\'دورة ما بعد الحداثة\' بلاغة السياسة الجمالية
لهذا سوف نتخذ من الأطر المنهجية والمفاهيمية إلى جانب إشكالات الترجمة الاصطلاحية، القاعدة الأساسية والمحورية لمحاولتنا الفلسفية الرامية إلى إعادة فهم تاريخ فلسفة الجمال وبنية العمل الفني منذ أفلاطون إلى مرحلة ما بعد الحداثة. وستكون أطروحات الفيلسوف إيهاب حسن في مؤلفه المذكور أعلاه، الرافد الأساسي لمجمل مقارباتنا المنطقية والجمالية واللسانية.
ما بعد الحداثة: الجدل الاصطلاحي لمفاهيم الدورة والمنعرج الثقافي
يُعد مصطلح “turn” من أبرز المصطلحات الإشكالية التي استوقفتنا عند مطالعتنا لكتاب (دورة ما بعد الحداثة) الذي كان عنوانه الأصلي “ The Postmodern Turn”. حيث جرى ترجمة ذلك المصطلح بمفهوم “دورة”. على الرغم من أننا نلاحظ أن العنوان الفرعي للكتاب“Theory and Culture Postmodern” تضمن على إشارة إلى طبيعة الثيمات الفلسفية التي سيرتكز عليها عمل الأستاذ إيهاب حسن حول بنية الجدل الحاصل بين نظرية ما بعد الحداثة والثقافة، بعبارة أخرى، بين نظرية “ما بعد الحداثة” “ونظرية الثقافة”. وهذا يعني أننا سنكون إزاء خطاب من التحولات والمنعرجات الإبستمولوجية واللسانية والإستطيقية. فكان لزاما علينا أن نتساءل فيما ينبغي عليه أن تكون ترجمة مصطلح “turne ” بالدورة أم “بالمنعرج” أم”بالمنعطف”؟ وهل يمكن لمصطلح الدورة أن يؤسس لنظرية ثقافية جديدة أم هو مفهوم يُعيد إنتاج أشكال ثقافية تقليدية قديمة؟ وهل إن معنى مفهوم “الدورة” ينسجم مع تحولات مفاهيم وتصورات ما بعد الحداثة الكونية؟ وأين يمكن أن نضع فلسفة الجدل الثقافي والما بعد الحداثي: هل مع مفهوم الدورة “التوتولوجي”؛ أم مع مفهوم المنعرج/والمنعطف السوسيو-لساني؟
واللافت في الأمر، خلوّ الكتاب من مقدمة اصطلاحية لإشكالية ترجمة المصطلح المذكور أعلاه، بهدف توضيح السبب في تفضيل ترجمته بمفهوم “الدورة” عوضا عن “المنعرج” و”المنعطف”. على الرغم من أن المصطلحين الأخيرين هما الأقرب في ترجمة بنية تحولات مرحلة ما بعد الحداثة على كافة الأصعدة الثقافية والفلسفية والجمالية. في حين أن معنى مفهوم “الدورة” يحيلنا مباشرة إلى عملية “كوزمولوجية وغائية” لا يمكن لها أن تبشر بخطاب ما بعد حداثي حافل بالتحولات السوسيو-ثقافية؛ والسوسيو-استطيقية والسياسية، كما هو الحال عليه في خطاب ما بعد الحداثة. فهل كان اعتماد مفهوم “الدورة” في ترجمة كتاب (دورة ما بعد الحداثة)، إستراتيجية من استراتيجيات فنون الترجمة، حاولت إيصال شيفرة للمتلقي حول افتقار النص الأصلي لآليات تحليل وتأويل “جينالوجيا” المفاهيم الجمالية والأعمال الفنية والأدبية التي جاء على وصفها وسردها الكاتب. ومن ثمة، فإن الكتاب تأسس على تحليل الخطاب الأدبي والشعري لعدد من الكتاب وأعمالهم الادبية، دون محاولة إعادة تفكيك “برادايمات المناهج والعلوم المنطقية والفلسفية التقليدية التي حكمت تاريخية العمل الفني/وفلسفة الجمال منذ أفلاطون إلى مرحلة ما بعد الحداثة؛ أو ربما دون إعادة تحليل وابتكار نظرية ثقافية ما بعد حداثية جديدة، تأخذ على عاتقها مهمة تفكيك “لغة ومنطق وأسلوبيات خطاب الحداثة القديم والمعياري” الذي سيطر على تاريخ الجماليات في الفكر الغربي. فلا يمكن لخطاب ما بعد الحداثة أن يتشكل ويُعاد تشكيله من جديد دون إحداث قطيعة إبستمولوجية/ومنعرجا ثقافيا مع بنية ونظام هذا المنطق الميتافيزيقي والمثالي القارّ في تاريخ الفلسفة الغربية.
