دين الشجرة
بطريقة البناء الضوئي لنبات بريّ غريب نسجت الكاتبة الكورية هان كانغ روايتها الاستثنائية، عالم من السحر النفسي التشويقي بمستوياته الغرائبية والحُلمية، إذ تنمو الأحداث وتتصاعد بانسيابية مطعّمة بلغة حساسة تبطن أكثر مما تظهر وفق سرد صوفي ميتافيزيقي، وفي اعتقادي أنه ليس من السهل الدخول إلى عالم الرواية إن لم يكن القارئ مُلمّاً بصلة القرابة المقدّسة والأزلية ما بين المرأة والشجرة ولو على سبيل الأسطورة.
تُقرأ الرواية على مستويين حسب وعي المتلقي وخلفيته القرائية وتراكمه الحدسي، أحدهما من السطح، والآخر من العمق. المستوى الأول من الحكاية: اجتماعية بسيطة وروتينية، امرأة تترك فجأة أكل اللحوم وتتحول إلى نباتية، تنقلب حياتها رأساً على عقب بتدخل الآخرين في كيانها المتحوّل الذي لم يسبقه قرار مقصود، وإنما كان نتيجة رؤيتها لحلم غامض راح يتوالى ويكبر مع الأيام. من هذه الحكاية البسيطة نفهم أن الشخصية تعيش صراعاً داخلياً مع الذات المتحوّلة والطامحة إلى الحرية في الاختيار واستبدال الثوابت الموروثة المؤدية إلى حيوات متشابهة في العيش والنهايات، يقول هاروكي موراكامي “ثمة نقطة في حياة كل إنسان يحتاج فيها إلى تحوّل جذري. وعندما تأتي تلك اللحظة عليه أن يتشبث بها، بعض البشر يستطيعون والبعض الآخر لا يستطيع”.
تكبر العقدة لتعيش الشخصية صراعاً خارجياً يتصاعد تأثيره مع تسلط المجتمع وقساوة المقربين المتعذّرين بالحب والواجب الاجتماعي ومسوّغات الحماية الجمعية، إذ أنهم بتعسفهم وتدخلهم اعتقدوا بضرورة استخلاص حماية أبويّة حكيمة يسترشد بها أحباؤهم!
غير أن هذه الحكاية الظاهرة والمقروءة من السطح لا تقدّم إحساساً بالتشبع النفسي الجمالي، ثمة طاقة عالية من النمو الداخلي لجماليات الرّعب البطيء في الرواية، وينتابنا شكّ دامغ في نوايا السرد وإحساس أقرب إلى القناعة بأن الروائية الكورية هان كانغ تستتر خلف فكرة أكثر بعداً من قضية التمرد والتحرر وكره اللحوم وغيرها، هان كانغ تعوّم اللاشعور وترصد الهذيان والكابوس وتومئ بوجود مغارة داخلية عميقة تريد جذبنا إليها بكل ما تملك من انسيابية روحية وفِراسة عالية في فهم الرغبات المكبوتة وخبرة مدهشة بالسرد الغابيّ المفعم بالبدائية وبرائحة الجذور والجذوع والنسغ والطين الأخضر.
في الأصل.. هل خرج الإنسان الأول على شكل نبتة؟! إنها الغابة.. الكائن الأرضي الأول الذي ظهر من العدم إلى الوجود واستوطن سطح الكرة الأرضية وامتدّ في أعماقها، ولعله في يوم ما ستحين ساعة عودتنا إلى شكلنا الطبيعي وتنفسنا الأزليّ القديم، بعد أن يفنى الجسد وتعود الرّوح للسكن داخل شجرة تغنّي في الغابات البعيدة. تلك هي الفلسفة المستترة التي يمكن أن توحي بها الرواية. يقول الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار “هذا الجذع الكهفي المكسوّ بالطّحالب هو ملجأ، هو مسكن حُلميّ. إن الحالم الذي يرى بالفكر الشجرةَ المجوّفة، يتسلل إلى داخل الشق، فيعتريه بفضل صورة بدائية إحساس بالحميمية والأمان والحماية الأمومية. إنه إذن في مركز الشجرة، في مركز مسكن، وانطلاقاً من مركز الحميمية هذا، رأى ضخامة العالم ووعى بها، هذا المنزل الحُلميّ هو منزل الكون”.
عناد الشخصية “يونغ هيه” وتشبثها بالموت ولامبالاتها باضمحلال الجسد فيزيائياً، كل تلك المراحل كانت تترجم مسيرة العَوْد النباتي، وتحقق ديمومة العيش كشجرة!
ولعل تلك الفلسفة المنبثقة من الإيمان بقوة طيف الجسد قد عكست رؤية الكاتبة لبعض المعتقدات الشرق آسيوية التي تنظر في الشجرة كإحدى مدلولات التجلي الكليّ لأصل الحياة والبدايات الأولى وانبثاق عناصر الوجود.
