خطاب المظلومية وتسويغ الكراهية
تنامى في السنوات الأخيرة الاهتمام بخطاب الكراهية وتأثيراته الكارثية على المجتمعات العربية وتماسكها من قبل العديد من مراكز الأبحاث والدراسات والنشاطات غير الحكومية أو شبه الحكومية العاملة في العالم العربي والعربية الموجودة خارج العالم العربي على حد سواء. لا شكَّ بأن مثل هكذا انتباه لخطورة هذا الخطاب أمرٌ هامٌ جداً وضروري، خاصةً وأنَّ خطابات الكراهية باتت اليوم تنتشر بسهولة واتساع وقدرات تأثيرية معَولَمَة بسبب شبكات التواصل الاجتماعي والعصر الافتراضي الذي نعيش فيه. في قلب احتراق الأركان المُشكِّلَة لبنى العالم العربي السوسيولوجية والأنثربولوجية والثقافية والحياتية والسياسية على حد سواء، تتحول خطابات الكراهية إلى أحد أهم مصادر الوقود التي تغذّي تلك الحرائق وتعمل على توسيع آفاق انتشارها واتساعها. ولهذا فإنَّ العمل على تفكيك وتشريح مصادر خطابات الكراهية ومكِّوناته ومآلات إرهاصاتها القصوى لهي الأمور المطلوبة للنجاح في وأدِ نيران تلك الخطابات وفي إزالة تأثيراتها أو التقليل منها للحد الأدنى.
إلا أنَّ هناك، برأيي، خطابا آخر موجودا وبدأ أيضاً ينتشر في أوساط العالم العربي، وهو ذو تأثيرٍ لا يقل سلبية وخطورة، بقناعتي، عن تأثير خطاب الكراهية. أعني هنا خطاب المظلومية. لطالما كان هناك اعتقاد في الأوساط البحثية والثقافية والمعنية بالشأن العام في العالم العربي وفي العالم عموماً بأنَّ خطاب المظلومية هو أداة الضعفاء وضحايا الكراهية التي تثيرها خطابات الكراهية ضد جماعاتٍ أو أفراد بعينهم. ولطالما نظر السياق العام إلى حملة خطاب المظلومية وإلى سردهم عن أنماط الظلم العديدة التي تعرضوا أو يتعرضون لها نظرة تعاطف ودعم وشعور بالذنب تجاه من يقول بالمظلومية ورغبة بالانتصار له أو لها ومن ثم محاسبة من سبَّبَ لهم الظلم بكافة الأشكال ونَبذِ هذا الظالم أو هذه الظالمة مجتمعياً وفكرياً وقانونياً وتاريخياً ودولياً إن أمكن. هذا هو المخيال العام المتعلق بخطاب المظلومية. وفي الوقت الذي نضع فيه خطاب الكراهية على طرف الإدانة والشر والرفض والكبت والإزالة، فإنَّ الأوساط العامة تضع خطاب المظلومية على الطرف النقيض وتعتبره أحد الدعوات المشروعة والنبيلة التي تستحق الدعم والتعاطف والعدالة وإعلاء الشأن والتثبيت.
عندي قراءة مختلفة قليلاً ومُقارَبَةٌ ذاتُ بُعدٍ مختلف لخطاب المظلومية. إنني أعتقد أن خطاب المظلومية لا يقف على طرف نقيضٍ معاكس تماماً ومُضادِّ ديالكتيكياً لخطاب الكراهية. خلافاً لذلك، إنني أقترح أنَّ خطاب المظلومية يمكن في الحقيقة أن يكون مشابهاً في بعض الحالات والسياقات وأسباب صدوره لخطاب الكراهية، بحيثُ أنَّ الفرق الموضوعي والبنيوي بينهما لا يعود كبيراً في الواقع بل يقتصر على فروقات منهجية أو نفاذاتٍ تتعلق بالمقاربات وبالمركَّبات الهرمنيوتيكية لكل خطاب وللدور الذي يلعبه. وهي في المدى الأقصى فروقات في الأسلوب والدرجة وليس بالضرورة فروقات في الجوهر والمضمون والنتائج.