والغريب أن الأستاذ إيهاب حسن نفسه، لم يكن ميالا لاستعمال مفهوم “الدورة” في كتابه، حيث يقول “أدرك أن هذا كله لن يرضي أحدا يطلب ‘تعريفا’ أكثر تحديدا لما بعد الحداثة. لكن الأفعال البشرية لا تتبع دائرة أو مربعا محكما كالأحداث التاريخية، فهي تروغ من التحديد البدهي” (إيهاب حسن:دورة ما بعد الحداثة، ترجمة محمد عيد إبراهيم ،ص 14)
فعلى ما يبدو، أن العلاقة بين مفهوم الدورة مع الدائرة التاريخية المحكمة، قد لا يتحقق فيها شرط المنعرج التاريخي والثقافي لجينالوجيا المفاهيم الفلسفية والمنطقية التي سيطرت على إنتاج الأحكام الجمالية من جانب، وعلى فلسفة الجمال من جانب آخر. لكن الأستاذ إيهاب حسن، ورغم إشاراته المتكررة لطبيعة التحولات الثقافية لما بعد الحداثة، لم يولِ عناية كافية واهتماما خاصا لعلاقة الفلسفة بالمناهج الإبستمولوجية مع خطاب ما بعد الحداثة من جهة؛ ولا إلى مفهوم المنعرج اللساني/الثقافي من جهة أخرى. ربما يعود هذا إلى تركيزه المفرط على ثقافة وقيم الرأسمالية-المتأخرة- لما بعد الحداثة، كالعمران؛ والأدب؛ والفنون بكافة صورها وأشكالها، إلى جانب اقتصاره على أنماط وصور الاستهلاك اليومي الشائعة والرائجة في مرحلة ما بعد الحداثة. لهذا لم تشغل المفاهيم الفلسفية حيزا وافيا ولم تأخذ حقها في تنظيراته الفلسفية من حيث النقد والمراجعة والتحقيق والتحريinquiry ، وكأنها مفاهيم لا ترتبط ارتباطا تواصليا بالتحولات والثورات العلمية والسوسيولوجية لمرحلة ما بعد الحداثة الجديدة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما جاء الأستاذ إيهاب حسن على وصف تلك التحولات، اتسم وصفه بالنزعة التعميمية الجاهزة وليس الأسلوب التحليلي العلمي لبنية تلك المفاهيم، فيقول “ما الإنسان إلا حيوان مفكر،الخ – قد تروق لتواريخنا الثقافية. كيف،إذن،تنبثق من دون تعريفات، أعتقد، بشكل اصطلاحي، براجماتي، كما نفعل دوما، بشكل العرف. تميل دورة ما بعد الحداثة نحو تلك الطريق: فهي تتضح بوضع اصطلاحات وأفكار وسياقات رئيسية، عما بعد الحداثة، في لعبة أوسع. واللعبة معنا شيء أليف، جد أليف، كما في مناظرة “ما بعد البنيوي”.لكن مع أن ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية تتشاركان في اهتمامات عدة، إلا أنهما في النهاية تقاومان الاندماج. تبدو ما بعد الحداثة أوسع، عالميا، وأفقيا. يقع الفن، السياسة، التقنية، الثقافة كليا، ضمن بوصلتها، كما تتجه من المعمار الياباني إلى واقعية كولومبيا السحرية. وهكذا نرى سمة ما بعد الحداثة فضفاضة حرة، مبتذلة أكثر منها شنيعة، تكرب نقادها. فهل تلتئم ما بعد هذه المتجهات العالمية ذات يوم في نمط ملتحم؟ النمط الوحيد الذي اقترحه حاليا، هو النمط الذي تستدعيه المقالات المختارة هنا، ضمنها. وأميز، في هذا النمط: اللاحتمي والتلازم؛ التمثل الوجودي، الأحداث الزائفة؛ الوعي ناقص الهيمنة، التنوير والتلاشي في كل مكان؛ الزمنية الجديدة، أو بالأحرى الزمنية التبادلية، الإحساس بالعمل التاريخي التعددي؛ النهج التخليطي أو اللعوب، المنتهك، أو التفكيكي، للمعرفة والسلطة؛ وعي اللحظة التهكمي، المحاكي الساخر، الانعكاسي، الخيالي؛ المنحى الألسني؛ الآمر بالعلامات، في الثقافة؛ وفي المجتمع عموما، عنف الرغبات المحلية المنتشر في تقنية الغواية والقوة معا. باختصار، أرى نمطا يراه آخرون أيضا: إرادة شاسعة، تنقيحية، في العالم الغربي، شفرات مزعزعة/مستوطنة، شرائع، إجراءات، عقائد، صارخة بما لا بعد الإنسانية؟”. (إيهاب حسن، المصدر نفسه، ص 15-16).