بكل تلقائية طبيعية ودون إرادة مدروسة أو قرار مخطط له، بدأت يونغ هيه الدخول في أطوار العودة إلى كينونتها الأولى، تدخل خط الزّمن وتعود إلى نسيجها القديم حين كانت “شجرة تنمو في غابة مطيرة”، لم يكن تحوّلها إلى نباتية فعل فلسفي بوذي، لم تتقصّد التحول العقائدي، حدث كل شيء بانسياب بدائي فطري، وكأنها تعيد سيرة حياة سابقة قد جرّبتها في زمن مجهول، ولم تتعمّد إيذاء أحد حين تحوّلت.
ثم مرّ الوقت، كان فعل تحرير ثديها وكرهها لارتداء حمالة الصّدر هي باكورة التحوّل، إشارة الشجرة التي بدأت تنمو أغصانها وتنفلت عن الحاجز بحماسة، لقد نظرت إلى كل أعضاء جسدها على أنها مسببة للأذى وقتل الكائنات باستثناء ثديها، المكان الأمومي البريء الذي يعطي دون مقابل، الجانب المغذي للأم العظيمة. لم تنجب يونغ هيه وبقي ثديها على صورته الأولى في البراءة، والثدي العاري هنا يستحضر صورة الإلهات ذوات الأثداء العارية في الميثيولوجيا القديمة، الثدي العاري في بعض حضارات الشعوب الأولى يحمل أحياناً رسالة الأنثى في الندم والتوبة والشجن الرّوحي، وكانت الشخصية في صدى أعماقها تصغي إلى أصوات تصرخ ألماً في الماوراء، أصوات تشحذ الندم، وتغمرها في غابة التطهر والتوبة من عالم بشريّ وحشي “أثق بثديي فحسب، أنا أحب ثدييّ، لأنه لا يمكن قتل شيء بواسطتهما”.
التحلل البطيء في الهواء
بعفوية مطلقة تركت يونغ هيه تناول الطعام بشكل قطعي واكتفت بالماء، الأشجار يعوزها الماء فحسب لتنمو، وبعد أن تضخمت كشجرة معمّرة في عالمها اللامرئي اكتفت بالشمس، الشمس فقط هي كل ما تحتاجه الغابات، تحقق الشجرة الوصول إلى القوة الشمسية، والسرّة ومركز العالم، وتحمل مدلول المبدأ الأنثوي والغذاء والمأوى والحماية. لقد حققت يونغ هيه تلك الحماية الذاتية والقوة الداخلية، كادت تتمّم دورتها النباتية الكاملة حين هربت من المصح النفسي واختفت في عتمة الغابة وسط انهمار أمطار شهر مارس، ومن سوء حظها تم العثور عليها “منتصبة في عمق الجبل، وبموضع ما عند حافته تغطيه الأشجار، كانت مبتلة وواقفة بلا حراك كما لو أنها.. من دون مبالغة، شجرة من الأشجار هناك..”.
ولعل ذلك المشهد السحري المرعب الأكثر تجسيداً للنبات وتأكيداً على أن يونغ هيه وصلت إلى مرحلة الوعي الكامل حين انتقلت إلى مملكة الأشجار ولم تعد روحها في الأرض، حين لمحتها شقيقتها بعد أيام في نهاية الممر الغربي للمستشفى تقف على يديها في وضع معكوس، ثابتة لساعات دون حراك، وبدت كأيّ شخص لا يربطها بأي مكان رابط. هذا المشهد استدعى ذاكرة الحلم الغريب الذي كانت قد رأته الشقيقة الكبرى قبل حادثة الهروب، رأت ما يشبه روحاً لشخص وسط الأمطار في الغابة، قد تشبّع بالبلل، مطر أسود وغابة مظلمة، ووسط فوضى الظلام والماء كانت أختها تقف في هيئة شبح يعي تماماً بتحولات جسده الغريزي من الآدميّة إلى الطيفيّة “يا أختي! أنا أقف على يديّ، وأوراق النبات تنمو خارجة من جسمي، والبذور تبزغ من يدَيّ.. وتشقّ طريقها إلى باطن الأرض. بلا نهاية.. نعم، بلا نهاية. وقد باعدتُ بين ساقيّ حتى تُزهر الورود. باعدتُ بينهما إلى أقصى ما يُمكنني..”.
كان صوت يونغ هيه في البداية منخفضاً ودافئاً، ثم استحال بريئاً كصوت طفل صغير، لكن في الجزء الأخير كان أشبه بصوت حيوان، لم تفهم منه شيئاً، هذا ما وصفته الشقيقة الكبرى.
غير أن هناك من أضمر لهيباً في الشجرة ومنع عنها حقها الطبيعي في اختيار الشمس والبزوغ نحو التحرر من العالم البشري، بدأ ذلك التدخل القاسي يكبر جبروته مع تضاءل الحجم الفيزيائي ليونغ هيه الذي كان يقابله نموّاً أثيرياً، ارتقاء روحي أخضر في عالم النبات، لا أحد منهم يدرك في أيّ فلك بدأ وعيها السماوي يسبح، في نظرهم باتت أشبه بالشبح، وفي روحها باتت ماء وشجرة، شجرة مقذوفة في الوفرة والأمطار. وكأن بالكاتبة هان كانغ تستدعي هنا مرة أخرى المعتقد الروحي عند بعض شعوب شرق آسيا، ذلك الذي يؤصّل جمال الموت في الشجرة المقذوفة في المياه، على أنه أكثر أشكال الموت أمومة، فحين يوضع الميت في قلب الشجرة، وتوضع الشجرة في قلب الماء، تُضاعف بطريقة ما تلك “القوة الأمومية”.
