حكاية لكلّ الحكايات
الحكاية الأم
لا يستطيع الادعاء بأنّه يحبّها، ولذلك سيقتل أيّ رجلٌ يقترب منها، كما فعل أخوه قابيل الذي قتل أخاه هابيل ليخلو له قلب أختهم راحيل، ولن يخدع نفسه، فيقول إنّ أخته جميلة إلى حدٍ لا يقاوم، ولن يزعم كذلك أنّه يريد أن يصطفيها لنفسه لأنّها أثيرة أبويه، أو صاحبة مال أو موهبة نادرة، لكنّه يريد أن يحصل عليها كي يكسر أنفها الأفطس الذي يشبه أنفه تماماً، ولا عجب فهي توأمه، ولكنّه يمقت أنفها المتعالي الذي كان يزحم عليهما المكان في رحم أمّه حوّاء، وهو الآن معنيٌ بذلّ كبريائه، ولو كبّده ذلك غضب الربّ، وفطر قلبي والديه آدم وحواء من جديد بعد مقتل ابنهما هابيل منذ دهور طويلة.
يتربّص بأخته ذات الأنف المتعالي وعزّة النّفس المقيتة، يحيك بمهارة خيوط المؤامرة، ينقضّ عليها في سكون الليل وهي تسعى لقضاء حاجة في الخلاء حيث الخفافيش والعراء واللاأحد، يستعدي عليها الأخوة الجاهلين، فيحزّ رقبتها، ويهشّم أنفها الأبيّ بحجرٍ باشتهاء واضح، وينعاها لوالديه، ويطعم جسدها للضواري والكواسر، فهي قد أهدرتْ شرفها وِفْق زعمه، فاستحقّتْ الموت بعرف طقوس الدم المتوارثة.
الحكاية النموذج
- 1:1
احتاج إلى مبلغٍ من المال، فسطا للمرة الألف بقوة الذراع ودم الأخوة المزعوم على مالها، وعندما قرّرتْ أن ترفض استنزافه المقيت لها، وقالتْ لا، عاجلها بطعنة سكين بقرتْ بطنها، واخترقتْ أشلاءها، فانزلق جنيها أرضاً بين قدميها مطعوناً بطعنة أمّه التي دفعتْ حياتها؛ لأنّها قالتْ لأخيها الظالم: “لا”، ولأنّها امرأة وصمتْ العائلة بوصمة العار المزعومة، وأهدرتْ شرفها، كما قال خاله في محاضر التحقيق الجنائي، فصدّقه الناس والقانون، وكذّبوا الجنين المطعون.
- 2:1
أراد أن يضمّ إرثها إلى إرثه، فرفضتْ بقوةٍ وإصرارٍ، فكسر لها ضلعاً، فنبت لها ضلعان، منعها الطعام، فأصيب هو بفقر الدم الحاد، رزمها متاعاً، وقرّر أن يبيعها لصديقٍ لا يملك إلا ذراعاً عاتية، وعضواً ذكرياً متحفزّاً، وعقلاً صغيراً لا يُثقل عليه، فرفضتْ ذلك، وهربتْ مع الرجل الذي تحبّه، وتزوّجته، ومن جديد طالبتْ بإرثها، فطلبها الأخ صاحب الدم الحار والعضلات المفتولة والمروءة المتعلقّة، وعدا على بيتها، وحزّ عنقها، وتبجّح قائلاً: إنّه محا عارها الذي لا يُمحى إلا بالدم الذي غلى في مرجل غضبه باتقاد متوحش عندما أُسقط في يديه، وعلم أنّ القاتل لا يرث من قتل.
- 1 :3
كم حاول أن يقرن كلمة إلى أخرى، ولكنّه فشل في ذلك المرّة تلو الأخرى، في حين كانتْ هي عرّابة الكلمات التي تغزلها بإتقان ويسر على مغزلها السحري، كتب كثيراً، وكتبتْ أكثر، طار نجمها، وحطّ نجمه من غير علٍ، عرفها النّاس، وجهلته الحروف، أزبد وأرعد وزمجر، ولكن ما طاوعته الكلمات، كتبتْ عن حرمانها، فدبّتْ الحياة في كلماتها، وغدتْ أشباح علاقات محتملة مع رجال قد كانوا، قرأ ما كتبتْ، فوجد مبتغاه فيما قرأ، حاكمها بمنطق الخيال، لا بجرم الحقيقة، ذنّبها بألف حالة عشق، وألقى القبض عليها في حضن ألف رجل، ثم حاكمها على عجل، ونطق بحكمه المنتقم من سعادتها الوهمية، ومن تفوّقها عليه هو الأخ الرجل الرفيع القدر في أسرته وفي قبيلته، وهي الأخت المرأة الأقل شأناً.
