حكايتنا مع المكتبات: الصبر الإستراتيجي
إغلاق المكتبات مناسبة حزينة. كلمات التأبين التي رافقت إغلاق مكتبة أنطوان في بيروت تشير إلى علاقتنا المستمرة بالكتاب. نحن محاطون بهرج ومرج الفضائيات والبث التدفقي والشبكات الاجتماعية ومواقع الإنترنت. لكن مكانة الكتاب تبقى متقدمة.
إغلاق المكتبات في عالمنا العربي يختلف عن إغلاقها في العالم الغربي. في عالمنا العربي، هو مؤشر إلى اضمحلال دور الكتاب في الشأن العام. التراجع الحياتي الذي يمسّ كل شيء اليوم هو تسجيل لهذا الاضمحلال. في عالم يقرأ ومتنور، ما كان الإسلام السياسي سيجد موطئ قدم. كلما تراجعت أهمية بيروت الثقافية بتراجع ما تصدره وتوزعه من كتب، كلما صعد نجم حزب الله. انقطعت الكتب عن عراق التسعينات، فتوحش الناس وصاروا يقتلون بعضهم بعضا مع أول انهيار أمني أعقب الغزو الأميركي مطلع الألفية. صمود دول مثل تونس والمغرب أمام الحث المستمر على التشدد هو صمود ثقافي، أساسه أن شعبي البلدين لا يزالان يقرآن. لا أعرف كم يقرأ الخليجي وكم ينعكس هذا على سلوكه الحياتي، لكن القيادات الخليجية المتنورة تقرأ، وتعكس هذا على سياسات هادئة وصادقة تتبناها لصالح شعوبها. إذا كان المواطن العادي لا يقرأ، أو لا يقرأ كثيرا، فإن الصفوة المجتمعية تعوضه بأن تكون قارئة ومتابعة.
المعادلة الاقتصادية لمكتبة مفتوحة الأبواب تغيرت في الغرب. قلّ عدد مكتبات بيع الكتب، لكن زاد عدد الكتب التي تباع، وزاد أكثر عدد الكتب التي تنشر. أرفف الكتب عامرة في مخازن أمازون، حتى وإن كانت هناك مكتبات تغلق في مراكز التسوق. مشروع أمازون الذي يعد أكبر مشروع تجاري في العالم الآن، انطلق من مشروع مكتبة واجهتها أونلاين. القيمة المعرفية للكتب في زيادة لأن الغرب يقوم على تعزيز المعارف. يوم حدثت القطيعة بين المجتمع والمسيحية السياسية، إذا جاز التعبير، فإنها حدثت بالتوازي مع عصور التنوير والنهضة والثورات الصناعية المتعاقبة.
الكتاب الورقي في الغرب منصة لنقل المعرفة التي يسطرها الكاتب بكلمات. الورق تكنولوجيا قد تصنف في خانة البدائية، لكنها تكنولوجيا عنيدة وقادرة على الصمود لقرون. عندما دخلت تقنيات جديدة، مثل الكتاب الإلكتروني، كمنصات لنقل المعرفة، سارع الغرب إلى التفنن في استغلال الفرصة. بدأنا بكيندل، وهو الكتاب الإلكتروني البسيط، ووصلنا إلى آيباد حيث أبدعت شركة أبل في تقديم منصة للكتب بتطبيقات ذكية تستطيع التأقلم مع المكان والبيئة، في الفراش أو في ركن البيت الهادئ، في مكان مضيء أو غرفة مظلمة. حلول تقنية مرنة حتى لمن شاخت عيناه وتراجعت قوة إبصاره. المعرفة هي الأساس، والمنصة ورق أو شاشة، لا يهم. الكتاب صامد، بل على بعد نقرة من إصبعك على شاشة آيباد لاستدعائه. اقرأه أو اسمعه. ضع نسخة منه في جيبك على هاتفك النقال إذا وجدت أن آيباد ثقيل.
هل يعني إغلاق المكتبات في عالمنا العربي أن القطيعة تأسست مع المعرفة؟ ها هي مكتبات الأونلاين موجودة منذ عقد وأكثر، لكن شراء الكتب عن طريقها لا يمكن أن يقارن مع النموذج الغربي. حجة أن العالم العربي يركض وراء عيشه والخبز وأن الكتب مكلفة وتتجاوز ميزانيته، حجة لا تستقيم. انظر كيف يركض الناس وراء تغيير هواتفهم كلما شاهدوا نسخة جديدة من آيفون وهواتف أندرويد من سامسونغ وهواوي. الذي يدفع مئات الدولارات على هاتف جديد، هل سيعجز عن دفع 10 دولارات مقابل شراء كتاب؟ وإذا كانت الكتب السائدة مما يكتبه مثقفنا العربي بقيمة معرفية متراجعة، فماذا عن الكتب المترجمة التي تقدمها لنا مشاريع الترجمة القادمة من الخليج ومصر وشمال أفريقيا؟
لست بصدد اقتراح نموذج تجاري جديد لنشر الكتب وبيعها. هذا من شأن الناشرين. لكن بمرور الوقت يبرز نموذج مؤقت جدير بالاعتبار. إنه نموذج معارض الكتاب. فالعواصم والمدن العربية الكبرى تتسابق اليوم على إقامة معارض الكتاب. إذا حدث وزرت معرض الكتاب في الشارقة أو في أبوظبي، فستقول إن النشر والكتاب بخير. معرض الكتاب في القاهرة ومعرض الكتاب في الدار البيضاء قد يكونا أبسط تنظيما وتحاكي آليات البيع فيهما فكرة البازار، لكنهما بالتأكيد مهرجانات ثقافية وملتقيات للباحثين عن المعرفة. معرض الكتاب في الرياض ما عاد معرضا للكتاب وحسب، بل موعد اجتماعي للسعوديين لتصفية حسابهم الفكري مع الانغلاق والتشدد.
أقول علينا أن نمارس الصبر الإستراتيجي، إذا جازت استعارة المصطلح العسكري. ما هي خياراتنا غير الصبر إلى حين يعود الوعي في عالمنا بما يكفي لأن يستعيد الكتاب مكانته. البدائل شهدناها من عمائم وقتل وتدمير. النجدة المعرفية قادمة ولو بعد حين.