البقعة المنغولية
بلغة ذوقية إيحائية عذبة، أو بالأصح “تصوّفيّة” تمنح الجسد بُعداً سوريالياً، وتنهض بالقارئ عبر ترميزها العالي، تصف الروائية مشهداً إيروتيكياً وكأنك أمام لوحة رومانسية عن التكاثر الشجريّ تقودك إلى التفكّر بجمال الجسد الإنسانيّ وسحر المناطق المعتمة فيه.
بقعة زرقاء من زمن الولادة، تستوطن بين ردفيّ الطفل وتتلاشى نهائياً حين يصل إلى سن العاشرة، إلا أن تلك البقعة الزرقاء بقيت بحجم إبهام اليد بين ردفيّ الشقيقة الصغرى يونغ هيه.
نقطة زرقاء في هيئة تويج زهرة بين ردفيها، لماذا لم تختف وبقيت معها كعلامة قادمة من العالم الآخر؟! كانت الشرارة الأولى لعمل فني إيروتيكي يتجاوز المنطق ويفتح بوابة نحو الجنون الخلاق في الإبداع.. بقعة زرقاء، والأزرق لون الروح، عثر فيها زوج شقيقتها على مساحة التعالق مع الأبد، عززت الانتماء البشري الأول إلى عالم النبات، وكأن في نمو الإنسان ما يشبه نموّ النبات.
استقرّت البقعة الزرقاء في ذهن زوج شقيقتها الكبرى، رجل مولع بالمجهول والتجسيد لغريب الأشياء وغموضها عبر الرسم والتصوير، ارتبطت تلك البقعة في ذهنه بصورة رجال ونساء قد غُطيت تماماً أجسامهم العارية بورود مرسومة بوحشية مثيرة، لا يدري لما بدأ يستثمر تلك البقعة المنغولية في رسوماته السوريالية! ولسبب غير مفهوم، أشبه بمراقبة الأحلام داخل الحلم، وبتصرف سوريالي تلقائي قام أخيراً بتصوير العري القادم من الأزمنة السحيقة للغابات والفضاء النباتي القديم والمكرّس في هيئة حالمة على جسد الشقيقة الصغرى لزوجته.
بقعة زرقاء شاخصة في منطقة محرّمة من جسد الأنثى، بقيت هناك منذ زمن بعيد واتخذت هيئة نبات أو زهرة، الفكرة الآن في رأس رجل يحرّم عليه – وفق النواميس الدينية العتيقة والأعراف الاجتماعية المتوارثة في العالم – مسّ تلك المرأة، إنه زوج الأخت.
غير أن غواية النباتات كانت أكبر من طاقة المحظورات، إنه العود إلى الشجرة الشيطانية التي أغوت آدم، وحرضته الأم حواء عبر فضولها وجموحها بتجاوز المحرّم، وفي هذه الرواية تبدو شجرة الأزل والغواية كامنة في البقعة المنغولية، أما من اتخذ دور المحرّض الحوّائي على الفضول والتجربة هي يونغ هيه ولو على سبيل القبول بإيماءة الصمت. كانت اللذة الكامنة وراء تذوق الشجرة المحرّمة في الميراث الديني هي الوصول إلى الباب الأول للمعرفة. وهنا ينصاع زوج الأخت إلى نداء الغواية القديمة، تذوق الثمرة الزرقاء للوصول إلى الباب الأول للفن والإبداع، تصوير بقعة الأطفال التي بقيت أعلى الردف الأيسر من الجسد العادي البريء جداً من الإغراء الأنثوي، فأحالت الجسد إلى شيء يعود لأزمنة بعيدة قبل مراحل التطور، أو ربما يعود لمرحلة البناء الضوئي!
***
يونغ هيه التي بدأت تنفصل تدريجياً عن العالم البشري وتعود فطرياً إلى دين الشجرة، إلى حضن النور الأخضر، تبحث عن وجودها في روح الغابة، في المسافة البرزخية بين الجنون والتعقل، هذه المسافة المجهولة التي يسبح فيها الإنسان المصاب بالهوس المزمن، ما حجم الخفة والنقاء والانتشاء الروحي فيها؟ أهي مسافة المنتهى في حدود العقل، الخط الفاصل بين التفكير واللاتفكير، درب الاحتمالات الكبرى، احتمال الوصول إلى الحد الأعلى للنور والمعرفة الغيبية، ماذا يرى الإنسان حين يصل إلى تلك الحدود القصوى من خط الزمن؟ أيرى أصله الشفّاف؟ أيرى ولادته في الطين كأيّ نبتة أزلية تنمو في زمن العذابات الكونية؟ أيرى الرّوح؟ هل أدركت يونغ هيه كيف يبدو شكل الأرواح؟