من حيث الكينونة المفاهيمية والموضوعية، يرتبط كلا الخطابين بمسألة الكراهية: خطاب الكراهية يقارب موضوع “الكراهية” مقاربة مباشرة بأن يوظِّف كل تعبيراته وافتراضاته وتفاسيره ومكوناته المعرفية في خدمة تسليط الضوء على مشاعر ومواقف وتقييمات وأحكام تدور كلها بشكلٍ لا مواربةَ فيهِ حولَ فكرَةِ شَيطَنة الآخر وإدانَته والمُغايَرة القيَميَّة معه والعُنفيَّة تِجَاهِه. أما خطابُ المَظلوميَّة فيُـقارب موضوع الكراهية مقاربَة غير مباشرة بل مُضمَرَة وتلميحيَّة من خلال الحديث عن حالات وجودية مُعينَّة وتقديم تفسيرات تحليلية عن شعوريات وسلوكيات الذات أو النفس تقود من يقرأها، أو يسمعها، في المحصلة إلى اتخاذ موقفٍ أو تطويرٍ شعورٍ أو إبداء استعدادٍ لشيطنة آخرٍ ما وإدانته وتحقيره ومغايرته عنفياً.
فإذًا، في الوقت الذي يتعامل فيه الخطاب الأول مع الكراهية بشكل مباشر يدور حول فكرة “الآخر” وينطلق بلا مواربة من تقديم هذا الآخر بشكلٍ سلبي وعنفي وظلامي، فإنَّ الخطاب الثاني لا يقارب الكراهية مباشرةً، وإنما يوحي بها ويستنفز التفكير حولها بشكلٍ تلميحي يدور حول فكرة “الأنا” ويعمل بشكلٍ غير مباشر على قيادة من يقرأ الخطاب المذكور أو يسمعه كي يستنتج لوحده أن الطرف الذي يجعل صاحب “الأنا” موضوع الخطاب تشعر بالمظلومية لهو طرفُ شريرٌ وقبيحً يستحق الإدانة والتحقير والشيطنة ومن ثم الكراهية. في الخطاب الأول، إذاً، فكرة الكراهية هي نقطة الانطلاق والافتراض القاعدي والموضوع المطروق مباشرةً. أما في الخطاب الثاني، ففكرة الكراهية هي الخلاصة والنتيجة المنطقية والاستنتاج الذي ينتهي إلى اقتراحه ضمنياً وتلميحاً من ينطلق من فكرة “الظلم”، جاعلاً من تلك الخلاصة استنتاجاً يودي إليه أيُ تفاعلٍ منطقي مع مضمون السرد المتعلق بالمظلومية.
من هذا الباب، لا أرى في الحقيقة اختلافاً يُسوِّغُ وضع خطاب الكراهية، من جهة، وخطاب المظلومية، من جهة أخرى، على طرفي نقيض. بل إنني، خلافاً لهذا، أعتقد أن خطاب المظلومية يقوم بتسويغ الكراهية وتمهيد الطريق الافتراضي والمنطقي للوصول إليها، في الوقت الذي يقوم فيه خطاب الكراهية فقط بِطَرقِ المسألة بلا مواربة ولا تلميح، بل بكل مباشرةٍ وبشكلٍ مركَّزٍ يأخذ فيه السرد المذكور عن كاهل القارئ أو الملقي عناءَ محاولة الوصول إلى خلاصة الكراهية بجهدها العقلي والتفسيري الفردي ويقدم لها تلك الخلاصة جاهزةً ومُسبقَة الصُنع.
يمكن للباحث، برأيي، أن يجد نماذج خطابات مظلومية في سياقات العالم العربي تقدم لنا أمثلة عن توظيف فكرة المظلومية في خدمة تطوير وعيٍ ومخيالٍ عن آخرِ معيَّنٍ يدفع الرأي العام لشيطنة وكراهية هذا الآخر. يستطيع الباحث أن يتوقف ملياً عند خطابات مظلومية الأقليات الذي انتشر في المشهد السوري خلال سنوات الحرب والصراع ضد النظام الاستبدادي هناك؛ ذاك الخطاب الذي قام النظام والأطراف الداعمة والمؤيدة والراعية له بتسويقه في دوائر خلق الأفكار وحلقات صناعة القرار في المنطقة والعالم على حد سواء. خطاب المظلومية هذا أطلق عالياً صرخة الظلم والتهديد والخطر الوجودي المُحدِق الذي تتعرض له (وسيتعرض له) الأقليات الدينية والطائفية في سوريا من قبل الثوار والمعارضين والمقاتلين “السُنَّة”. تحدثت أصوات خطاب المظلومية المزعوم عن الفظائع والكوارث والعنف والبربرية والكراهيات التي يتعرض لها المسيحيون والعلويون في سوريا والتي ستقضي على وجودهم في سوريا إذا ما نجحت الثورة والمعارضات السورية – والتي تم اختزالها إلى “جماعات سنيِّة” أو “كتائب إسلامية” فقط لاغير – في إسقاط النظام – الذي تمت تسميته كذباً وبهتاناً في هذا الخطاب بـ “حامي الأقليات” و”نصير المظلومين والمهمشين” في المشهد العام والسياسي السوري – وعملت على الإمساك بزمام السلطة بدلاً عنه. تمَّ تقديم الثورة في سوريا على أنها “حرب أهلية” يقوم بها جماعة السنَّة والمسلمون ضد جماعات “غير السنة” من علويين ومسيحيين. انقلب المشهد في السياق السوري من حالة “ثورة” شعبية وانتفاض معارضات تنضوي تحتها أطياف وأطراف من كافة الخلفيات الدينية والطائفية والثقافية والسياسية إلى حالة “حرب أهلية” وقودها كراهية مستطيرة وحقد تاريخي من طرف مُحدَّد تمت شيطنته وتصويره على أنه متعطش للإيغال في دماء كل من لا يشبهه ولا ينتمي لمعتقداته وجماعته (الطرف الإسلامي السني).
