حمّالة البشر

الجمعة 2020/11/06
لوحة: نور بهجت المصري

هذا الصباح قمت متفائلة، إذ رأيت في المنام أنني حبلى وأنني كنتُ سعيدة بذلك على غير عادتي، فأنا في الواقع ما أحببت الحمل قط ولا حلمت بالإنجاب ولا فكرت فيه مشروعا من مشاريع حياتي. بالعكس فقط حملت آلام الوضع كوابيس منذ صغري…

وفي المرّة الوحيدة التي أنجبت فيها ابني الوحيد لا أدري لحد الآن كيف تصبّرت به تسعة أشهر؟ على أنني أذكر أنه في الثلاثة أشهر الأخيرة اعتكفتُ واعتزلتُ الناس ولزمت بيتي، وكان أن صادف ذلك العطلة الصيفية أيّام كنت أدرس الفلسفة. الحقيقة التي لم أبح بها لأحد إلى الآن هي أنني كنت أخجل من شكلي، وقد كنت أعتبر جسدي مشوّها وأنني في حالة مرضية.

لقد بدأ منذ الأشهر الأولى جسمي يتغير، أصبح غريباً عني ويفقد شكله والتناسق وأخذت مناطق الخصوبة تفيض فيضاناً تلقائياً، فوضوياً وعشوائياً. وبدأ أمر جسدي يخرج عن إرادتي حتى بت أشعر أنّي مُقصاة ومنفية خارج جسدي.

في الأشهر الأخيرة صرت أتفادى الوقوف أمام المرآة وأتفادى صورة جسدي تردني إلى كهوف ومعابد الشرق القديم حيث كانت الأنثى ترسم على شكل دمى طينية مكوّرة عارية. وكرهت جسدي مُكوّراً لم يتخلص من بصمات فنان العصر الحجري.

وتلبّستني تلك الدمى الطينية المكوّرة. ما أكاد أغمض عينيّ حتى تتزاحم أمامي صور مشوّهة لأجساد مختزلة إلى بطون منتفخة، عليها رؤوس صغيرة غائبة الملامح دون وجوه وأجساد من الصلصال أو الطين على شكل جرار، أنفخ فيها فتتحول إلى جماجم، ومرّة أتحول إلى جرّة فخارية تردني إلى “عصر الفخار”. لقد بقيت مدّة تسعة أشهر أنتمي إلى “عصر الفخار” حيث جسد الأنثى يختزل في جرة.

وصرت أتشاءم بكل جرّة أراها ولم يعد جسدي في عيني سوى جرّة كبيرة تختمر فيها بذور الحياة لتندلق يوما من الرحم ولكن تختنق فيها أنفاسي أيضاً. بدأ عنق الجرة يضيق بقدر ما ينتفخ بطنها.

وكشمعة ترتجف برداً وسط كون مظلم كانت أنفاسي تضطرب. لقد احتوى جسدي المباهج والمهالك كلها في آن واحد، يتنازع الموت والحياة على وليمة فجيعته. عهد جهنمي يستيقظ في ذاكرتي وعادات قديمة تنهض من غابر الأزمنة وتداهمني.

لا أرى إلاّ المقابر وقد نشطت فيها من جديد تقاليد دفن الموتى أو دفن رمادهم في الجرار. أدركت من خلال كوابيسي ما أدركه مبكراً إنسان ما قبل التاريخ، العلاقة بين الجرة والتابوت، وعرفت لماذا كان العبرانيون يحتفظون “بالجرة المقدسة” داخل تابوت العهد القديم مع ألواح الوصايا التي تلقاها النبي موسى من اليهود أثناء تيههم في الصحراء. وعرفت لماذا كان إنسان العصر البدائي يستعمل الجرار الفخارية، كتوابيت للموتى، ولماذا كانت تتخذ الهياكل العظمية داخلها شكل الجنين في بطن أمه؟

وأهلع إذا مرّ وقت لم يتحرك خلاله ما ببطني. ويحوّلني رعبي إلى جسد متخشب له شكل تابوت قديم، وإذا تحرك ما ببطني يتهيأ لي أن الهيكل العظمي سيُبعث واقفاً ويطالبني بتخليصه من هذا القبر، تختلط مناطق الرعب بمناطق الخصوبة حتى لم أعد أميز بين جنيني وجنين التابوت.

