رأس يوحنا في جرة زجاجية
تكتسب رحلة “حاج بياسينزا المجهول” التي تنسب أحياناً لأنطونيوس الشهيد أهمية استثنائية كونها شملت مناطق واسعة من بلاد الشام وصولاً إلى سيناء ومصر والإسكندرية، ووقعت في الفترة السابقة على ظهور الإسلام، إبان ذروة الحكم البيزنطي في سبعينات القرن السادس الميلادي على الأرجح.
ووجه التشكك في نسبة هذه الرحلة إلى أنطونيوس الشهيد أنه عاش في القرن الرابع الميلادي، بينما تظهر مؤشرات ووقائع تاريخية وقعت في منتصف القرن السادس الميلادي مثل زلزال بيروت الشهير. ولكن احتمال أن يكون هناك راهبان بالاسم نفسه ومن المدينة عينها يبقى وارداً.
وقد درست هذه الرحلة جيداً في المراكز الأكاديمية الغربية، وسادت حولها نظريات كثيرة؛ بين مشكك في حدوثها، وبين مؤكد. وحجة المشككين تستند إلى كمية الخرافات التي تنطوي عليها وقائع الرحلة، والتي جعلت الدكتور توبلر صاحب تحقيق إحدى نسخها يقول: إن هذا الراهب، كاتب النص، لم يقم بالرحلة حقا إنما جمع مادتها من مصادر شتى، وأضفى عليها مسحة خرافية. ولكن الدكتور توبلر لم يذكر أياً من المصادر، بل إن الخرافات التي تنطوي عليها الرحلة لا تختلف عن الخرافات التي تضمنتها الرحلات اللاحقة التي قطع الباحثون بتاريخيتها.
أما القائلون بصحة الرحلة فقد استندوا إلى جملة من الوقائع التاريخية المحققة في مصادر أخرى، بالإضافة إلى خط سير الرحلة الذي يبدو دقيقاً ومتطابقا مع طريق القوافل التجارية الذي كان معروفاً في ذلك الزمن. ويمكن أن نعزو الاضطراب أحياناً في مسار الرحلة إلى أنها دونت بعد فترة ليست بالقليلة من وقوعها، وهذا ما دلت عليه بعض المقاطع، يضاف إلى ذلك إمكانية تحرير بعض المقاطع عند نسخها في فترات زمنية لاحقة. ومع ذلك فهي تنطوي على معلومات غاية في الأهمية عن أماكن الحج المسيحية في أوج العصر البيزنطي، وقبل ظهور الدعوة الإسلامية ودخول تلك المناطق ضمن الإمبراطورية الإسلامية مترامية الأطراف.
مدن الساحل الفينيقي المدمرة
ينطلق أنطونيوس ورفيقه من مدينة بياسينزا، شمالي إيطاليا، إلى القسطنطينية، ومنها إلى جزيرة قبرص، وتحديداً إلى قسطنطينية قبرص، حيث ضريح القديس إبيفانوس السلاميسي، صاحب الكتاب الشهير “ضد الهرطقات”. ويقول مدون الرحلة إنها مدينة جميلة تزينها أشجار النخيل. ومنها يتوجهان إلى جزيرة أرواد ثم مدينة طرطوس، قبل أن يصلا إلى طرابلس، ثم جبيل، فبيروت التي يقول إنها جميعاً دمرت في زلزال أيام الإمبراطور جستنيان.
وعن بيروت يقول: “وصلنا إلى بيريتوس وهي أروع مدينة، حيث كانت فيها مدرسة للأدب، دمرها الزلزال أيضاً. وقد أخبرنا أسقف المدينة، الذي كان يعرف الأشخاص المنكوبين شخصياً، أنه دون احتساب الغرباء؛ قتل في الزلزال ثلاثون ألف شخص. والمدينة نفسها تقع عند سفح لبنان”.
من بيروت ينطلق أنطونيوس ورفيقه براً إلى صيدا التي كانت مدمرة جزئياً، ويقول إن الناس فيها أشرار جداً. مشيراً إلى تدفق نهر أسكليبيوس (الأولي حالياً). ومن صيدا إلى ساربيتا (الصرفند) التي يقول إنها مدينة صغيرة ومسيحية للغاية، وأنه شاهد الغرفة التي بنيت للنبي إيليا، والفراش الذي نام عليه، والحوض الرخامي الذي جهزت الأرملة خبزها عليه. وأشار إلى تقديم القرابين الكثيرة في هذا المكان.