ما لدينا هنا هو نموذج خطابِ مظلومية حمله الكثير من مؤيدي النظام المستبد في سوريا وسوَّقوه في الأوساط المحلية والإقليمية والدولية. ومع أنَّ هذا الخطاب يركِّزُ بشكلٍ مباشرٍ وأساسي على الإسهاب حول حالة تلك الأقليات ومعاناتها ومآسيها في المشهد السوري دون أن يقوم بمهاجمةٍ مباشرةٍ لهذا الآخر المزعوم الذي يُعرِّض تلك الأقليات للخطر والموت، إلا أنَّ المبالغة في التشديد على مأساة الأقليات المزعومة وتقديم مخيالٍ غير واقعي ولا حقيقي عمّا يقترفه الطرف الآخر المضاد في حق تلك الأقليات أنتجَ بشكلٍ غير مباشر، لكنه غير مُضمَر ولا مُبهَم، صورةً سلبية وتضادية مغايرة بشكلٍ متطرفٍ لهذا الآخر الأكثري المسلم السني وعملت على شيطنته ودفع الرأي العام إلى إدانته واتهامه ومعاداته وبالتالي إلى كراهيته.
ولنا أيضاً نموذج مماثل ومواز لهذه الشيطنَة التي تخلق كراهية لطرفٍ ما من خلال خلق خطابٍ عن المظلومية تمت صناعته في معسكر المعارضة السورية أيضاً. ففي ظهراني معسكر المعارضة أيضاً، انتشر خطاب مظلومية مضاد ديالكتيكياً مع الخطاب الذي أطلقه طرف الموالاة: إذا كان خطاب المظلومية الذي أطلقه الموالون يدور حول مظلومية تتعرض لها الأقليات من قبل الأكثرية؛ فإنَّ خطاب المظلومية الذي أطلقه المعارضون دار حول مظلومية تعرضت لها الأكثرية السنية المسلمة عبر التاريخ الماضي في سوريا من قبل الأقلية العلوية وشدَّدَ على أنَّ الثورة السورية ما هي إلا انتفاض لتلك الأكثرية ضد مظلوميتها التاريخية ومن أجل التحرر منها وإعادة الحقوق إلى أصحابها.
دار خطاب المظلومية المُعارض حول فكرة تفسير الثورة السورية وتبرير اندلاعها على قاعدة الظلم المفرط الذي تعرض له السُّنَة المسلمون في عهد سوريا الأسد الأب والابن وكيف أن نظامي هذين المستبدين عملا بشكل متساوٍ على حرمان الأكثرية السنية من حقوقها، بل وعلى اضطهادها وقمعها وملاحقتها وقتلها، مقدمين بالمقابل كل المكاسب والمنافع والحقوق للعلويين والمسيحيين في البلد. وكما اختزل النظام في خطاب مظلوميته المعارضة والثورة بجماعة طائفية واحدة محددة وتسبب خطابه في شيطنتها ونشر الكراهية ضدها في ظهراني السوريين الناجين داخل البلد، فإنَّ الأطراف المعارضَة الإسلامية والمتطرِّفَة قامت باختزال من لم يقف مع الثورة ومن لم يتخلّ عن النظام إلى جماعتين فقط، العلويين والمسيحيين، رافضةً أن تعترف بأنَّ هناك مسلمين سُنَّة وقفوا ومازالوا مع النظام وأن هناك العديد جداً من المسيحيين والعلويين وقفوا مع الثورة وعارضوا النظام بلا هوادة. وكما قاد خطاب مظلومية الأقليات المزعوم في معسكر النظام إلى كراهية وشيطنَة ومناهضة الأكثرية السنية المزعومة، فإنَّ خطاب مظلومية الأكثرية المزعوم في معسكر المعارضات، خاصة الإسلامية، أنتجَ كراهية وشيطَنَ وناهض المواطنين السوريين من غير المسلمين السُنَّة بأن جعلهم جميعاً، شاؤوا أم أبوا واختاروا ذلك أم لا، “موالين” للنظام. لدينا هنا، إذاً، نموذج خطاب مظلومية يقدم سرداً وتصويراً غير واقعي ولا حقيقي ديالكتيكي وتضادي يؤدي منطقياً إلى زرعِ بذورِ كراهيةٍ ضد آخر مُصطنَع ومُركَّب.