وعندما اقترب موعد الوضع رأيت نفسي ألد على سرير من الجماجم والعالم قفر ولا أحد إلى جانبي، وحدي والموت يواجهني. ولم أكن أرتكز بيديّ على رؤوس حيوانات أو نبات كما كانت تفعل عشتار. لم أكن أبسط سيطرتي على أيّ شيء، مسلوبة الإرادة، يتحول السرير إلى قبر وأنا ممدّدة بداخله وقد طالت حالة الوضع. وطالت الإقامة في القبر حتى اندلق وليد من بين رجليّ يضرب بقدميه اللحد ويصرخ صرخة ينفتح لها القبر.

ولا أدري إن كان قد خرج وتركني وحدي، أم أنه تذكرني بعدما كان قد انغلق عليّ القبر.

عندما صحوت في الصباح فكرت جديّا في الإجهاض. يومها قضيت يوماً مريحاً واستطعت أن أنعم بأشعة الشمس.

في الليل رأيت “ربّة الينبوع” تغسلني بماء تدفق من فوهة الجرّة الفخارية التي تحملها بيدها. يميل عنقها قليلاً إلى الإمام (تماماً كما رأيتها في متحف مدينة حلب)، تمطرني ماء صافياً عذباً. تُعيد إليّ طمأنينتي وتُذهب عنّي كوابيس التوابيت والجرار – الأرحام. تعيدني إلى الطبيعة البكر حيث لم يحمل الإنسان البدائي فكرة الموت كوابيس وأهوالاً ولم تسكنه فكرة العدم والفناء بل تقبّلها بصدر رحب إذ كان يعتقد أنها عتبة وجسر عبور إلى عالم آخر. أما أنا فلا عالم آخر لي غير هذا العالم.

كانت “ربة الينبوع” تغسلني بعذب المياه وتقص عليّ أساطير الأولين:

في البدء كانت عشتار ولا أحد معها

أمومة تنضوي على المبادئ الأولى

ثم تبدت فخلقت وأعطت

الأم الكبرى التي يهب جسدها طفولة الإنسان دفئا وأمنا وسكناً

تطلق الحياة من رحمها وعلى جسدها وفي أحضانها

عشتار أمومة كاملة في كل حيّ وجامد، جسدها الأنثوي وعاء سحري يتحول الدّم بداخله إلى حليب يتفجر من فوهة الثدي، ورحمها جرّة مقدسة تحتوي نِعَم الحياة وأسبابها لتطلقها نحو الخارج.

سرّتها مركز الكون ومعبدها قبلة إنسان العصر القديم.

وقد كانت عذراوات النار المقدسة يحملن إليها الجرار الفخارية قرباناً في هياكلها. سيدة الشعلة الأولى.

بينما كانت عشتار “الأم الكبرى” تقصّ عليّ قصتها، رأيت الينبوع نضب فجأة وسقطت إثره عشتار خرقة إلى العالم السفلي، ورأيت حاجب بوّابة العالم السفلي

يخلع عن رأسها الشوجار تاج السهول

ويقتلع من كفها الصولجان اللازوردي

ويسلبها كل زينتها وثيابها

حتى مثلت عارية تماماً من كل سطوة أو سلطان

نظرتُ إلى نفسي فوجدتُ الجرة قد انتقلت خاوية إلى يدي

لم تكمل لي عشتار القصة لكنني عرفتُ فيما بعد أن الراعي اغتصبها عندما غلبها الكرى فغفت تحت إحدى الأشجار الباسقة في حديقة البستاني “شوكاليتودا” بعد أن أنهكها التعب من كثرة الحمل والوضع، فاستسلمت لسلطان الكرى في بستان جميل لأحد البشر ويبدو أنها كشفت عن مفاتنها الأنثوية فوقعت عينا الراعي على مفاتن جسدها فاغتصبها وهي نائمة.

رميتُ الجرة من يدي حتى انكسرت وصرخت في نومي وفي يقظتي.

لم أكن إلهة، لست سوى جرة

ولم أحمل الصولجان قط، فأنا لست سوى حمّالة للبشر.

ومثلما ذهبت عشتار تبحث عن وظائف أخرى بعدما وقع لها ما وقع، عندما لم تشفع لها ألوهيتها من أن يغتصبها الراعي، ذهبتُ أنا أيضاً أبحث عن وظائف أخرى تثبت وجودي وتضمن خلودي، في الحرف مثلاً أم في الجرّة؟ من يدري؟ قد تنضب يوماً ثم إن شكلها بصراحة لا يعجبني، إنها تشوه الجسم وتفسد التناسق.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.