تسلّل إلى غرفتها، وذبحها، فأطلقتْ ثغاءً مخيفاً هزّ المكان، وأيقظ رجالها أبطال قصصها ورواياتها، داسهم جميعاً، ومزّق كلّ ما كتبتْ انتقاماً من تفوّقها عليه، وسخْطاً على مَلَكَة الكتابة التي تملكها، في حين حُرم هو منها، وبالطبع غسل بذبح أخته النعجة ثوب شرفه المزعوم الذي لطّخته أخته الآثمة الخاطئة التي فرّطتْ بشرفها المصان.
- 1 :4
امرأة هي وَفق كلّ معايير الذكورة والمجتمع الأبوي، هادئة، مطيعة، لا تحتجّ، لا تبكي، لا تطلب، تجيد فنون الطبخ والحياكة، وتعد بأن تقدّم نفسها شهية له في كلّ ليلة بعد طبق الحلوى المفضّل عنده، وتوافق على الزواج به؛ لأنّها دجاجة أو عنزة بيتية مطيعة، وتذهب زوجةً مع الرجل الذي يريده والدها وأخوتها.
لكنّ الزوج رأى في عينيها أشباح فضيحة، وابتسامة هازئة تندّتْ من صمتها المخيف، ولمح في غضّ بصرها قرفاً من عجزه، وتلويحاً بكشف ستره، ومعرفة سبب فشله مع تلك الأجنبية الشقراء التي طلّقته سريعاً، وأخذتْ شطر ما يملك، وجلّ كرامته.
كان عليه أن يسكتها إلى الأبد، حاول أن يسكتها بالإشباع، فأعياه عجزه، حاول ذلك مراراً ولأيام كثيرة، لكن دون فائدة، غاضه صمتها، واستفزّ جسدها المثير رجولته الراكدة المتخاذلة، فانقضّ عليها في لحظة غضب، وقتلها، ومزّق عذريتها ورقبتها بسكينه؛ لأنّه قرّر أنّها قد وهبتْ نفسها لغيره، ولا أحد يستطيع أن يكذّبه، فهو الزوج الربّ، وإذا قال صدق، وما لأهلها إلا أن يأخذوا جسدها المكفّن بالعار، ويدفنوه بعيداً عن الزوج الفحل الشهم! فالذنب كلّه كان ذنبها، فهي من اختارتْ زوجاً عاجزاً للغاية.
- 1 :5
اعتاد على أن يروي عطشه عبر تلك اللحظات المشحونة بالمتعة المسروقة من فيلم إباحي أو مجلة تعرٍ، يستجمع كلّ فحولته المزعومة، ويهبها دفعة واحدة لامرأة متخيّلة، فتخمد رغبته المحمومة إلى حين، لكن جسده العاتي أراد أن يبتلع امرأة حقيقة في هذه اللحظة، لم يجد أمامه إلا ابنة أخيه التي ودّعتْ الطفولة للتو، وانتضتْ ثديين كسيفين، وملامح أنثوية قادمة، تفرّسها برغبة، وانقضّ عليها، فامتصّ أنوثتها حتى روي، ونسي جريمته، لكن الجنين الذي حملته سفاحاً صرخ في أحشاء أمّه الطفلة منبهاً لوجوده.
اجتمعتْ الأسرة، واهتزّتْ الشوارب الغاضبة، وأغلقتْ الأبواب والنوافذ والستائر! وحُجبت النساء، وكانتْ المحكمة؛ ولأنّها الأضعف، فقد كان الحكم ضدها، إذ ليس من العقل أن يضحّى بالرجل الجائر، وتترك المرأة الطفلة الضحية؟ فاقتادوها إلى العراء حيث قُتلتْ بدمٍ باردٍ جزاءً على فعلتها الشائنة، إذ هي دون شك من أغرتْ عمها البريء كحملٍ وديع بالاعتداء عليها، وقد أخذتْ جزاءها وفاقاً، وأراحتْ وارتاحتْ.
