حكاية كيليطو
يختم عبد الفتاح كيليطو كتابه النقدي الأخير “في جو من الندم الفكري”، وهو يحدثنا عن الليلة الأخيرة من “ألف ليلة وليلة”، حين تحكي شهرزاد قصة أحد الملوك، فيتبين لشهريار أنه هو المعني بالحكاية، ليصرخ في حضرتها “والله هذه الحكاية حكايتي”. واليوم، يصدر كيليطو رواية بهذا العنوان “والله إن هذه الحكاية لحكايتي”. إذن هكذا هي كتب كيليطو، يؤدي بعضها إلى بعض، حيث يبدأ المؤلف كتابه من حيث انتهى الكتاب السابق… أو من حيث لا ينتهي…
لا تسلم كتب كيليطو من “ألف ليلة وليلة”، حيث تحضر الليالي في جل أعماله، لا فرق في ذلك بين مُؤَلَّف نقدي أو عمل سردي. في رواية له سابقة “أنبئوني بالرؤيا” نقرأ منذ البداية “أحب القراءة في الفراش. عادة مكتسبة منذ الطفولة، لحظة اكتشاف أليلة ليلة وليلة”. وها نحن نعود إلى الليالي العربية مع “كيليطو، في رواية تحمل اسم “والله إن هذه الحكاية لحكايتي”. فاستنادا إلى طبعة خاصة، يحدثنا كيليطو في كتابه النقدي الأخير عن موقف شهريار وهو يستمع إلى الحكاية الأخيرة لشهرزاد، حين يهتف “والله هذه الحكاية حكايتي”، ثم يؤلف كيليطو رواية جديدة بعنوان “والله إن هذه الحكاية لحكايتي”. فهل يمكن القول إن هذه الرواية هي حكاية كيليطو أيضا؟ وما الذي يؤكد ذلك؟ ولا شيء مؤكدا في الأدب؟ لكن التأكيد المضاعف في العنوان، بإضافة “إن” واللام على كلمة “حكايتي” يوحي بذلك، بأن الحكاية هي حكايته، من؟ ربما كيليطو. ولنا أن نستحضر كيف شرع الرجل، حتى في دراساته الأخيرة، في الحديث عن طفولته، وعن قراءاته، وعلاقته بالثقافات الأخرى، وتفاصيل من حياته الخاصة… في ما يشبه متفرقات سير- ذاتيه نصادفها مبثوثة هنا وهنالك.
على غرار ألف ليلة وليلة، فإن الحكاية الإطار في الرواية الجديدة لكيليطو هي قصة نورا، زوجة حسن ميرو، التي ارتدت ثوبا من الريش، وطارت في السماء، تحمل طفليها الصغيرين، إلى أن اختفت عن النُّظار.
تتقاطع قصة نورا، أو زوجة حسن ميرو، وهي تحلق في المساء، مع قصص متجاورة في هذه الرواية، ومن ذلك قصة الحسن البصري والجنية. علاقة نورا بالجنية، وعلاقة ميرو بالبصري، وكيف تجمعها الرغبة في الكتابة والقراءة. وحتى لا نقع في تأويل إسقاطي، لا نقول إن حسن ميرو هو كيليطو، بل إن حسن ميرو تجمعه علاقة بحسن البصري، وهما معا تجمعهما علاقة بالمؤلف. أليس هو نفسه الذي أقام هذه العلاقة، بناء على قاعدة أساس في الكتابة السردية كما النقدية عند كيليطو، وهي قاعدة المقارنة! إذ غالبا ما يقرأ كيليطو ظاهرة في ضوء أخرى، حكاية في تقاطعات تخييلية مع غيرها، شخصية معاصرة وهي تتلبس لبوس شخصية تراثية، وهكذا… وكذلك أيضا. وفي هذا، يصدر كيليطو عن فلسفة مقارنة تؤطر تفكيره النقدي وتخييله السردي، وهي فلسفة عابرة للثقافات والحكايات، على نحو ما فعل هنري كوربان.
في هذا السياق، نستحضر ذلك التقارب اللفظي بين نورا ونورما، زوجة يوليوس موريس في الرواية، والذي ترجم كتاب “المثالب” إلى الإنجليزية، على غرار التقابل بين حسن ميرو وحسن البصري. ويستمر “التخييل المقارن” عند كيليطو، حينما نعلم أن نورما منشغلة هي الأخرى بدراسة رواية بطلتها امرأة طائرة، مثلما حلقت نورا في السماء.
الكتاب بطلا
وحكاية كيليطو هي الحكاية ذاتها، إذ الرجل غاوي حكايات. أما الحكاية التي يقترحها علينا هذه المرة بطلها كتاب لأبي حيان التوحيدي، وهو كتاب “مثالب الوزيرين”، أو أخلاق الوزيرين”. يشرع حسن في إعداد أطروحة عن تراث أبي حيان التوحيدي، لكنه يصطدم بهذا الكتاب، وما شاع عنه من أنه كتاب ملعون، ومن قرأه ستصيبه لعنة ما، وقد يكون مصيره الهلاك. تذكرنا رواية كيليطو هذه برواية “اسم الوردة” لإمبيرتو إيكو، وبطلها كتاب أيضا. وهذا الكتاب في متخيل إيكو هو مخطوطة الجزء المفقود من كتاب “فن الشعر” لأرسطو، والذي خصصه المعلم الأول لدراسة الكوميديا، بينما لم يصلنا من كتابه المؤسس سوى ذلك الجزء الخاص بالتراجيديا. لكأن التراجيديا هي القدر الإنساني الذي تبقّى لنا!