ولنا أيضاً في لبنان نموذج خطاب مظلومية يُنتجُ كراهية ويعمل على تسويقها شعبوياً أيضاً. منذ عودتهم إلى الساحة اللبنانية في أعقاب اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري ومن ثم انخراطهم في العمل العام والصراع على السلطة وصولاً إلى اليوم، طوَّرَ التيار العوني، أو “التيار الوطني الحر”، خطاب مظلومية صارِم ومتشعِّب يدور حول مظلومية مسيحية طائفية مزعومة تعرض لها مسيحيو لبنان، إن لم يكن موارنتها بالتحديد، وقادت إلى حرمانهم من حقوقهم في ممارسة السلطة والمشاركة في قيادة ومقدِّرات وصناعة مصير البلد. لطالما ردَّدَ مسيحيو التيار العوني خطاب مظلومية مستطير على كافة المنابر اللبنانية والعربية والإقليمية والعالمية، قوامُ هذا الخطاب أنَّ المسيحيين، لا في لبنان فقط بل وفي المشرق برمته، يتعرضون لاضطهادٍ ممنهج دولتياً وسياسياً وطائفياً من قبل المسلمين السُنَّة حصراً وتحديداً. وأنَّ السُنَّة في لبنان أولاً والعالم العربي ثانياً متطرفون وراديكاليون ويكرهون الآخرين وما هم سوى “داعشيين ومتأسلمين يرتدون ربطات عنق وبزات مدنية” (كما درج صهر رئيس التيار، جبران باسيل، وأفراد التيار المذكور على الترداد في كل مكان).
حين تطّلع على خطاب المظلومية المذكور، لا تجده يدور حول الجماعة المسلمة السنيَّة بحد ذاتها ولا على تفكيكها أو مهاجمتها بشكلٍ مباشرٍ أو صريحٍ أو مُركَّز. إلا أنَّ الخطاب يُسهبُ في الحديث عن المظالم والغبن التي يتعرض لها المسيحيون ومن ثم يطنبُ الخطاب المذكور في حمدِ طرفٍ مسلمٍ معيَّنٍ، هو الجماعة الشيعية وخاصة ميليشيا مسلَّحة فيها هي “حزب الله”، مؤكداً أنَّ هذا الأخير هو حامي المسيحيين ونصيرهم ضد الخطر المُحدِق بهم في قلب المجتمع السني اللبناني والمسلم السني في محيط جوارهم العربي الأوسع. يتحدث الخطاب عن مظلومية الأقليات المسيحية والشيعية في مواجهة مع “كراهية” الأكثرية السنية، فيُشيطِن كل ما هو غير مسيحي (وأحياناً غير ماروني وغير مسيحي – عوني) وغير شيعي (وخاصة غير حزب الله) ويرسم عنه مخيالاً سلبياً وعدائياً وظلاميا غير واقعي ولا حقيقيا، دافعاً، بالنتيجة، كل من يتعاطف مع هذا الخطاب المذكور إلى إدانة “العدو السني” ومناهضته بل وربما إلى كراهيته أيضاً. هنا أيضاً، إذا، لدينا خطاب مظلومية مُعيَّن يرسم صورة معاناةٍ وحرمانٍ وظلمٍ من خلال مغايرة الذات راديكالياً وصدامياً عن آخرٍ مُصطنَع ومُركَّب والتضاد مع هذا الآخر لدرجة تجعل من يتفاعل مع مظلومية الطرف المتحدث بهذا الخطاب ينتهي بكراهية وشيطَنَة الآخر الذي يوحي خطاب المظلومية بأنَّه يقف على طرف نقيضٍ وتضادٍ مع الطرف الذي يعاني من الظلم.
