رباعية هيلن
I
المركب الطروادي في البحر السوري
مَنْ منكما كانتْ في اسبارطة؟
أنتِ أم شبيهتكِ،
وتلك المراهقةُ التي ظَهرتْ على سلَّم من الغيمِ في بيتِ منلاوس
أيُّ امرأةٍ كانتْ لتقولَ لبارس: أنا أحقُّ بالتفاحةِ؟
***
ولو الواحدة منكما وقفتْ في جوارِ الأُخرى
هنا أو هناكَ
في مصرَ، أو في صيدون،
وحتى في اسبارطة المنكَّسة البيارق حيثُ وقعتِ الواقعةُ،
كيفَ يُمكنُ لشبيهةٍ بكِ أنْ تكون؟
***
مَنْ منكما أَهْدَتْ ظلَّها لرُخامِ الردهةِ
وفي نورِ التفاتتها، في نظرةِ العينِ مستطلعةً الخطوةَ
ومنتظرةً تفاحةَ العاشقِ،
تأَلَّق الشَّغَفُ، وهامت الشغافُ؟
***
وعندما هَبَّتْ الرّيحُ، ونُشِرتْ القلوعُ، وتوارى السَّاحلُ الإغريقيُّ وراء السّاحلِ السُّوري،
بَعْدَ ليلٍ أُخرِجَ مِن ليلٍ، ونهارٍ مبهورٍ راحَ يَتمرأى في طلعةِ نهارٍ،
مَنْ رأَى الشّعرى اليمانية تباري القرين بوهج لآلئها،
وتسلسُ الموجَ للربانِ الطرواديّ ومركبِهِ المحفوفِ بأنوارِ الشقيقاتِ السَّبعِ..
كنتِ مغمضةً على ذراعِ المراهقِ تحتَ نجمةِ الصّبحِ.
***
مَنْ منكما، قطَّرتْ في نحرها طيباً،
ظفارياً
ورفلتْ في أرجوانٍ دمشقيٍّ،
ولم تعبأ بالأمواجِ العاتيةِ ولا بصرخاتِ البحارةِ
وهي تتكىءُ بمِرفقها على الدِّمَقْسِ
بدلالٍ
لتضيءَ رحلةَ المركبِ الطرواديِّ في البحرِ السوري.
***
وفي العاصفةِ تصفعُ الأشرعةَ وتحملُ البحارةَ على الهذيانِ
مَنْ منكما تضرَّعتْ لبوصيدون،
وعندما وطأتْ بقدمها اللطيفةِ أرضَ الميناءِ
مَنْ منكما تنزهتْ على الشاطىءِ وهتفتْ: يا لها من مدينةٍ!
***
مَنْ منكما، من منكما أعطتْ مرفقها لذراعِ العاشقِ
وتخطَّرَتْ في أسواقِ صيدا،
وفي بستانِ بعل شْمون
تمنَّتْ
وهي تنظرُ كرسيّ عشتار،
مبهورةَ الأنفاسِ،
مِنَ الحبِّ
لو أنَّ أبولو لم يبصر النورَ في الأولمبِ،
ولكن هنا، على صفحةِ هذا الماءِ المتلألىءِ المسبِّحِ باسم بوصيدون،
فلا تبقى أفروديت وحيدةً في عسقلان!
***
مَنْ منكما كانت هيلن، عندما لم تكن الأُخرى سوى وهمِ صورةٍ،
آيةٍ من جمالٍ مراهقٍ
لاحَ في خيالِ ربَّةٍ ضجرةٍ
اتكأتْ هي الأخرى على أريكةٍ تحتَ كوكبِ الزهرةِ،
ولم يكن لها نظيرٌ بين ساكناتِ الأولمبِ،
وقالتْ لنفسها: لنجرِّب هذه اللعبة.
***
والآن، ومن ورائكِ النيلُ، والهلالُ يرمقكِ، حزينةً تقفينَ في المرآةِ،
وتهمسينَ للأُخرى:
هل أنتِ أنا وأنا لا أحد؟
***
لم يكن سواكِ هناكَ،
لم يكن هناكَ
في مصرَ
سواكِ
ومعصمكِ المراهقُ يبهرُ ديباجَ الأريكةِ
لأن ما من قادرٍ على خلقِ جَمالٍ آخر يشبهُ جَمالكِ،
سوى ذلك المنشد الأَعمى
وجمالكِ الضوءُ.
II
دموع إيفجينيا
لمَّا سَكَنَ الهواءُ، وتهدَّلت الأَشرعةُ،
شَعَرَ القباطنةُ بالقلقِ،
وفي مضيقِ أوليس تلفَّتَ الجميعُ جهةَ الجبلِ،
في
انتظارِ
الإشارةِ..