الملاحظ أن طبيعة النص أعلاه، جاءت حافلة بتحولات فلسفية مهمة جدا، فمن “الإبستيم الحداثوي العلموي المطلق” إلى “الإبستيم الما بعد حداثوي التاريخي النسبي”. وهذا بطبيعة الحال، يشير إلى أكثر من منعرج في فلسفة ما بعد الحداثة، خاصة فيما يتعلق بالمنعرج اللساني والثقافي.
اللافت في الأمر، خلو الكتاب من مقدمة اصطلاحية لإشكالية ترجمة المصطلح المذكور أعلاه، بهدف توضيح السبب في تفضيل ترجمته بمفهوم "الدورة" عوضاً عن "المنعرج" و"المنعطف"
ما بعد الحداثة: جدل الإستطيقي والأسلوبي والبلاغي
قلنا سابقا، إن الخطاب الإستطيقي والجمالي في فلسفة ما بعد الحداثة، شكّل البؤرة الأساسية والرئيسية في مجمل تحولات هذا الخطاب، لا سيما المتعلق منها بعلاقة الجماليات باللسانيات وفلسفات العلوم الإنسانية التي انعرج فيها الخطاب الجمالي وتحول إلى ممارسات لسانية/تواصلية وتعبيرية وتداولية، تضع في نظر اعتبارها المخاطَب/المتلقي. وهنا يمكننا أن نميز بين مرحلتين تاريخيتين في فلسفة الجمال والأعمال الفنية والأدبية، فالمرحلة الأولى ظهر فيها مفهوم الجمال “بوصفه جوهرا أما لكل ما هو حسي وروحي أو روحي محض. وهذا ما عمل عليه كل من أفلاطون في محاورة الفايدروس، والفيلسوف الألماني شيلنج، في الحفاظ مع مبدأ الجمال على الثالوث الهوياتي الميتافيزيقي: الجمال، الحقيقة، الخير، المطلق”(Flex M. Gatz, the Object of Aesthetics. The journal of AESHETICS, FALL 1941.N,23,p.5).
وعلى أساس ذلك “الثالوث الهوياتي المتطابق” تشكّل منطق التأثر بكل من فلسفة “أفلاطون وأرسطو من خلال تأكيدهم الشديد على مفهوم الكلي/الشامل، الذي بدا واضحا مع اعتقاد الفلسفة الرواقية بالنزعة الكوزمولوجية، ومع امتداد ذلك التأثير الأفلاطو-أرسطي مع المسيحية وتوافقها العام معه، مما أدى بالضرورة إلى أن يفقد الإنسان رؤيته الزمنية”.(George Boas THE JOURNAL OF AESTHETICS, SPRING, 1941, N, 1, P.53)
من هنا، أصبح هذا الثالوث أشبه بـ”الأساس الأنطولوجي التقليدي/الهرموني” لفلسفة الفن والجمال التي مثّلت في جوهرها عملية توتولوجية، بقيت محكومة بجدل المثالي/والتجريدي والكلي. وبهذه الطريقة، تشكلت أيضا المناهج والنظريات الجمالية التجريدية المتعالية “فبدءا من النظريات الشكلية formalistic التي يستند تعريفها لمفهوم الجمال على مصطلحات مشتقة كليا من الشكلform ، ومرورا بالنظريات المثالية idealistic التي تحدد مفهوم الجمال بمصطلحات مشتقة كاملة من الأفكار… ideasوبذلك تكون النزعة الشكلية Formalism هي النظرية الكلاسيكية التي أشارت بالفعل إلى إمكانية تعريف مفهوم الجمال وفق مصطلحات النظام أو الهارمونية الشكلانية، على النحو الذي يجعلنا نمتلك الوحدة -في- التنوع على حد سواء” ( JAREDS.MOORE ,BeautyAS Harmony. THE JOURNAL OF AESTHETICS, N, 7, P.42 ).