يغادر الرفيقان مدينة الصرفند إلى صور التي يقول إنها تقع على بعد سبعة أميال، وفيها رجال ذوو نفوذ. ويستطرد: “الحياة هناك آثمة جداً، والترف لا يمكن وصفه؛ ثمة بيوت دعارة عامة، وهنا يُنسج الحرير وأنواع أخرى من الملابس”.
من صور يتوجه أنطونيوس ورفيقه إلى مدينة عكا (بتوليمايس) التي يصفها بأنها مدينة محترمة، حيث وجدا فيها أديرة جيدة. وعلى بعد ستة أميال يشير إلى مدينة تدعى سكامينوس، تحت جبل الكرمل، حيث تقع على بعد ميل واحد منها قرى للسامريين؛ وفوق القرى الصغيرة، على بعد ميل ونصف الميل من هذه القرى دير للنبي إيليا، في المكان الذي التقته به المرأة التي أقام ولدها من بين الأموات.
بعد ذلك يغادر الرفيقان عكا إلى الجليل فيصلان إلى مدينة صفورية (ديوقيصرية)، حيث يشاهدان بخشوع كبير سطل وسلة القديسة مريم. والكرسي الذي كانت تجلس عليه عندما أتى إليها ملاك الرب. وعلى بعد ثلاثة أميال وصلا إلى قانا التي وجدا فيها أحواض ماء، حيث استحما في نافورة إحدى البرك. ومن هناك قصدا مدينة الناصرة وشاهدا المزارات المسيحية وأهمها بيت مريم الذي بنيت عليه بازيليكا (أي كنيسة كبيرة مستطيلة الشكل)، كما يقول محرر الرحلة.
وينطلق الرفيقان إلى جبل طابور قرب مرج ابن عامر، ومنه إلى طبريا. وحتى الآن يبدو خط سير الرحلة منطقيا ومنسجماً مع ما هو معروف، ولكن فجأة يقفز الراوي إلى نابلس (نيابوليس). ويبدو أن السبب في ذلك اختلال في مواقع الفقرات، إذ أن القسم المخصص لمدينة بيسان (سكيثوبوليس) ينبغي أن يسبق الوصول إلى نابلس.
على ضفاف طبريا اقتفاء لخطوات المسيح
ويصف الراوي حمامات مدينة طبريا الساخنة التي تقع إلى الجنوب من المدينة، ويقول إن مياه هذه الحمامات مالحة بعكس مياه البحيرة الحلوة التي يبلغ قطرها بحسب تقديره ثمانية أميال. ومن هناك أتيا إلى مدينة كفرناحوم حيث زارا بيت بطرس الرسول، بحسب الاعتقاد السائد في ذلك الوقت، ويقول إنه الآن كنيسة. ومن هناك عبرا القرى الصغيرة والمدن حتى وصلا ينابيع نهر الأردن في بانياس وتل القاضي اللتان يسميانها (جور ودان) حيث يتحد النهران في نهر واحد يسمى نهر الأردن، ويصفه بأنه نهر صغير يدخل بحر الجليل ويتدفق عبر البحر كله وينفذ من الجهة المقابلة. ومن هناك، أي من ناجية جسر المجامع على الأغلب، عبرا نهر الأردن وذهبا إلى مدينة اسمها جدارا (أم قيس حالياً).
يقول الراوي: “على بعد ثلاثة أميال من المدينة، توجد ينابيع دافئة تسمى حمامات هيلياس، حيث يتم علاج البرص. ويشير إلى وجود مبنى معقود، ويتم تنظيف الحمامات في المساء لخدمة الجمهور. يوجد أمام الحوض الساخن مقعد كبير، وحين يمتلئ، يتم إغلاق جميع الأبواب. يجلب المرضى عبر الرواق إلى الحمام بالمصابيح والبخور، ويجلسون على هذا المقعد طوال الليل؛ ويرون وهم نيام رؤيا الشفاء، وتغلق الحمامات سبعة أيام؛ وفي الأيام السبعة يتطهّرون”.
ويخبرنا الراوي أن رفيق أنطونيوس ويدعى يوحنا البياسينزي، مات في هذا المكان. ويقول إن السيل الخارج من جدارا ينحدر ليتصل بنهر الأردن، الذي يصبح أكثر اتساعاً وأغزر بالمياه. وهذا السيل الذي يتحدث عنه هو بلا شك وادي اليرموك الذي تصبه فيه مياه الحمة.