يمكن للباحث أن يجد في مناطق أخرى من العالم العربي ومنطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نماذج أخرى عن خطابات مظلومية راديكالية قوامها تركيبُ مخيالٍ يتأسَّسُ على تضادٍ ديالكتيكي ومغايرة حادة تعاكسية تقود بالنتيجة إلى إنتاج حالة كراهية أو إلى تمهيد السبيل للوصول إلى حالة الكراهية تلك. لا بل وأزعم أنَّ الغرب أيضاً يُمظهِرُ في سياقاته المجتمعية والثقافية حالات خطابات مظلومية تُنتجُ في منطقها ومحتواها وافتراضاتها المفاهيمية ولغة خطابها الهرمنيوتيكي مشاعر ومواقف كراهية في الفكر والوعي العام كراهية تجاه آخر مُتخيَّل ومُركَّب غير واقعي ولا حقيقيا أحياناً. هناك بعض خطابات المظلومية المتعلقة بمناهضة اللا-سامية وكذلك مناهضة الإسلاموفوبيا والتي تتأسس في بنيانها المعرفي وافتراضاتها وتعابيرها المفاهيمية على لعبة لغة تغايرية ديالكتيكية وتضادية تُفرطُ في التشديد على مظلومية “الأنا” وعلى براءتها ومعاناتها لدرجة تؤدي إلى خلق “آخر” مُضادٍ ومعاكسٍ كلياً يمثِّلُ كل ما هو عكس تلك الأنا “المظلومة” ويصبح مصدر ظلمها الأول: كل ما هو عكس طرف الخير، يصبح شراً مستطيراً مطلقاً. وكلما تمت أسطَرَة المظلومية، أدى ذلك إلى خلق كراهية أسطورية معادلة وموازية؛ بحيث أن وجود كل من الطرفين يصبح مشروطاً بمصدرية الآخر: لا ينتج الظلم عن الكراهية فقط، بل إنَّ الكراهية بدورها تصبح أحد منتجات الظلم.
هل ما أسوقه في الأعلى يعني أنَّه لا يوجد في الحقيقة خطاب مظلومية فعلي وحقيقي وموثوق، وأنَّ كل سردٍ عن المظلومية ما هو إلا تعبيرً تلميحي عن كراهية مُضمَرَة أو خطاب كراهيةٍ يختبئ خلف قناعِ ظلمٍ ومعاناة؟ كلا على الإطلاق.
هناك حتماً حالات ظلمٍ حقيقية وواقعية ويجب الحديث عنها وتطوير خطابٍ لتسليط الضوء عليها. هناك ظلمٌ مستطير في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو ظلمٌ متعدد الأوجه والمصادر والتمظهرات الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية والأنثربولوجية والجندرية وسواها. إنكار هذا الظلم والتكتم عنه أو تجاهله أمر لا أخلاقي ولا علمي ولا إنساني. ولا يجب أن يتم استخدام حالة الكراهية الناتجة عن تعرية الظلم، التي أعرضها وأحللها هنا، كدعوةٍ لتبرير التعامي عن أو تجاهل المظلوميات الحقيقية والواقعية في سياقات مجتمعاتنا. إن هذه المقالة لا تتحدث عن “الظلم” بحد ذاته، ولا حتى عن “الكراهية” بحد ذاتها. إنه مقال يقارب مسألتي “خطاب المظلومية” و “خطاب الكراهية” بالتحديد. كما أنه لا يقارب جميع مقالات المظلومية وجميع خطابات الكراهية دون استثناء. إنه مقال يقارب بالتخصيص نماذج معيَّنة من خطابات المظلومية: تلك النماذج التي تُركِّبُ وتبتكر حالة ظلمٍ وصورةً مظلومية انطلاقاً من افتراضات مؤدلجَة ومُبرمَجَة وفي خدمة منطق تصنيفي دوغمائي تضادّي. تلك النماذج التي لا تقارب الظلم في الواقع وفي الحضور الحقيقي للوجود، بل تخلق مخيالاً أو تبتكر سيناريو مظلومية مُعيَّن لا يدور في الواقع حول حالة موضوع خطاب المظلومية بقدر تركيزه، وإن بلغةٍ مُوارِبَة وتلميحيَّة، على الإيحاء بوجود فاعلٍ مضادٍ ذي مواصفات معيَّنة، وبقدر رغبة هذا السيناريو بجعل من يتعرض لخطاب المظلومية المذكور يكوِّن في مخيالِه، وتخلقُ في لاوعيها، تصوَّراً مُفترضاً عن آخر بعينه لا يمُثِّلُ سوى شرّ وظلمةً ولا يستحق سوى الإدانة والكره. ما يحذّر المقال منه هو هذا النوع من الخطابات والسرديات؛ ما يحذِّر منه هو “صناعة الظلم” التي تقود جدلياً ومنطقياً إلى “صناعة الكراهية”.
