رجل الصوت والصدى

الاثنين 2021/03/01
لوحة خالد تكريتي

(1)

صديقنا الذي عرفناه كان شغوفاً بقصة الصوت والصدى. عرفناه في الزمن الجميل. كان الصوت حبه للحياة، أما الصدى فحبها له.

صديقنا الشغوف بالصوت والصدى كانت تغريه الوديان العميقة. يذهب إليها طائرا، يحط في قلبها عاشقا، يغني ملء صوته وقلبه ويصغي للصدى. كان يترك لنا رسائل “أنا ذاهب هل تأتون معي؟” نذهب أو لا نذهبُ. هو ذاهب، ولا يغضب. نرافقه أحيانا، ونرفض في كثير من الأحيان الهبوط معه إلى بطن الوادي. نراقبه من علٍ وهو يفتح جناحيه للريح، تملأ صدره وقميصه، وتحمل صوته العالي والعاري إلى جدران الوادي.

 يردّد الوادي كلامه وغناءه، ويعيده إليه، إلينا. يضحك، نضحك ونودّ لو نبكي أحيانا، نفكر ما الذي يفعله صديقنا المجنون وهو يعبث بصوته وينصت للصدى. نذهب أو لا نذهب. لا يغضب صديقنا العاشق أبدا، وفي أحيان كثيرة جدا كنا لا نذهب، فيذهب وحده. وحين يعود يعود ملآنا بالريح والروح. يحكي لنا عن مغامرة فاتتنا، وعن حكاية جديدة لو حضرناها لكنا كتبنا شيئا جديدا، مختلفا. نحن الوجه الآخر لصديقنا الشغوف. نحن المصلوبون على حائط الزمان والمكان والظروف، ولا يلومنا ولا يغضب، بل في كل مرة يعود ولنا في قلبه نصيب من الحب أكبر، ورسائل يتركها لنا في هواتفنا، تكثر.

في الرحلة الأخيرة، التي لم نكُ فيها مثل مرات كثيرة، عاد صاحبنا ولم يمرّ بنا ليحدثنا كعادته عن تلك الرحلة، لم يكتب لنا رسالة أدبية يصف فيها رحلته. افتقدناه وتساءلنا عن سر ذاك الغياب.

رفعت سماعة هاتفي، ناديته مرة أولى، ثانية، ثالثة. كانت أنفاسه مسموعة، لكنه لم ينبس بكلمة. صحت بعلو صوتي “ماذا حصل؟” أغلق هاتفه، ثم بعد هنيهة وبينما كنت أحاول تكرار الاتصال به وصلتني منه رسالة “اكتب لي، لقد سلبتني جنيات الوادي صوتي”.

هذه المرة عاد صديقنا الشغوف بالصوت والصدى. عاد كأن لم يعد، لا صوت، فهل من صدى؟

(2)

لا أدري ما الذي رأيته ليلة أمس. ذلك الذي رأيته بينما أنا مستلقية على الأريكة بعينين نصف مفتوحتين. كنت أرى كل شيء بوضوح حولي، ولم يفزعني من بداية المشهد شيء. كنت أرى الطاولة وعليها المزهرية المصنوعة من جذع شجرة، والتي حفرت عليها أنامل الفنان خطوطا متعرجة. كنت أرى الأريكة المنفردة تجلس قبالتي بصمت مهيب، وأرى السجادة التي حصلت عليها هدية عندما اشتريت ذلك المنزل الذي لم يعد منزلي. وقبالتي كان هناك موزع يفضي يمينا وشمالا إلى غرفَتي النوم.

 أما التي على الشمال فهناك ينام فلذات كبدي، منزوعي الغطاء بإرادتهم، لأن الجوّ الحار لم يترك لأحد فرصة الاحتفاظ بغطائه. أما الغرفة الأخرى فلقد خرجت منها قبل قليل هاربةً من عدم قدرتي على النوم، وبينهما تماما هناك باب يفضي إلى الحمام. كان نظري مستقرا هناك لأنها النقطة المقابلة لي تماما، فلو رسمنا خطا من حيث كنت مستلقية إلى ذلك المكان لتبين بوضوح لا شك فيه أنها النقطة المقابلة لي تماما. وهناك وقف ذلك الشيء. لم يكن بشرا، لم يكن جسدا، كان كائنا أسود لا شكل له. أعطاني ظهره، ولبث هناك زمنا. جمّد كل مشاعري، ولم يُبق لي سوى الهلع.

وفجأة تحرك بالاتجاه الآخر، هناك كنت أعرف التفاصيل جيدا، لكنني أكاد لا أرى منها شيئا. هناك كانت تقف خزانة وضعت فيها بعض الأدوات المنزلية الثمينة، ومن الناحية الأخرى يتسمّر مبرّد الماء، وفي وسطه نقطة خضراء مضيئة تقول للرائي أن الماء بارد وبوسعك أن تشرب. وهناك باب تُرك مفتوحا طوال الوقت لأنه باب يشير إلى الجهة الغربية، جهة الهواء. أعرف كل شيء هناك، ولا أرى شيئا. وقف الشيء الأسود هناك وفقا لإحساسي. فكرت أنه سيخرج، وكنت أريد أن أُلحقه بصرخة تنهي كل ذلك الخوف وكأنني أُلقي جرة خلفه، لكنه – ولا أدري لماذا – ربما كان خائفا أكثر مني، وربما أراد أن يقول لي إنه جزء مني.

 فما إن شعرت باقتراب صوتي من حنجرتي متأهبا للخروج حتى دخل في صوتي، وخرج مني صوت لم أعرفه يوما. لم يكن ذلك الصوت صوتي، كان صوتا غليظا يشبه صوت رجل فقد أعز ما لديه، فاختار لنفسه مكانا بعيدا عن كل شيء، وراح يجعر. هل كان ذلك حزني يجعر أم أنني أنا من كان يجعر؟ ظل هكذا يحدث حتى سقط المشهد الحقيقي من أمامي، ولم يبق سوى ظل الخوف متمثلا في صمتي وعدم قدرتي على الحراك. سأصمت لأنني أخشى أنه لا يزال قابعا في حنجرتي، وأنني لو تكلمت سينفضح أمري.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.