، فقد لاقت قصصه رواجًا واسعًا بين القُرّاء، واستحسنها النُقّاد، وحتى ذلك النوع من النُقّاد الذين يلمحون القبح في ناصية الجمال لم يستطيعوا أن يكتبوا بسوء عن إنتاجه الأدبي الغزير فالتجأوا إلى نقد شخصِه الغريب المتعالي. معظم المثقفين والكُتّاب والشعراء لم يحبّوه رغم استحسانهم لأعماله، وسبب ذلك عزوفه عن الوسط الثقافي، إذ كان منطويًا على نفسه، لا تجمعه علاقات شخصية بالفاعلين في الوسط الثقافي، لا يحضر ندواتهم، لا يلتقي بهم في صوالينهم الثقافية، لا يتابع أخبارهم ولا يحتفي بإنتاجاتهم. بل إنّه كان يرفض الأضواء التي تفرضها جلسات توقيع الكتب واللقاءات والحوارات، ويتغيّب عنها. حتى ناشره لم يكن يلتقي به، كان فقط يكتفي بالجلوس إلى نفسه وتأمُّل الفراغ والكتابة ثم الكتابة.
كتب القصّاص خلال ثلاثين سنة ما يربو على ألف قصة، بعضها حملته الكتب، وبعضها آثر أن يحتفظ به لنفسه لا لسبب سوى لإحساسه بأنّ قدرًا ما يربطه بها. كان دومًا في حالة تداع، ازدحمت كل أيامه بالقصص التي تُكتَبُ أو تنتظر الكتابة أو تتشكّل. في البداية كانت الكتابة صعبةً بعض الشيء، تستهلك طاقته وتحبسه في تعاسة وبؤس شديدين، لكن وبعد مرور فترة صارت الكتابة عنده عادة سهلة القياد. لم يكن له طقس معين ولا مكان معين، كان يكتب في أيّ مكان وأيّ زمان، في الورق أو في الأرض. أغرب طرق الكتابة التي مارسها كانت الكتابة الذهنية، حين يُشكّل القصة ويسردها في ذهنه، ويحتفظ بها هناك مستفيدًا من ذاكرته الفولاذية التي لا تفلت منها أيّ ذكرى مهما بدت تافهة. ورغم أنّ الأمر غير قابل للتصديق إلّا أنّه لم يكن مستحيلًا بالنسبة إلى شخص مثل ناصر أن يحتفظ بركن بعيد في ذاكرته يخزّن فيه قصصًا بحالها، من العنوان إلى النهاية!
حطّم ناصر – بغير قصد – كل القيود المفروضة على الشكل، وخالف كل النصائح التي تقول بأنّ على الكاتب أن يقرأ ألف كلمة قبل أن يكتب كلمة واحدة، لم يكن يقرأ إلّا ما ندر، ولم يحاول يومًا أن يبحث عن طرق تدريب على الكتابة. إلّا أنّه كان عبقريًا في اختلاق القصص ومتمكنًا من أدواته بصورة تأخذ الألباب، سرده كان يسحب القارئ إلى عالم آخر لما فيه من تشويق يبعث على القشعريرة وإن كان يحكي عن أكثر الأمور رتابة. وفضلًا عن مهارته الفائقة في رسم شخصيات خالدة وبناء حوارات لا تنسى، امتلك ناصر القصّاص خاصية استثنائية تجعل القارئ يعيش تجربة مختلفة. فعندما يقرأ قصة تعتمد على الفلاش باك يشعر القارئ بأنّه عاد بالزمن إلى الماضي بالفعل، وحين يكتب ناصر عن البحر يكون بإمكان القارئ أن يشمّ نسائم البحر ويسمع تلاطم أمواجه ويرى أمامه المد والجزر يلاعبان رمل الشاطئ. كان لناصر تلك القدرة العجيبة على التلاعب باللغة، في فعل أقرب ما يكون إلى معجزة.