إذن علينا أن نتساءل هنا، كيف يمكن لمنهج الفن والفنان أن يتشكل في ظل سيادة مثل هذه النظريات الهرمونية التقليدية؟ وما هو المنطق الذي سوف يمثل طبيعة مناهج فلسفة الفن والجمال؟ وهل هناك استقلالية للعمل الفني وللفنان عن سيطرة هذا النظام الكلي؟ وما طبيعة الأسلوبيات واللسانيات التي ترعرعت في ظل هذه الهرمونية الأفلاطونية المثالية؟
إن التمركز الحداثوي على أسس العقلنة المنطقية والوضعية المعيارية، جعل من المنهج الفني “مجرد عملية منطقية تتضمن على كل من: المنهج الاستقرائي والمنهج الاستدلالي، تنسج على الدوام سياقا منفرداً لكل من الأشياء الواقعية وللإمكانيات المنطقية التجريدية لمفهوم القيمة. فعلينا أن نعترف أن أهم جزء في هذه العملية، هو ذلك الاستنتاج الفني، بأن ما هو منطقي يقع على النقيض مع عملية الحدس الفني”( JAMES FEIBLE MAN, The logical Value of The objects of Art. THE JOURNAL OF AESTHETICS,FALL,1941,N,2,3.P.74 ).
لهذا، نلاحظ كيف ظلّ واقع العملية الفنية، إلى جانب فلسفة الفن والجمال، محكومة في مجملها وفق نظام “بنيوي شكلاني” أنتج بالضرورة “لغة فنية مجردة” مسيطرة عليها “أسلوبيات تراتبية” تجعل من قيمة العمل الأدبي كامنة في بنيته ونظامه الداخلي الشكلاني وتراكيبه السنتاكسية والمورفولوجية. فمع “المنهج الفني التجريدي لم يعد بإمكان أيّ أحد أن يصبح فنانا. لكن ذلك يعني أن هناك إمكانية في العمل على مساعدة الفنانين في تطوير مهاراتهم الفنية، ومن ثمة، أن يتعلم تلاميذهم أكثر بكثير من طريقة محاكاة مجردة لأسلوب أساتذتهم” (Ibid,p,75).
من هنا، ينبغي أن يتركز منهج التحقق والتقصي الإبستمولوجي في الإستطيقا الجمالية على نقد سيطرة النزعات الموضوعانية Objectivism على أسلوبيات وبلاغة الخطاب الجمالي ونظام تشكل/وتشكيل وهيكلة الأعمال الأدبية القديمة، وذلك لأن “الأسلوب في نهاية المطاف يمثل بعدا من الأبعاد الجوهرية والأساسية في أيّ تجربة إنسانية، لأن علاقات التحكم والاستقلالية الذاتية تجري عملية تفاوض فيما بينها من خلال تركيبة متقنة من الكلام والإيماءة والإشارة، والزخرفة والتزويقات اللفظية. وأيّ وسائل أخرى لغرض تحوير إدراكاتنا وتشكيل أنماط استجاباتنا. بكلمة واحدة، إن خبراتنا الثقافية/السياسية صُممت مسبّقا بأسلوبيات تقليدية قبلية” ( Brand fond Vivian,Style,Rhetoric,and postmodern culture,p242).
لهذا، إن تحقق المنعرج من “الإستطيقا المركزية الحداثواية” المكتفية بأسلوبياتها التقليدية، إلى إستطيقا بوصفها تمثل بعدا من أبعاد “التجربة الجمالية السياسية/والسياسية الجمالية” يمثل “فلسفة الفعل الراديكالي الما بعد حداثوي المسكوت عنها”. وذلك لأنه “على الرغم من أنه لا يزال الأسلوب يسلط الضوء على ردود الأفعال الإستطيقية، إلا أنه لم يعد يعمل بطريقة تدفع نحو الاستقلالية الفنية. بل أصبح الأسلوب يمثل، في حد ذاته، مقولة تحليلية لفهم الواقع الاجتماعي، ومن ثمة، لغرض فهم سياسيات الواقع الاجتماعي. لذا، ينبغي علينا أن ننظر بعين الاعتبار إلى الكيفية التي يتضمن فيها الفعل السياسي على عملية صياغة وتشكيل تمثلاتنا وأحكامنا حسب أسلوبيات سياسية مسيطِرة” (Ibid,p,224).
من هنا، شهد تاريخ “الإستطيقا الجمالية” قطيعة إبستمولوجية جديدة، خاصة على المستوى الأسلوبي والبلاغي. وهذا ما بدا واضحا من خلال استعمال “هاريمان” لمصطلح حذر ما بعد الحداثة “ cautious postmodernism “، لأن مشروعه الما بعد حداثي “…. يؤكد على دراسة الأسلوب بحسب الأبعاد الجمالية للعلاقات الاجتماعية وليس على مبدأ الاستقلالية الفنية بمفرده. لكن حذر هاريمان يشير في الوقت نفسه، إلى اعتماده بشكل جليّ على التعريف الكلاسيكي الأرسطوطاليسي للبلاغة. فبلاغة وظائف الأسلوب السياسي تُعرف بوصفها “إشهار لوسائل الإقناع التي تتسم بها ثقافة سياسية معينة يتمكن أيّ أحد من استعمالها لغرض تحقيق منافعه… فلا يمكننا بعد ذلك إذن تأويل مبادئ البلاغة الكلاسيكية دون العودة إلى مبدأ ‘الاستقلال الفني’ استنادا إلى تعريفنا لمفهوم البلاغة الأصلي أعلاه” (Ibid,p,224-225).
