حياتي بعد الأربعين
دم الأزهار
منذ ثلاثة أيّام لم أجدْ رأسي.
تحديدا، منذ مرّت أمام بيتنا ابنة جارنا الجديد. التاجر الطرابلسي، الذي فرّ من الحرب هناك، ولجأ إلى مدينتنا الساحلية التي يدمّرها السلم منذ نصف قرن.
في اليوم الأول، بحثت عن رأسي في خزانة أمّي. لكن لم أجده.
في اليوم الثاني، بحثت عنه في المرأب الصغير الذي ينام فيه كلبنا الأسود جنب أثاث حياتنا القديم. لكن لم أجده.
في اليوم الثالث، كان لا بدّ أن أغادر البيت، وضعت بين كتفيّ محبسا محطّما، وخرجت.
صرت أطيل الوقوف طويلا أمام بائعي الأزهار، وأحبّ السيدة التي تصبّ عليّ الماء حين أعبر تحت شرفتها كلّ صباح.
أمّا حكاية الفتاة الطرابلسيّة، فإنّها أصبحت تدار بنتف بتلاتي المتساقطة: تحبّني.. لا تحبّني.. تحبني.. لا تحبّني… إلى آخر قطرة من دم الأزهار.
إصلاح الأخطاء الشائعة
– ابحث عن الفوارق العشرة بين القيثارة والبندقية.
– لا أرى فوارق أبدا
فالأوتار التي تحتاجها البندقية،
تعوّضها الحبال الصوتية للمقتولين برصاصها وهم يصرخون.
والرصاصات التي تحتاجها القيثارة،
تعوّضها كعاب أحذية راقصات الفلامنكو على إيقاعها.
– ابحث عن الفوارق العشرة بين الوردة والدمعة.
– لا أرى فوارق أبدا
فالعطر الذي تحتاجه الدمعة،
تعوّضه نوستالجيا الأيام الماضية.
والملح الذي تحتاجه الوردة،
تعوّضه دموع العاشق.
– ابحث عن الفوارق العشرة بين المهد واللّحد.
– لا أرى فوارق أبدا
فما يفسده الوجود في سكّان المهد،
يُصلحه العدمُ في سكّان اللّحد.
لعبة الأربعين
لأباشرَ حياتي بعد الأربعين دون عقدة السنوات:
قلت لا بدَّ من أن الزهايمر مصطنع،
يحتاج الأمر إلى بعض التّمارين على متاهات تليق بمخيّلتي.
قلت:
سأدخل غابةً،
منتحلاً شخصيّةَ ذئبٍ.
لكن طاردني تاريخُ الأنبياء التائهين وقصص الأطفال ولعنات الكهنة..
فركضت بعيدا،
حتى خرجت من عوائي،
واختبأتُ في ثغاء بعيد.
قلتُ، سأدخل بحْرًا
منتحلًا شخصيّة موجة،
فأخذني المدُّ
إلى شاطئ لا جزر فيه،
وانتهيتُ مجرّد ذكرى مسجونة
في صَدفةٍ.
قلتُ، سأدخل صحراء،
منتحلا شخصيّة سراب،
لكن لم يلوّح لي أحد،
من الشعوب التي تمتهن التيه،
ولم يقل ظمآن وهو يشير إليّ:
– هذا النهر.
فانتهيت مجرّد هواء حارّ
تمضغه عاصفة رمليّة.
أخيرا، وجدت نفسي أمام سنواتي الأربعين بكامل ذاكرتي وخيباتي.
فوقفت أمام مدخل حياتي
ورحت أحصي سنواتي،
وهي تدخل سنةً سنةً.. كما يدخل اللصوصُ إلى مغارة الكنوز، في قصّة “علي بابا واللصوص”.
لا تخرجي من قلبي
منذُ متى وأنتِ تسكنين قلبي؟
أعرف أنّك لا تذكرين ذلك،
فقط هي طريقة لتنشيط ذاكرتي لا غير.
أتذكّر ذلك اليومَ جيّدا،
كما تتذكّر الأرض صلب المسيح.
كان يوما ممطرا مثل حانة في ريف ساحليّ،
وكنت ترتدين معطفا أخضر مثل حديقة.
تبادلنا النّظراتِ ورقميْ هاتفيْنا.
قلتِ: سأجمع أثوابي المعلّقة على حبال عُشّاقي، وأعود إليك.
كان الأمر يمثّل لك فرصة لا تُفوَّتُ: قلب واسعٌ يطلّ على الجبال البعيدة، وفي حديقته الخلفية أزهار مكتوب على بتلاتها “أحبّك”، وببّغاوات تحفظ اسمك.
بعد ذلك، جلبت عائلتك، أمّك الأرملة وأختيك الصغيرتين، ومعهم برواز كبير فيه صورة لأبيك الذي هاجر إلى سوريا، اشتغل حلاّقا عند داعش، ومات هناك. في الصورة يبدو حليقًا ومهذّبا.. لا يهمّنا أمره. المهمّ صورته دخلت قلبي، وسيرته سقطت في الغبار.
كنتِ كلّ مساء، تطلّين من شرفة قلبي الفقيرة، وتتبادلين النظراتِ والأرقامَ الهاتفيّةَ مع الرّجال العابرين. قرّرتِ أخيرا الارتباط بأحدهم. كان صديقي. اسمه سعيد وسيرته تعيسة، كان كهلا بدينا، يدرّس الفيزياء في المعهد الذي تدْرسين فيه أنت. جاء رفقة والديه البدينين، معه باقة أزهار وكلام مرتّب.
كنت أحسّ بوقع خطواتهم الخشنة على قلبي.
شربتم جميعا وضحكتم.
قالت أمّك: يد ابنتي تستحقّ ذهبا أثمن ممّا دفعتم.
قالت أمّه: عين ابني تستحقّ جمالا أكثر ممّا عرضتم.
تمّ أخيرا، تعديل الطلبات على مقياس المشاعر.
بعد ذلك اليوم، عاد هو مرّة أو أكثر، لم أعد أتذكّر، فقلبي بدأ يتداعى، وتتساقط منه أحجارٌ كثيرة على الرصيف.
رغم ذلك، لم أنقطع عن مراقبتك، وأنت تطلّين من شرفة قلبي على الشّباب النّحيفين، تتبادلين معهم النظرات والأرقام الهاتفية. كنت تخونين خطيبك البدين داخل قلبي، وكنت أنا أحاول أن أتوازن، فقط كي لا يتكسّر أثاث حياتك المرتّب بعناية في قلبي، ولا تجدين أنت حجّةً للخروج من هذا القلب، الذي بدأ يقطر من سقفه المتشقّق الكلامُ، ويتسلّل من نوافذه المهشّمة الصّمْتُ.