راهبة الزمان الجاحد
أشعر بسعادة مطلقة لما أتمشى أو أدور في أمكنة تفتحت عليها عيون كاتبة من طراز نادر مثل لطفية الدليمي، ذلك الأرشيف الإيكولوجي الهائل الذي يحيطه نهران نزقان يتلويان ما بين بساتين نخيل وليمون وأزقة مدينة صغيرة تفتحت توّاً بعد نهايات الحرب العالمية الثانية على آفاق جديدة، وأفكار عنيدة تحاول أن تتوغل بمثابرة الجذور وعنادها في أرض بكر لمّا تزل تطرق أديمها الفطرة والطيبة والثقافة الشفوية.
في ذلك الزمان وتلك الأرض كان لوالدها العم سهيل مكتبة في بستان، والعبارة ليست من مجازات الشعر، بل هي مكتبة حقيقية في كوخ داخل بستان، هكذا أخبرني رواة الأحاديث، وربما كانت الصبية لطفية أول ما اكتشفت تلك العلاقة بين الفكرة والشجرة، بين الطبيعة الخالدة والكلمة الخالدة؛ فهي كما تذكر في سيرتها الأدبية صبية دخلت مكتبةً منذ التاسعة من عمرها، وظلت حتى الساعة تصغي وتحاور بفكرها أفكار صنّاع الفكر في هذا العالم منذ ألف ليلة وليلة حتى ستيفن هوكنغ.
لم تشغل لطفية نفسها بتلك الصراعات، والصرعات الأدبية، والسجالات الخلافية في أزمنة صار ذلك فيه كل هاجس المثقف، ولَم تسعَ إلى وقفة تحت ضوء ساطع. كانت على الدوام تطل بتلك الهيئة الرهبانية: سيدة جميلة تجلس في مكتبتها مفتوحة النوافذ على فردوس عراقي يمتد في الزمان والمكان، تقرأ وتتأمل وتكتب بطريقة لا تدين بمرجعية لغير ذاتها. كل فكر في هذا العالم قابل للمحاورة في مرجعية لطفية الذاتية؛ فهي لم ترهن أفقها المعرفي في حدود التجربة الأدبية ومشاغلها، بل سَعى فضولها المعرفي بعيداً إلى علوم لا يقربها جلّ المشتغلين بالأدب. لطفية تحاور أهل العلوم النظرية الصرفة، وتحاول مقاربة القوانين الصارمة فيها بحواف الأساطير المائعة، وتتبحّر في أوابد الموسيقى لتعيد صياغة الأفكار على سياقها، وتتمعّن في حفريات التشكيل والنحت العريق لتستجلي فكرةً إنسانيةً تؤكد من خلالها وحدة الوجود والموجود.
قد يبدو هذا الطواف الموسوعي في مختلف مظان الإبداع نوعاً من التشتت لمن لا يقرأ لطفية بتحديق عميق؛ أما المتأمل في ما تدوّن من إبداع أصيل، أو إنتاج ترجمي أو مقالي فإنه سيرى ذلك الخيط السرّي الذي يجمع الأشتات: إنه خيط السنارة الذي يهبط في طبقات الأمواج المتراكمة ليبحث عن تلك السمكة الفضية، سمكة الأمل الإنساني لأشخاص مستوحدين يتأملون هذه المحن التي يصنعها البشر ولا يقنطون.
لأجل ذلك كتبت لطفية، وأجادت في كل الأشكال الأدبية من قصة قصيرة ورواية ومسرح وتأملات ومناجيات وتذكارات وأدب رحلات ومقالات علمية، وترجمت نوادر الكتب التي تشاكل عقلها الفضولي، تلك التي تطرح الأسئلة الغريبة عن العلاقة بين صرامة العلم ورهافة الأدب؛ فهي في كل ما أبدعت أو ترجمت كانت تسعى خلف الأسئلة المرهقة التي يتجنبها الآخرون، وللمناسبة فإن ما تترجمه لطفية يشكل لذاته نسيجاً إبداعياً يحمل نفَس إبداعها السردي من جهة الأناقة في نحت العبارة والسلاسة في إظهار معانيها.
أزعم أن الحياة لم تكن منصفةً مع لطفية في أمور كثيرة؛ ففي عصور الجحود لم يمنحها وطنها ما يكافئ جهدها الإبداعي الثرّ، بل إنها وجدت نفسها في لحظة من لحظات الزمان الملتبس مقتَلعةً من بيتها الذي أسسته بجهد سنين طوال، وربما صار البيت وحدائقه التي تحب نهباً للغوغاء لتحيا بعدها مضطرةً في مدن بعيدة، وما تباكت لطفية على كل ذاك، كل ما فعلته أنها أسست من الكتب بيتاً بديلاً؛ فضاعفت لأجل تعويض المنزل الأول من جهدها الإبداعي كتابةً وترجمةً، وجعلت كل يوم من أيامها تجربةً جديدةً في الإبداع، وربما يكون هذا واحداً من أسرار الغزارة الإنتاجية الأصيلة التي تتمتع بها، حتى أنها لتبدو راهبةً في ديرٍ كلُّ جدرانه مكتبات، وكل أرضياته أمكنة للكتابة، ولا أظن أن يوماً واحداً يمرّ في عمرها دون تدوين فكرة أصيلة أو ترجمة فكر خلّاق.
كنت دائماً ما أردّد أن لطفية صانعةُ جمال عميق، ذلك الجمال الذي يتشكّل من طبقات تحتاج لمسحٍ جيولوجي لتسبر كلّ مفاتنه؛ فخلف كل سطر تدوّنه هنالك ظلال سطور ينبغي أن تلحظها محفورةً في آثار تلك السطور. إنني أشبّه مجمل إبداعها بابتسامتها الساحرة المشرقة أبداً، تلك الابتسامة التي لا تنتهي بمغادرة الصورة؛ فهي تظل تطارد بإشراقها الناظرَ حتى يرى أبعد مما رأى. أرى سحر ابتسامة لطفية في كل سطر قرأته لها، لا أراه بالفتنة وحدها، بل بالإشراق أيضاً. ليس غريباً أن يكون ملمحٌ من كاتبٍ ما مفتاحَ إبداعه، هكذا أنظر إلى كبار الكتّاب دوماً فأجد في كلٍّ منهم ملمحاً فيه يفسّره، وربما كانت ابتسامة لطفية الساحرة هي ذلك الملمح الذي يفسّر ذلك الضوء المتفجر بين سطورها، ويخيّل إليّ في كثير من الأحيان أنها ظلُّ أميرةٍ سومريةٍ ظلّت مبتسمةً منذ الألف الخامس قبل الميلاد رغم كل غزوات الهمج التي تواترت على ممالكها، وربما يكون ذلك هو السر الذي جعل من لطفية لا تلتفت أبداً للأضواء، وربما تكون مكتفيةً بذلك الضوء المنبعث على ابتسامتها من براكين عقلٍ متّقدٍ لا يركن مطلقاً لفكرة الخمود.
إنها تبتسم ولا تتكلم، تتأمل وتكتب، تصغي وتكتب، وكأن الكلام لا يعني عندها غير ذلك الحرف المكتوب ، والعجيب أنها لا تكرر ما تكتب؛ فهي في جِدةٍ دائبة دائمة وكأن الأفكار الأصيلة تتوالد عندها من تلك المكتبة البعيدة في ذلك الفردوس الذي ولدت فيه، حيث الشجرة والكتاب، الحرف والثمرة، المداد والنسغ، كلها في تناغم وتواصل يديمان وحدة الإبداع والكينونة.