إذن، أصبح من الواضح أن عملية فهم النظرية الأدبية/والجمالية الما بعد حداثية، لا يمكن لها أن تنفصل عن عملية إعادة تأويل “الجماليات وحقولها الفلسفية التقليدية” في تمثل ممارسات تعبيرية ولسانية وسيمانتيكية وخطاب تواصلي جديد، يعيد تعرية الأشكال البلاغية والأسلوبية التي مأسست بنية علاقاتنا وأنظمتنا الثقافية والاجتماعية، نتيجة لتحول هذه البلاغة إلى أسلوبيات سياسية سلطوية تسيطر على مفاصل الحياة الماكروفيزيائية/والميكروفيزيائية. وهنا تكمن أصالة ما بعد الحداثة المستندة على “مبدأ التحقق البلاغي Rhetoricale inquiryالذي يوفر الوسائل الملائمة للكشف ليس عن أهمية الأسلوب بوصفه أداة لتنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية فحسب، بل وعن الطرق التي تعمل على عملية توليدها والحفاظ عليها وإعادة تشكيلها أيضا. وذلك بهدف تجنب اختزال النماذج الجمالية الديناميكية في الحياة المجتمعية إلى مجرد نطاق ذي صلاحية دائمة من الخيارات الإقناعية الجاهزة، أو إلى عقلانية متأصلة في بنية المثل الإنسانية. مع ذلك، ينبغي علينا توثيق الوظيفة البلاغية دون الاعتماد الحصري على مفهوم البلاغة الأرسطوطاليسي. وهنا تقع بالضبط الفرصة المناسبة في إعادة تعريف “شرائع الأسلوب” من خلال التأكيد على أهمية دلالته في العلاقات الاجتماعية والسياسية، وذلك من أجل ضمان تعزيز مبدأ التحقق البلاغي بهدف وضع رؤية أفضل للتغيرات الحاضرة والمستقبلية في العلاقة المتداخلة بين الخطاب الجماعي والجماليات الثقافية” (Ibid,p,225-226).
لوحة: إبراهيم الصلحي
ما بعد الحداثة: بين أيهاب حسن وفريدريك جيمسون
سنحاول هنا تسليط الضوء على طبيعة العلاقة الإشكالية المركبة بين كل من: فعل الكتابة/وعملية إنتاج التصورات والتمثلات للحياة والنظام الثقافي للوجود الإنساني في العالم. والذي سيقودنا بالضرورة إلى أجراء بعض المقاربات اللسانية والأسلوبية والجمالية لمفاهيم الكتابة وتحولاتها وتمفصلاتها مع بقية حقول العلوم الإنسانية الأخرى، بين كل من إيهاب حسن وفيلسوف ما بعد الحداثة المتأخرة فريدريك جيمسون.
انطلق إيهاب حسن في تصوره لمفهوم الكتابة من منظور رؤيوي يجمع بين فحش النص الأدبي وسرياليته الجمالية والباطنية التي تكمن في بنيته ونظامه اللغوي من جانب والأنطولوجي والأدبي من جانب آخر. ومن الواضح أن هناك حضورا غالبا “للسرد السريالي اللاتاريخي” في قراءاته وتأويلاته لمعنى الأدب والكتابة ونظام إنتاجها وتوزيعها الثقافي في العالم. فحينما جاء على عرض بعض النماذج من الكتاب والفلاسفة والفنانين، نراه يصف على سبيل المثال لا الحصر، مفهوم الكتابة لدى بيكيت بكونها:”… لعبة عبثية. بحس معين، نعتقد أن أعماله كأنها محاكاة ساخرة لنظرية لودفيج فتجنشتاين حيث اللغة نظام ألعاب، مماثل لحساب القبائل البدائية. إن محاكيات بيكيت الساخرة، مشبَعة بحقد شخصي، وتكشف عن ميل عام ضد الأدب.. والفن ذو مجال مغلق إذ صار لعبة عبثية من التباديل، كما يرضع مولوي حجارة الشاطئ، و’يعتزل الكلمة’.. تكتفي مفاهيم الأدب بالإمتاع، كلعبة وكحدث يندمجان بشكل آخر في صمت استعاري: فحش الأدب. يصعب تعريف المصطلح برداءة سمعته عدا الحدث الرسمي؛ استخدمته هنا لأشير أساسا إلى إعمال تربط الفحش بالاحتجاج. كما يتيسر فهم أنه في ثقافة ممنوحة بقمع جنسي، يأخذ الاحتجاج شكل الصدى الدائري للفحش. الأدب الفاضح لهذا الحافز هو أدب تمرد. عموما، فالفحش مختزل بعنف، ومصطلحاته ومقابلاته وأشكاله المبتذلة محددة بصرامة. وعندما تبرد خلفية الغضب، يتبدى الفحش كلعبة تباديل، مقتصرا على كلمات عدة وإحداث أقل” (إيهاب حسن، المصدر نفسه، ص 28،29).