بعد ذلك يمضي أنطونيوس لوحده متبعا الطريق الروماني عبر بيسان إلى نابلس حيث زار سبسطية. وبعد ذلك يعود للحديث عن المكان الذي أطعم فيه المسيح الخمسة آلاف، وهي لا شك فقرة تنتمي إلى القسم المتعلق بطبريا، لاسيما وأن فقرة أخرى تتعلق بجبل حرمون ترد في المكان نفسه.
بعد ذلك يصف لنا بعض المواضع حول البحر الميت والكبريت والقار على شواطئه؛ إلى أن يصل إلى المكان الذي عمد فيه يوحنا المعمدان المسيح في الأردن الواقع على مسافة 130 ميلاً منذ خروجه من بحيرة طبريا، كما يقول، حيث يصادف وجوده هناك عيد الغطاس، ويصف المكان بأنه مرتفع محاط بدربزين، وهناك في الماء صليب خشبي مثبت في مكانه. وعلى الضفاف من كل جانب درجات رخامية تنزل إلى الماء. وأشار إلى وجود حشد كبير من الناس اجتمعوا منذ الفجر، ومع إشراق الصباح يبدأ الشمامسة بإقامة الأسرار المقدسة في الهواء الطلق؛ والتي تتضمن نزول الكاهن إلى النهر ليبارك الماء وسط ضوضاء المؤمنين الذين ينزلون إلى الماء للتعميد.
عند القبر المقدس
يمر أنطونيوس بأريحا في طريقه إلى القدس التي يزور قبل دخولها، بيت عنيا وجبل الزيتون والجسمانية وغيرها من أماكن الحج المعروفة المحيطة بها، ويصف لنا بوابة المدينة بأنها كانت تجاور “ما كان ذات يوم البوابة الجميلة للمعبد”، ولكن من غير المؤكد ما إذا دخل من البوابة الصغيرة بالقرب من البوابة الذهبية، أو بوابة أخرى إلى الشمال. ويبدو أنه قطع مسافة ما داخل المدينة قبل وصوله إلى كنيسة القيامة.
عند وصوله إلى القبر المقدس انحنى إلى الأرض وقبّلها وقال: “لا يمكن الآن تمييز لون الصخر المنحوت في صخرة الجلجثة، لأن الحجر نفسه مزين بالذهب والأحجار الكريمة. حجم القبر كبير مثل حجر الرحى. زخارفه لا تعد ولا تحصى. تتدلى منه قضبان حديدية تحيط به أساور، وسلاسل، وعقود، وتيجان، وأحزمة سيوف، وتيجان أباطرة مصنوعة من الذهب والأحجار الكريمة، وعدد كبير من الحلي التي قدمتها الإمبراطورات. القبر كله مغطى بالفضة، وثمة مذبح أمام القبر”.
وبعد أن يستطرد في وصف الأماكن المسيحية المقدسة بالتفصيل وقصة كل أثر يذكر معلومة مثيرة للاهتمام حول وجود درجات تؤدي إلى سلوان، حيث يضعها داخل سور المدينة. وهي معلومة غريبة إذ أن سلوان تقع اليوم خارج سور القدس. بعد ذلك يصف بشيء من الإسهاب كنائس جبل صهيون والقديسة مريم والقديسة صوفيا داخل الحرم الحالي. ويشير إلى هاتين الكنيستين الأخيرتين كمبان منفصلة، ولكن في مكان آخر يشير إلى أنهما تقعان في مجمع واحد مع كنيسة القديس بطرس.
لغز الصخرة!
ومن الأشياء المثيرة في هذه الرحلة إشارته إلى الصخرة المقدسة في كنيسة القديسة صوفيا المبنية في عصر جستنيان، والتي لا أثر لها اليوم، وهو موضوع خصص له البروفيسور الألماني جون نيبوموك سيب في العام 1923 بحثاً مستقلاً بعنوان: “قبة الصخرة هي كنيسة صوفيا جستنيان”.
ومن القدس يتوجه أنطونيوس لزيارة بيت لحم التي تبعد عن القدس ثلاثة أميال كما يقول، مؤكداً أنها مكان رائع. ويزور الكهف الذي ولد فيه يسوع. ويقول إن فيه مذودا مزينا بالذهب والفضة ومصابيح مضاءة هناك ليلا ونهارا. ومن هناك يتوجه إلى موقع بلوط ممرا، أي مدينة الخليل، حيث يزور قبور إبراهيم وإسحق ويعقوب وسارة، ويلفت إلى وجود عظام يوسف. ويقول إنه شاهد كنيسة بازيليكية مبنية بأربعة أروقة حيث يدخل المسيحيون من جهة واليهود من جهة أخرى حيث شاهد اليهود وهم يحرقون الكثير من البخور.