المدهش أكثر من القصص نفسها هو ارتباطها بالواقع والأحداث الغريبة التي تزامن كتابتها. حدث مرّة أن كتب عن رجل يدعى شادي القطّان ليكتشف بعد فترة طويلة أنّ الرجل حقيقي وله شخصية تماثل الشخصية المُتخيّلة حدّ التطابق. وفي مرّة كتب عن موت مأساوي لفتاة شابة، عرف بعد أيام أنه حدث بكل تفاصيله. ومرةً بعد أخرى كانت حكاياته قد حدثت بالفعل أو تحدث فيما بعد. كان ناصر يرى الأمر عاديًا لاعتقاده أنّ بين الواقع والخيال تماس يمتد أكثر مما قد يتخيله عقلٌ بشري.
بعد وقت قصير من أولى كتاباته لم يعد ناصر يستصعب الكتابة بالمرة، تلاشت همومه التي كانت تنغّص عليه في بداياته، فلم يعد يحتار في كيفية بداية القصة أو في اختيار الأسلوب المناسب لسردها، ثم اختفت الشكوك التي كانت تصيبه فيما يتعلّق بأفكار القصص وجدارتها بأن تكتب. كل هموم الصغار تلك فارقته إلى الأبد، إذ اتحد كيانه مع الكتابة، فصار يكتب كما يتنفس، بلا وعي. كان الأمر عنده بسلاسة جريان مياه الأنهار، وسهولة رفع الذراع، شيءٌ تلقائي لا يحتاج كثير تفكير أو جهد.
كانت القصص مطواعة بين يدي ناصر، يُشكّلها كيف يشاء، وقتما شاء، أو ذلك ما كان يعتقده معظم أوقاته. حتى تأتي اللحظة التي تضيع فيها ثقته هذه في مهبّ الريح، عندما يتذكّر تلك القصة الوحيدة التي استعصت عليه طوال مسيرته الكتابية رغم شعوره برغبة مفرطة في الفراغ منها. كان قد احتفظ بفكرتها في ذاكرته لسنوات طويلة، لكنها لم تكن واضحة المعالم، كانت تهرب من ذهنه كلما عصف ذهنه ليكتبها، ما دفعه للندم على قبوله بها من المقام الأول، لكنه على كل حال ما كان له أن يرفض قصة تأتيه منكسرة. ولأنه كان يعتقد أنّ القصص تختار أصحابها فقد كان يعلم أن تلك القصة اختارته لسبب وجيه، وكان يعلم أنها رُفضِت مرارًا وتكرارًا. كان يعلم أنّها خطرت لكُتّاب متعددين، في أزمان مختلفة، منهم المبتدئون والمغمورون والعظماء، معظمهم لم يمتلكوا الجرأة لكتابتها. القلة القليلة التي خاطرت بقبولها كانوا يصابون بالمرض أو يختطفهم الموت أو يفقدون عقولهم قبل أن يخطّوا سطرًا وحيدًا منها. كيف عرف بذلك؟ هو نفسه لا يعلم. كان يعطف عليها، ويشعر بحزنها، ويرجو ألا يضيع أملها فيه سدى. حين قبل بها كان شابًا يافعًا مفتونًا بالخيال مزهوًا بقدرته على انتزاع الحكايات من كل شيء. وقتها كان يعرف أنها في عالمها تدعى القصة الملعونة، لكنه كان يؤمن بحقّ القصص في أن تُكتب وتعيش وتُخَلّد.
بدأت حكايته مع القصة الملعونة منذ اليوم الأول، شرع في كتابتها قبل أن تتبلوّر في ذهنه، كتب على عجالة “في البدء كانت الحكاية، ثمّ وبعد زمن كانت الكائنات، وفي النهاية تبقى الحكاية”، ثم توقف. تطلّب الأمر منه سنوات عديدة ليتمكن من إضافة كلمة أخرى، وكان كلما خطّ كلمة سارع بمحوها. كان يجلس لساعات طِوال في محاولة لسبر أغوار هذه القصة الغريبة، لكن شيئًا لم يتغيّر. كتب المئات قبلها، ثمّ مئات بعدها، إلّا أنّه عجز عن أن يأتي ببضعة سطور منها.