من الملاحظ، أن انشغال الأستاذ إيهاب حسن على توضيح الجوانب السلبية والجنسية والفضائحية في الكتابة، جرّد مفهوم الكتابة من أبعادها الجمالية واللسانية والفلسفية، بل وحتى الراديكالية والبراكسيسية الفعّالة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بأعمال “بيكيت” التي أظهرها وكأنها مجرد “محاكاة أفلاطونية” لألعاب لغوية فارغة ومجوفة، لا تبشر بقيم جمالية وأخلاقية جديدة. في حين أنه من المعروف، أن كتابات بيكيت أصبحت مرجعا لا غنى عنه في إعادة قراءة الخطاب الفلسفي والنظرية الأدبية الجديدة، ناهيك عن أهمية أطروحاته اللسانية واللغوية التي سطّرها في رسائله التي صدرت في أربعة أجزاء من جامعة كامبردج. ربما كان غياب البعد التاريخي والفلسفي في رؤية إيهاب حسن لمفهوم “ما بعد الحداثة” أحد أهم الأسباب التي جعلته يقع في دائرة تعميم المفاهيم الثقافية والإستطيقية والفلسفية والمعمارية أيضا. الأمر الذي أدى إلى ضمور “مناهج النظرية الأدبية والثقافية إلى جانب النظرية الجمالية واللسانية”، هذا على الرغم من أن الأستاذ إيهاب حسن جاء على ذكر مجمل حقول العلوم الإنسانية ذات الصلة بخطاب ما بعد الحداثة. لكن، وكما ذكرنا سابقا، كان تركيزه على الأبعاد الكونية والعولمية والاستهلاكية والمعمارية الرأسمالية كبيرا إلى الحد الذي جعله لم يتمكن من تجاوز ما هو مقرر وسائد عن مفهوم ما بعد الحداثة عنده، بل كاد يتحول إلى معيار norm لهذا، تتمثل رؤيته نحو مفهوم ما بعد الحداثة “بوصفها عملية عالمية، لا يفترض أن تتماثل في كل مكان على الإطلاق، كما أنها ليست شاملة، ويمكن تخيلها كمظلة واسعة، تقف تحتها مجموعة من الظواهر المختلفة، مثل ما بعد الحداثية في الفنون، وما بعد البنيوية في الفلسفة، والنسوية في الخطاب الاجتماعي، ودراسات ما بعد الاستعمار، والدراسات الثقافية في الأكاديمية، وكذلك تضم الرأسمالية العالمية، وتكنولوجيا الاتصالات، والإرهاب الدولي، والاختلاط العرقي والقومي، والحركات الدينية، كل هذه الظواهر تقع في سياق ما بعد الحداثة دون أن تكون متضمنة فيها بشكل سببي. ويمكننا أن نستنتج نقطتين مما سبق :
الأولى: تتواءم ما بعد الحداثية كظاهرة ثقافية مع التقنية العالمية، والمستهلك، وقيادة الأجهزة الإعلامية الاجتماعية.
الثانية: تشير ما بعد الحداثة كعملية جغرافية سياسية عالمية، إلى ظاهرة كوكبية تفاعلية، يتخلل نسيجها القبلية، والإمبريالية، والأساطير، والتكنولوجيا، والهوامش، والمراكز هذه المفاهيم غير المتكافئة تخرج طاقاتها المتصارعة، في أغلب الأحيان على شبكة الإنترنت” (إيهاب حسن، تجاوز ما بعد الحداثية أو التفاعل المفتوح بين المحلي والعالمي، ترجمة، محمد سمير عبد السلام الكلمة، مجلة الكلمة، العدد العاشر، أكتوبر2007، ص 4).