إنَّ واحدة من أهم الأدوات التي يستخدمها مُروَّجو خطاب المظلومية في المشرق العربي هو فكرة “الأقليَّة”، إذ يتحدث الخطاب المُصطَنَع المذكور عن تعرَّض جماعات بعينها، تمثل أقليات دينية أو طائفية أو عرقية أو ثقافية، لاضطهادٍ وقمعٍ وظلمٍ وتهميشٍ وأذيَّةٍ من قِبَلِ “أكثرية” مزعومة ومُفتَرَضَة قبليَّاً على قاعدة أن الأولى هي أقليات عددية ضعيفة وعاجزة وأنَّ الثانية هي أكثرية عددية موصوفة ومُهيمِنَة. إنَّ ما يدل على أسطورية ووهمية خطاب المظلومية المذكور هو حقيقة أن فكرتي “الأقلية العددية” و”الأكثرية العددية” ليستا العاملين المؤسِّسين لحياة وظروف عيش وخبرات وجود الجماعات في المشرق العربي، لا على الصعيد المجتمعي أو السياسي أو الاقتصادي أو الدولتي أو الثقافي أو حتى الديني.
يقول لنا واقع المشرق العربي المعاصر السوسيولوجي والسياسي والسياقي المعقَّد إنَّ المنطق العددي لا يُقرِّرُ مصير وحياة وظروف عيش وممكنات المجاميع البشرية في سياق الحياة في المنطقة، سواء أكانت تلك المجاميع صغيرة أو كبيرة في الحجم. الواقع السياقي للمشرق العربي يقول لنا إنه لا توجد أكثريات في الواقع المذكور وإنما مجاميع من الأقليات المتكافئة في حالات العيش وظروف الوجود وممكنات الاستمرار وخبرات الوجود والحقوق والإمكانيات، بصرف النظر عن حجمها العددي. السبب في امّحاء تأثير العامل العددي في السياق المشرقي العربي هو أن المجتمعات العربية عموماً تخضع لسلطة وهيمنة وقيادة منظومات دولتية وسياسية وحاكمية تمارس على المجموع العام الشعبي المؤلِّف لتلك المجتمعات سياسات أقلَلة مُمَنهجَة ومُبرمَجَة لا تقوم على منطق العدد، بل على قواعد الولاء والطاعة والخضوع والخنوع والتشارك والانصياع والتأييد تجاه من يملك القوة ومن يتمتع بالسلطة وتجاه برامجه وأجنداته ورؤاه وأطماعه ومصالحه.
من هنا، فإنَّ هناك أفرادا ينتمون لمجموع يتمتع بأكثرية عددية يتعرضون لقمعٍ ولاضطهادٍ ولمظلومية من قبل أصحاب سلطة ينتمون لجماعات تمثِّل أقليات عددية. في قلب هذا السياق، يصبح خطاب المظلومية أحد أدوات صاحب السلطة والقوة والقرار التي تخدم سياسة الأقللة التي يتَّبعها ضد كل من يخالفه ويتغاير معه ويفارقه ولا يناصبه الولاء. هنا، يصبح خطاب المظلومية سرداً تبريرياً لممارسات الأقللة ضد هذا المخالف والمتمرد والتي تؤدي إلى تغذية مشاعر الكراهية عند أتباع صاحب السلطة والموالين له (والذين يتمتعون عندها بأفضليات تجعلهم يعيشون حالة من “الأكثرة” الوجودية) تجاه هذا الطرف المغاير المؤقلَل. في الواقع العربي المشرقي، لا نجد خطاب مظلومية يقارِب أو يتحدى سياسة الأقلَلَة المذكورة، بل نسمع للأسف العديد من سرديات ظلمٍ مُتخيَّل يخلق كراهية ضد ظالمٍ وهمي مَزعوم، ما هو في الحقيقة سوى ضحية لسياسة الأقلَلة التي يتم التغاضي عنها.