إذْ ذاكَ ظهرتْ إفجينيا
وقدمُها العذراء
غافلةً
عما كانوا يترقَّبون..
وعندما سمعَ المنشدونَ العميُ المصطفونَ على الشاطىء
كلماتٍ غامضةٍ تلعنُ الجمالَ الطاغي..
رأتْ كلوتمينسترا في محاجرهم الغائرة دموعاً لا مرئيَّة
وسمعتْ همسَ فتياتٍ صغيراتٍ
يتساءلنَ:
لم ينبغي على إيفجينيا أن تتقدَّمَ على الجُرفِ، ولِم على المراكب الألف أن تبحر؟
***
الحماسيونَ المتجمهرونَ،
لمْ يَتَساءَلوا
لماذا ينبغي أن تحتشدَ في هذا المضيقِ كلُّ هذهِ السفن، وتُرفع الأَشرعة..
ولأجلِ أيّ أمرٍ خطيرٍ تقاطرَ كلُّ هؤلاءِ الرجالِ بالسيوفِ والدروعِ وآلاتِ الحصارِ؟
ولمَ يتوجَّبُ على كلِّ هذه المراكب، أَصلاً، أنْ تغادرَ هذا المضيق؟
لم يُتْرَك لأحدٍ أن يفكِّرَ بمَ سيرجعُ الرُّسُلُ غداً من أرضِ المعركةِ،
لأنَّ الكرامةَ، كما قالَ الخُطباءُ،
تقتضي
أنْ يُلَقِّنَ الإغريقُ الطرواديينَ الدَّرْسَ الذي يستحقون.
***
الصيادونَ والمزارعونَ والرياضيونَ ومعلمو الصبيةِ الرزينونَ الذينَ تركوا أعمالهم وهُرعوا إلى المراكبِ، قالوا إنّ العارَ سيغمرُ الإغريقَ، لأنَّ رجلاً من طروادةَ أَغوى امرأةَ رجلٍ من اسبرطةَ.
استبدلوا الشباكَ والمناجلَ والمطارقَ وألواحَ الكتابةِ بالأقواسِ والسهامِ،
والنساءَ المفجوعاتِ بأحلامِ البطولةِ...
كيفَ أَمْكَنَ لامرأةٍ صغيرةٍ
امرأةٍ جَنَّنَها قَلْبُها أنْ تُضرمَ النارَ في شرايينِ كلِّ هؤلاءِ الرجال؟
أَنْ تَجْمَعَ الصناديدَ من كلِّ مملكةٍ وجزيرةٍ
وتحشرهم في هذا الخليجِ الضَيِّقِ؟
حتى لكأنَّ الإغريقَ جميعهمُ ناموا في ليلةٍ،
واستيقظوا،
ورأوا في قَدَمِ امرأةٍ طائشةٍ
الأرضَ والسماءَ والحدائقَ المعلّقة.
المراكبُ تنتظرُ، دماءُ الأبطالِ تَفُورُ..
والغسقُ يرمقُ الراياتِ..
ولا هواءَ..
لا هواء..
ولمَّا طالَ الوقتُ،
سألت الجوقةُ ما إذا كانتِ الآلهةُ راضيةً، حقاً، عن كلِّ هذهِ القصة،
أَمْ أنَّها لنْ ترسلِ الرِّيحَ إلى الأشرعةِ،
قبلَ أنْ تقبضَ لقاءَ كلِّ قطرةٍ ستهرقُ منْ دماءِ الأبطالِ
تحتَ أسوارِ طروادةَ:
دمَ
عذراءٍ
في
جرَّةٍ!
كلُّ من سَمِعَ كلوتمنسترا، وهي تلعنُ جمالَ هيلين،
هاتفةً بأجاممنون: لنْ أَسْمَحَ لكَ بهذا.. لنْ أَسْمَحَ لكَ!
عَرَفَ أَنَّ الدَّمَ سيُهرقَ، والرِّيحَ ستهبُّ، والمراكبَ ستبحرُ
قاصدةً
طروادةَ
لأَنَّ الحُبَّ والحَرْبَ مراهقانِ دمويانِ.
أُمِّي،
أُمِّي
خُذْي دُموعيَ واذْرُفيها عَلَيَّ
لأَن لَيسَ مُقَدِّراً لِيَ أَنْ أَبْكي نَفْسي.
III
هيلن في كرسي عشتار
هلْ يليقُ بأُخرى غيريَ، هذا الكُرسي المُجَنَّحُ،
أنا ابْنَةُ ليدا المتحدِّرةُ من سلالةِ إغريقيينَ سَرَتْ في دمائِهمُ كواكبُ الشَّرقِ!