انشغال الاستاذ إيهاب حسن على توضيح الجوانب السلبية والجنسية والفضائحية في الكتابة، جرد مفهوم الكتابة من أبعادها الجمالية واللسانية والفلسفية، بل وحتى الراديكالية والبراكسيسية الفعالة
والغريب أن إشكالية التعليم وصناعة هيمنة المناهج التقليدية في فلسفة وخطاب ما بعد الحداثة، لم تشغل حيزا في مرحلة “ما بعد الحداثية”، باعتبارها تتوسط الأدب والثقافة والتعليم. على الرغم من الإشارة المهمة للأستاذ إيهاب حسن، والمتعلقة بمفهوم “الهيمنة الناقصة”، إلا أن هذا المفهوم ظل يشير ويحيل في كتابات إيهاب، أكثر مما يدل ويعني. بعبارة أخرى، إن العلاقة الإشكالية بين كل من: الهيمنة والسلطة والمعرفة واللغة، لم تكتمل ولم تأخذ حقها الكافي من البعد التنظيري والتأويلي الذي توفرت عليه أعمال المفكر الراحل إدوارد سعيد. ربما يعود ذلك، لأن مفهوم “النقد الجامعي الما بعد حداثي” هو الموضوع يحيلنا مباشرة إلى نقد الأطر التراتبية والطبقية المهيمنة في كل زمان ومكان، وهذا ما قد يستدعي بالضرورة، حضور النظرية النقدية والماركسية والدراسات الأنثروبولوجية واللسانية التعددية، التي تأخذ على عاتقها مهمة تفكيك آليات التعلم والتعليم النخبوي والشكلاني المدعوم رسميا من قبل أيديولوجيا المنطق التقليدي القديم.
وعندما مطالعتنا لكتاب المفكر فريدريك جيمسون “المنعرج الثقافي” The Cultural Turnنجده قد عرض أولا لإشكالية التعليم النخبوي/والشعبي بين الحداثة وما بعدها، بوصفها إشكالية احتلت الصدارة في كتابه الأنف الذكر، فما ميّز معظم ما بعد الحداثيين “… أنهم ظهروا كردود الفعل الموجهة ضد الأشكال المؤسساتية لنزعة الحداثة النخبوية، وضد هكذا نوع من الحداثة النخبوية المهيمنة على مؤسسات: الجامعات، المتاحف الفنية، شبكة القاعات الفنية والجمعيات وغيرها. الذين عملوا سابقا على مناهضة وتدمير كل ما يبشر بولادة أسلوبيات جديدة، بهدف المحافظة على النزعة التعبيرية التجريدية.. ومن جهة أخرى، إنهم عملوا على إزالة بعض من القيود والحدود الأساسية التي تبرز ذلك التلاشي للتمييز القديم بين الثقافة العليا وبين ما يدعى بالثقافة الشعبية. ولعل هذا كان من أكثر التطورات المؤلمة والفاجعة للنخبة الأكاديمية التي اعتادت أن تتحصل على امتيازات واسعة بواسطة حفاظها على ثقافة النخب المتعالية ضد ما يحيط بهم من حركات طليعية قد تهدد تقاليدهم العريقة” ( FREDRIC JAMESON, THE CULTURAL TURN, P, 1, 2. ).
من هنا، لم يعد بالإمكان فهم “فلسفة ما بعد الحداثة” دون العودة إلى جينالوجيا علاقاتها الإشكالية المرتبطة بكل من التعليم؛ والتاريخ؛ والجماليات، وعلاقة هذه الحقول بالخطاب السوسيو-ثقافي؛ والسوسيو-سياسي والسوسيو-لساني. لهذا، كان شكلت أعمال فلاسفة ما بعد الحداثة في تفكيك منطق وأسلوبيات التعليم القديمة، صدمة لمفاهيم “الهيمنة الحداثوية المطلقة” التي كانت تسيطر عليها نخب ومناهج وأساليب ولسانيات طبقية محددة. فكانت بذلك تمثل قطيعة راديكالية ضد الثقافة المهيمنة والإستطيقيا الجمالية التقليدية- حسب ليوتار-.
لهذا، نرى كيف أن فريدريك جيمسون عمل على إعادة تفكيك منطق ما بعد الحداثة لمرحلة “الرأسمالية المتأخرة”، خاصة فيما يتعلق بنقد الفنون الجمالية والأنواع الأدبية التي شكلت قطيعة مع بلاغة الحداثة وأسلوبياتها التقليدية/المعيارية. فهو يرى، أن خصائص الأدب في مرحلة ما بعد الحداثة، تختلف اختلافا جذريا عن خصائص الأدب في مرحلة الحداثة، وذلك لأن هذه المرحلة “استندت على صيغ أسلوبية بنيوية ووظيفية خاصة” (Ibid,p,2).