لقد كان ناصر يعلم من واقع خبرته أنّ القصص مثل الأجنّة؛ ينبغي أن تكمل حملها بلا نقصان أو زيادة، وإلّا خرجت ميتة أو غير مكتملة سرعان ما تموت. لذلك لم يكن يستعجل قصصه، ولم يكن يدع الفترة تطول فتهرب القصص من بين يديه كما يهرب الماء فلا يبقى منه سوى البلل. كان يعي أن تلك القصة مختلفة، فهي الوحيدة التي أتعبته لسنوات وجعلت منه شخصًا غريبًا. كان كلما مضى فيها لا يجد نهاية لها فيمحوها ويعيد كتابتها من جديد. بعد سنوات تملّكه الخوف منها، وصار الضيقُ ملازمًا له، وكان يحسّ بضآلته أمامها رغم إنتاجه الغزير والفريد عداها. في شبابه كان يشعر بأنّ المستحيل كلمة وجدت لنثبت عدم وجودها، لكنه وبعد أن كبر لامس استحالة إكمال تلك القصة الملعونة، وزاد من همّه أنّ ذاكرته خذلته في النهاية، ومخيلته بدأت في الانحسار، وشيئًا فشيئًا كان الخيط الذي يربطه بعالم القصص يصير أوهن.
بعد بلوغه الستين قرّر أن يتخلّى عن تلك القصة، بيد أنّها تشبثت به وتابعته مثل ظلّه، فصارت تلاحقه في أحلامه ويقظته. وحتى ملاذه الوحيد الذي كان يشغل به نفسه صار بلا فائدة، إذ صارت القصة الملعونة تزاحمه وتجثم على صدره أثناء هروبه بكتابة قصص غيرها.
بمرور الأيام وبعد كثير من التفكير والتأمُّل، وشيئًا فشيئًا تحوّلت الرغبة في إكمالها إلى احتياج، ثم إلى سبب مقنع للحياة. وأخيرًا توقف عن كراهيتها التي امتلأ بها قبل ذلك، وعاد إليه الإيمان أن كل شيء يحدث بسبب ولسبب. أقنع نفسه بأنّه لم يستعجل حين قبل بها، وأنّه لم يكن مثل الكلبة تتعجّل الولادة لتلد جروًا أعمى، كما كان يقول عن نفسه.
في تلك الأثناء اختفى ناصر القصّاص من الساحة، وتوقّف عن النشر. كان قد كرّس ما بقي من حياته ليكمل تلك القصة التي رافقته طول عمره. كان يجلس في الصباح والمساء محاولًا إكمالها، يحمل أوراقه طوال اليوم وفي أيّ مكان يذهب إليه.
كان يشعر بضرورة حثيثة في إكمالها قبل أن يموت. حتى اهتدى مرّةً إلى كتابة قصته معها، ومن وقائعها عرف أنّ القصة التي تأبى النهاية هي قصة الحياة والموت وتداخلاتهما؛ قصة الواقع والخيال، هي القدر الحتمي، والمصير المشترك، والحبل السري الذي يربط القصص بالكُتّاب.
اختفى ناصر القصّاص وخلّف وراءه آلاف القصص الخالدة، وقصة وحيدة غير مكتملة. لكن قبل أن يمضي إلى ما مضى إليه عرف ناصر ما عجز عن فهمه لحياة كاملة؛ أنّ القصة التي تأبى النهاية هي قصّة مكتملة، تحكي بالضرورة عنه وعن كل شيء.
كتبت الصحف والمجلات الثقافية عن الظهور الأخير لظاهرة أدبية خالدة؛ ناصر القصّاص الذي كان بعيدًا عن الأضواء طول حياته ترك قصةً أخيرة من غير عنوان تحكي عنه وتسرد جزءًا من سيرته، في خاتمتها ذكر القصّاص أعظم قصة كتبها طوال حياته، أخذت منه عمرًا كتابيًا كاملًا ليكتبها، كانت موسومة بـ”حياة”، تكوّنت من ثلاث عشرة كلمة فقط، تقول بلغة حميمة “في البدء كانت الحكاية، ثمّ وبعد زمن كانت الكائنات، وفي النهاية تبقى الحكاية”.
تحت عنوان “القصة التي تأبى النهاية” نُشِرَتْ قصة ناصر القصّاص الأخيرة، في إشارة إلى أن ناصر هو ذاته قصة تأبى أن تكون لها نهاية.