هلْ يليقُ بواحدةٍ أُخرى غيريَ، أَنْ تُبْهِرَ الناظرينَ بجلستها التَّرِفَةِ
حيثُ جلستْ عشتار؟
ولدتُ تحتَ بُرْجِ الحَيْرةِ، في ضوءِ كوكبةِ العَذراءِ،
وبعينيَّ الهائمتينِ رَمَقْتُ الجَمال وسمعتُ خَبْطَ أَجْنِحَةٍ
ولمّا تساقطت النجومُ في الحقلِ رأَيْتُ نجمتي تسافرُ صُحْبَةَ عطارد،
وعُشّاقيَ الأَحَدَ عَشَرَ
بينَ صَريعٍ في الحُبِّ وصَريعٍ في الحَربِ.
هلْ يليقُ بواحدةٍ أخرى غيري هذا الكرسيِّ المُجَنَّح في صيدا،
أنا المرأةُ التي اختطفتْ السُّنبلةَ من هواءِ الحَقْلِ..
تحتَ شُرفتي مَرَّ الأَبطالُ إلى مصارعهم؛ ثيسيوس ومينيلاوس، ودوفيوس، وهيلينوس، وأخيلوس، وإنارسفوروس، وايدياس، ولينسيوس، وكوريثوس، وثيوكليمينوس،
ولمّا وضعتُ قَدَمِي في مركبِ بارس.
رأَيتُ النَّار تشتعلُ في الماءِ،
وتحتَ أسوارِ طروادةَ نَزَفَتْ كواكبيَ الأَحَدَ عَشَرَ
دماءَها..
وبشظايا أنوارها
تلاطمت أمواجُ صُوْرَ بمركبيَ النَّشوان
حتّى إذا ما وطأتْ قَدَمِي أرضَ سوريا أدركتُ أَنَّ لا واحدة أَخرى يَلِيقُ بها كُرْسيِّ عشتار.
IV
أنشودة هيلن في مصر
أَأَنا إذنْ حَفْنَةٌ مِنْ جَمال إغريقيٍّ شَريرٍ
أَمْ وجْهٌ هائمٌ على صفحةِ الضّوءِ تُفَرِّقُهُ ضَرْبَةُ مجذافٍ في الليلِ؟
وهذا الهلالُ الذي يَرْمُقُني،
بأَسى،
من يكون،
أَهُو إلهٌ شَرْقِيٌّ حزينٌ
أمْ هو أَبولو مُتَنَكِّراً يقتفي أَثَري في مِصْرَ؟
أَيْنَ كان المُحاربُ السبارطيُّ عندما سَقَطَتْ التُّفاحَةُ في راحَتى
ووصَلَ العاشِقُ إلى ستارةِ الشُّرفةِ؟
لنسأَل أَبولو أَيَّهما أَسْبقُ،
نَهْضَةُ الحصانِ نحو أسوارِ طروادة،
أَمْ وصولُ الفتى الطرواديّ إلى شُرفَةِ هيلن؟
***
في البهو، أراكَ الآنَ، منلاوس، راجعاً مِنْ أُمّ المَقْتَلاتِ،
بسحنةِ الخائبِ ودرعِ المُنْتَصِرِ
سرابٌ يستقبلهُ صَفَّانِ مِنْ أكباشِ آمون
نظرتُكَ النَّدْبةُ المُتَحَجِّرَةُ،
جُرْحُ الإغريقِ
المكتوي بلظى السيوفِ، ونحيبِ الأراملِ ونارِ العَمائرِ المُحْتَرقةِ.
نَظْرَتُكَ المُنْتَصِرَةُ،
حِصانُك المراوغُ القلعةَ في الحربِ،
والفشلُ الذريعُ في الوصولِ خفيفاً إلى حُجْرَةِ المرأَةِ،
لأنَّ طيش الفؤادِ الأَخفَّ من نسمةٍ أقوى من الممالكِ وأَمضى من الّلهبِ.
***
لو كانَ تاهَ معي في الغُرفِ، لو كان استَبَقَ هناك معي على استُبْرقٍ وحريرٍ وفي كسورِ الأَشعَّةِ، رَهَجَ منه القلبُ، وتاهَ في المرايا، لو كان رأى صورَتَه ضاحكةً على الرخام..
لو كانَ رأَى ما رأَيتُ،
لو كانَ عَرَفَ ما عَرَفْتُ!
فلورنسة / لندن مابين أواسط أيار وأوائل تموز 2021
والرباعية فصل في كتاب "الالواح الشرقية" قيد النشر.