ربما أن أهم ما ميز كتابات جيمسون الما بعد حداثية، هو حضور منطق البحث والتحققinquiry الفلسفي والتاريخي، في مجمل كتاباته الثقافية والجمالية بل حتى السياسية منها، لا سيما وهو قد عمل على إعادة قراءة الخطاب الماركسي إلى جانب نقد النزعات الشكلانية في الفلسفة والأدب منذ أرسطو إلى المدرسة الشكلانية الروسية، وتشخيص أعراضها الباثولوجية المسيطرة على الخطاب الفلسفي والأدبي في الفكر الغربي. وقد اشتمل كتابه “أيديولوجيات النظرية” THE IDEOLOGIES OF THEORY على نقد معمق لغرض تفكيك أهم الأسس التاريخية والنظرية والفلسفية، التي مهدت لولادة خطاب “ما بعد الحداثة” خاصة فيما يتعلق بالخطاب الأدبي الطليعي الذي بشر ببلاغة جديدة اصطلح على تسميتها جيمسون ببلاغة “المعارضة الأدبية” Pastiche وفن المحاكاة الساخرة الذي عده جيمسون “واحدا من أهم سمات وممارسات ما بعد الحداثة اليوم” (Ibid,p,4).
فمن خلال عملية تحليل ونقد لغة وبلاغة ما بعد الحداثة، حاول جيمسون تقويض أسس الثقافة/وثقافة الأسس الميتافيزيقية القارّة والمستقرة في بنية الخطاب الأدبي والجمالي الذي سيطرت عليه أسلوبيات وتقنيات الحداثة المجردة والمفرطة بالتمركز العقلاني من جهة، والتمركز الطبقي من جهة أخرى. لهذا، فإن منطق المعارضة الأدبية، هو في الواقع، يمثل منطق “الثقافة الطليعية الجديدة” التي تُعيد النظر بكافة الأشكال الثقافية بدءا من نقد بيداغوجيا التعلم والتعليم إلى تفكيك لغة “لسانيات الإستطيقا” والانعراج بها من التقوقع حول العمل الفني المتبرجز، إلى مرحلة تشكل فيها علاقة تواصلية مع الكائن الإنساني ومع ممارسات إنتاج لغته التداولية وخطابه الثقافي اليومي. وهذا ما شخصه جيمسون، حينما لاحظ أن “الإنتاج الثقافي كان مدفوعا إلى داخل العقل، منطويا كموضوع متفرد ومنعزل كالموناد عند الفيلسوف ليبنز، بل ولا يمكن له النظر مباشرة إلى العالم الواقعي خارج حدود ذلك العقل. لأنه ينبغي، كما في أسطورة كهف أفلاطون، أن يبقى تابعا لأثر الصور الذهنية للعالم المحصور داخل جدران الكهف”. (Ibid,p,10).
ختاما، إن الهدف من محاولتنا لإجراء بعض المقاربات الفلسفية والثقافية في خطاب وفلسفة ما بعد الحداثة بين كل من: الفيلسوف المصري إيهاب حسن؛ والفيلسوف الأميركي فريدريك جيمسون، هو من أجل فهم وتأويل بعض الأفكار والمناهج والفلسفات اللسانية واللغوية التي تعرضت إلى أكثر من منعرجا ومنعطفا في ظل خطاب ما بعد الحداثة. وهذا ما يجعلنا نتعامل مع خطاب ما بعد الحداثة ليس بوصفه يمثل حالات شاذة وتحولات لصور الانتهاك والفحش الأدبي والأوديبي وإنتاج فن الخيبات الجنسية الملازمة لتكوين بنية النص الأدبي، بل على العكس من ذلك، ينبغي قراءة ما بعد الحداثة بوصفها تمهيدا لمرحلة “ما بعد الفلسفة التقليدية وما بعد الأنساق الأفلاطونية والأرسطوطاليسية الميتافيزيقية” كما أراد لها ذلك مارتن هايدغر وآخرون. ومن ثمة، فإن الحديث عن خطاب ما بعد الحداثة بوصفها تقليعة غربية لا تبشر إلا بما هو إشهاري وتجاري واستهلاكي، هو حديث أيديولوجي بالضرورة، لأنه يفصل بين الفلسفة وتحولاتها الميتودولوجية؛ والتاريخية؛ وبين ما بعد الحداثة وخطاب الدراسات الثقافية واللسانية والجمالية التي شكلت بمجملها الخطاب الطليعي الجديد والمسكوت عنه في القول الفلسفي العربي الراهن.
(*) إيهاب حسن: دورة ما بعد الحداثة، ترجمة محمد عيد إبراهيم، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة، ط 1، 2015.