بعد ذلك يتوجه أنطونيوس إلى عسقلان ثم غزة ثم الخلصة (إيلوسا)، ويعبر صحراء سيناء حيث يقول: “رحلنا في الصحراء لمدة ستة أيام مع الجمال التي تحمل المياه لنا. استلم كل واحد منا لتراً ونصف اللتر من الماء كل صباح وكل مساء. وبينما أصبح الماء مرّاً في جلد الماء، وضعنا الرمل فيه، فأصبح حلواً. جاءت عائلات السراسنة (الأعراب) وزوجاتهم من الصحراء.. وجاء أزواجهن حاملين جلود الماء البارد من باطن الصحراء وأعطوها لنا مقابل الخبز. جلبوا أيضا حبالاً من الجذور، التي كانت رائحتها ألذ من كل الروائح. ولم يكن لديهم الإذن للقيام بذلك، لأنه تم وضع حظر عليهم، وكانوا يحتفلون بمهرجان. كان عدد الناس الذين دخلوا الصحراء الكبرى اثني عشر ألفاً. في اليوم الثامن.. جئنا إلى جبل الله ، حوريب”.
عيد للعرب الوثنيين
يصف لنا احتفالاً دينياً كبيراً للسراسنة (البدو) الوثنيين، يبدو أنه عيد مرتبط بالقمر كما يقول وقد وصفه لنا بقوله: “هنا عدد كبير من الرهبان والنساك! الذين يحملون الصلبان وهم ينشدون المزامير، جاؤوا لمقابلتنا وارتموا على الأرض أمامنا وكذلك فعلنا ونحن نذرف الدموع.. الدير محاط بجدران، وفيه ثلاثة من رؤساء الدير يتحدثون باللاتينية واليونانية والسريانية والمصرية والفارسية وهناك العديد من المترجمين لكل لغة.. يصعد الرهبان إلى الجبل ويؤدون طقوس الخضوع ويقصون لحاهم وشعورهم ويرمونها بعيداً وهناك قصصت لحيتي أيضاً. يقولون إن حوريب يعني ‘الأرض الطاهرة’.. في مكان على الجبل، وضع السراسنة (الأعراب) صخرة رخامية خاصة بهم ، بيضاء مثل الثلج.. هناك، أيضا، يسكن كهنة لهم، يرتدون الثياب البيضاء الطويلة والطيلسنات المصنوعة من الكتان. عندما يحين موعد بدء الاحتفال، بمجرد أن يرتفع القمر، وقبل أن تغادر أشعته من المكان، يبدأ الرخام في تغيير لونه؛ وحالما تدخل أشعة القمر، تبدأ طقوس العبادة ويصبح الرخام أسود كالقار. عندما ينتهي وقت العيد، يعود إلى لونه الأصلي، لقد سبب لنا ذلك شيئاً عظيماً من التعجب”.
ويبدو أن أنطونيوس قد وصل فيما بعد إلى بابيلون (القاهرة) قبل أن يصعد إلى الإسكندرية التي يقول إنها مدينة رائعة غير أن شعبها تافه جداً رغم حبه للحجاج. مشيراً على وجود هرطقات كثيرة فيها. ويخبرنا أنه عاد إلى القدس مرة أخرى، وزار يافا ثم مدينة قيصرية التي يخلط بينها وبين قيصرية فيليبي في الجولان والتي تعرف باسم بانياس. ومن هناك صعد عبر الجليل وأتى إلى دمشق وسار في الطريق المستقيم قبل أن يتوجه إلى هليوبوليس (بعلبك) ثم إيميسا (حمص)، حيث يوجد رأس يوحنا المعمدان في جرة زجاجية، كما يقول، مؤكداً أنه رأى الجمجمة في داخل الجرة المذكورة. ومن ثم عبر مدن لاريسا (شيزر) وأريثوزا (الرستن) وإبيفانيا (حماة)، وصولاً إلى أروع مدينة وهي أفاميا، حيث يسكن جميع نبلاء سوريا، كما يقول.
بعد ذلك يتوجه إلى أنطاكيا الكبرى، ومن هناك إلى مدينة خالكيس (قنسرين)، ثم مدينة كارهاي (حران) حيث ولد إبراهيم؛ كما يقول، ومنها نزل إلى مدينة بربليسوس (بالس) ومن هناك زار مدينة سورا (الحلة)، التي يمر في وسطها نهر الفرات، ثم يزور قبر القديس سيرجيوس المحاط بالسراسنة (الأعراب) قبل أن يعود عبر البحر إلى مدينته بياسينزا.