في كتابه “العين والإبرة”، وهو كتاب خصصه كيليطو لدراسة ألف ليلة وليلة، يستحضر الناقد أصل هذه الحكاية، كما جاء في الليالي العربية، من خلال قصة الملك يونان والحكيم رويان الذي عالج الملك من مرض البرص، لكن الملك سيقتل الطبيب الذي أنقذه من الموت، اعتقادا منه أنه جاسوس. وقد انتقم الطبيب لنفسه، حين قدم للملك كتابا وطلب منه أن يقرأه بعد موته. وقد جعل الطبيب أوراق الكتاب ملتصقة بالسم، فكان لزاما على الملك أن يبلل أطراف أصابعه بريقه لكي يقلب صفحات الكتاب. وهنا، ظل الملك يتجرع السم من حيث لا يحتسب، إلى أن مات. وليس يخفى على المتخصصين ذلك التشابه الذي ألمعنا إليه في مناسبات سابقة، بين كتابات كيليطو وإيكو وبورخيس ومانغيل ومن جرى مجراهم السردي في الكتابة الإبداعية كما النقدية، سواء بسواء.
وخلافا لحكاية الكتاب القاتل، يقرأ الكاتب ويؤلف الكتب لكي يحيا. إنها الكتب التي نحيا بها، وهي الكتب التي لا تضمن الخلود لمؤلفيها فقط، بل تضمن الخلود لشخصيات روائية متخيلة، ليس لها وجود في الواقع أصلا. شخصيات لم تولد، ولكنها لا تموت. فنحن القراءَ عندما نمنحها عطفنا وإعجابنا، حسب توماشيفسكي، إنما نهبها الحياة، ونجعلها منذورة للأبدية.
الكتاب الملعون
تذكرنا حكاية الكتاب “الملعون” للتوحيدي بفيلم “الكتاب الملعون” للمخرج ستيوارت سبيرك، عن رواية للكاتب بول باتلر. والمفارقة أن الفيلم الذي يعود إلى سنة 2018، إنما يحكي ويصور لعنات وأشباحا تطارد كل من قرأه. بل الغريب في الأمر أن الكتاب يضم رسومات وعبارات وجملا بالعربية وردت كما اتفق، لتتخذ شكل رموز وطلاسم ملغزة.
لم يشكك كيليطو في أن السلطة هي التي روّجت لكون الكتاب مشؤوما، في نوع من الرقابة الذكية على كتاب “مثالب الوزيرين”، وقد علمت بأن الكتاب قد ساح في الأرض، بسبب ناسخي الكتب الذين كانوا يمثلون دور نشر كاملة الأوصاف، قبل ظهور الطباعة. يستحضر كيليطو ما تواتر حول إقدام التوحيدي على إحراق كتبه، في حين كانت أقلام النساخ قد طوفت بها الآفاق. ولعل التوحيدي هو الذي روج لهذه الإشاعة التي حذرت من قراءة الكتاب كيما يقبل الناس على قراءته، في نوع من الترويج للكتاب وتسويقه. في “تاريخ القراءة” يورد ألبرتو مانغيل تفسيرا مماثلا، وهو يتحدث عن الوصية التي تركها فرانز كافكا لصديقه ماكس برود، لما طلب منه أن يحرق كتبه من بعد موته. يرى الكاتب الأرجنتيني أن كافكا أراد أن يحتج على من لا يقرأ كتبه، وأن يقول بأنه غير جدير بالاستحقاق، ليردد القراء من بعده “كلا، إنك جدير بالاستحقاق”، فيهرعوا إلى قراءة كتبه بنهم، ويقين راسخ في عبقريته…
لعنة القراءة
كتب فولتير حكاية طريفة عن لعنة القراءة بعنوان “الخطر الفظيع للقراءة”، نشرت في منتصف القرن الثامن عشر، ضمن سلسلة نصوص تمثل مقدمات لفكر الأنوار. والقراءة فعل تنوير، تبعا لأدبيات هذا العصر المؤسس. قصة فولتير كانت مقتبسة من قرار أصدره مفتي الديار التركية، في عهد الإمبراطورية العثمانية، يحذر فيه من ظهور المطبعة في تلك الفترة. وبحسه الساخر في الكتابة، ونقده اللاذع، ينبري فولتير لقرار المفتي الذي أكد أن طباعة الكتب باتت تهدد الجهل، بوصفه (الجهل) هو الضامن لاستمرار الدولة وضمان هيبتها، حسب هذا المفتي. أما حكاية “مثالب الوزيرين” فستدفعنا لا محالة إلى قراءتها أكثر من مرة، وستدفعنا إلى قراءة رواية كيليطو، وتالله إن هذه الحكاية لحكايته… والحال أن حكاية كيليطو تظل ترشح بالكثير من المواقف والآراء والتأملات النقدية، مثلما ترد دراساته النقدية في صيغ سردية، وتآويل محكية، كأننا بالرجل يكتب النقد بنفس سردي، ويكتب العمل الروائي بحس نقدي، وذلك اختياره الشخصي في الكتابة، ومذهبه في الأدب والغرابة.