- 1 : 6
طالبتْ أمّها طويلاً بأن تُعالج ابنتها من داء السير ليلاً، لكنّ أحداً لم يعرها أُذن اهتمام، فلا أحد عنده وقت لأخت تسير ليلاً، لكن الجميع يملكون أيدي موت عندما يتعلّق الأمر بإعدام أختٍ وُجدتْ نائمة على الأرض بالقرب من غرفة جار أعزب يسكن سطح العمارة المجاورة بعد أن أعياها السير وهي نائمة.
حزموها بسرعةٍ وبقرفٍ، وألقوا بها من شفا جرف، فخرّت أرضاً ميتة، فغسلتْ بذلك شرفاً ادّعى الأخوة أنّه تلوث هدراً، وشفيتْ تماماً من داء السير ليلاً وهي نائمة.
- 1 :7
جلس إلى مقعده الفاخر على منصة مرتفعة بعد أن لبس وقاره وحزمه وعدله المزعوم، كان عليه أن ينطق بكلمته الحكم الفيصل في قضية أولئك السادة اللصوص الذين تاجروا بأعراض المستضعفات والمغلوبات على أمرهنّ من النساء لاسيما تلك الفتاة الغِرّ التي هتكوا عرضها عبر مؤامرة قذرة، كذلك كان عليه أن يقول كلمته العادلة في قضية ذلك الأخ الهمام الذي انتقم لهدر عرض أخته على يد سبعة رجال عتاة، تكاثروا عليها، فغلبوها على أمرها بأن قتلها، وتركهم يعيثون فساداً وعهراً في الأرض.
تنحنح القاضي بشكل مصطنع، واستجمع نفسه، وشدّ عباءة القضاء على صدره، إذ كان يشعر بالبرد، وحكم ببراءة الأخ الذي انتقم لشرفه، وقتل الأخت الضحية، وترك الذئاب تسعد بصيدها الثمين، وتضجع في الشمس ريّانة شبعانة إلى حين وقعتْ في يد القضاء، الذي بدا رحيماً معهم مقارنة بمحكمة الأخ المنتقم لشرفه المهدور على يد ذئاب سبعة من أخته ليلى ذات الرداء الأحمر، والبراءة الشفافة، والحكاية الدامية.
- 1 :8
في عروق كلّ منهما يجري دم أحمر قانٍ يحمل كبراً وغيرة ورفضاً للخيانة، فإن ضجّ في شرايينه سُمّي أخا شرفٍ، وإن ضج في سويداء قلبها سُمّيت قاتلة آثمة، وما كانتْ لتبالي بذلك، فقد ألفته في حضن صديقتها المقرّبة، يسافدها الغرام، فقتلتهما في لحظة غضب، وانتصرتْ لنفسها، وانتظرتْ أن ينتصر لها القضاء، إذ كانت تدافع عن شرفها كذلك، إلا أنّ القاضي الرجل لا يستطيع أن يرى الشرف إلا في قطعة لحم بين فخذي امرأة، وخلاف ذلك فهو جريمة، ولذلك فقد أرسلها سريعاً بتذكرة إعدام مستعجلة إلى العالم الآخر؛ لأنّها قاتلة آثمة.
الحكاية المأساة
تتشابه تفاصيل كلّ الحكايات المأساة، إذ تعلّقت بشرف زُعم أنّه هدر على يدي امرأة خاطئة، إذ تقول الحكاية دائماً (*): “… وهكذا خسرتْ شرفها… والشرف المهدور لا يعوّضه إلا الدم المسفوك… فتسلّل ذكرُ ما اسمه… في ليلة معتمة… وقتلها… فغسل بدمائها شرفه الملطخ بالعار. وسلّم نفسه للقضاء، الذي كان به رحيماً، ولموقفه متفهّماً، فحكم عليه بشهرٍ من العمل الشاق، وبغرامة مقدارها قرشٌ لا غير… فأرواح المخطئات لا تساوي الكثير..”.
(*) التفاصيل الصغيرة لا تساوي شيئاً إذا تشابهتْ النهايات.