رحلة آدم من السّماء إلى الأرض
في الوقت الذي ينشغل فيه المترجمون والقراء، في أكثر من بلد، برواية “خليل” التي أصدرها سنة 2018، يخرج الرّوائي الجزائري ياسمينة خضرا برواية جديدة عنونها ﺑ”ملح النسيان”، صدرت عن داري جوليار (فرنسا) والقصبة (الجزائر). خضرا أو محمد مولسهول الكاتب غزير الإنتاج والمحب للسينما يرتحل بالقارئ، في روايته الأخيرة (2020)، داخل مغامرة جديدة في قطيعة تامة مع الرواية التي سبقتها والتي تمحورت حول الوجه الأحدث للإرهاب الذي يضرب أوروبا.
"ملح النسيان" تروي رحلة آدم الإنسان، وربما رواية كل الإنسان بحثا عن إنسانيته ونفسه، اعتمادا على الشخصية النقيضة للبطل التقليدي، مستلهما عدة عناصر ميثولوجية وفنتازية لتأثيث سرده، تاركا باب الرواية مفتوحا على القراءة والتأويل.
في الميثولوجيا
“ملح النسيان” بطلها معلم اسمه “آدم نايت قاسم”، تقرر زوجته هجره للارتباط بشخص آخر، ومن هنا يقرر آدم أن يهجر حياته بحثا عن نفسه ومعنى لحياته. أحداث الرواية تدور في ربيع 1963، في جزائر استقلت بالكاد. إن أحد أهم العناصر التي وظفها خضرا باقتدار هو الميثولوجيا. لم يكن اختيار اسم “آدم” للشخصية الرئيسية عبثا، فقد وظف الروائي أسطورة الخلق بطريقة مميّزة لرحلة بحث آدم الإنسان عن نفسه كما يقول على لسان شخصيته الرئيسية وهي تحاور نادلا في مقهى “الذي أبحث عنه يسكن هنا في الداخل… رد آدم بعصبية وهو ينقر رأسه بأصبعه”. لم تفلح كل محاولات المعلم في استعادة “دلال” زوجته وحوائه، ليقرر تطليق حياة الرفاهية (جنته) وهو المعلم المحبوب والمحترم لصالح البحث عن ذاته (النزول إلى الأرض)، وإغراق حزنه في المشروب والعربدة بحثا عن معنى لحياته. لم يكن الربّ في رواية خضرا سوى إرادة آدم الإنسان ذاته. تنطلق مغامرة البطل الحياتية من سهول المتيجة، شمال الجزائر، التي تعرف فيها على زوجته السابقة، مبتعدا عن كل ما يشده نحو ذكرياتهما معا، زاعما متابعة رحلته في الهيام على وجهه والتسكع. مغامرات المعلم السابق تجعله يخوض عدة تجارب فريدة، تكون أولها المرور على مصحة عقلية، ليدق أبواب عوالم الجنون التي لن يطيل في الوقوع في حبالها. لا يختلف آدم عن الإنسان الأول، في سنّة البحث الدائم عن قضايا الحياة والتملك. آدم نايت قاسم كآدم الأول كلاهما بطلان بالصدفة، بطلا حزن، مغلوبان على أمرهما، يوجد دائم من يتحمل وزر خياراتهما.
ملح النسيان
رواية خضرا تتخذ من النسيان ثيمة أساسية لها. آدم الذي تصور نفسه بطلا خارقا قادرا على الانسلاخ من عباءة حزنه، من خلال السير على درب المجهول، تغافل عن كونه مجرد إنسان، كلما فكر أنه أقوى من الحياة صادف مواقف تعيده إلى هشاشته. النسيان هو ملح الحياة بالنسبة إلى خضرا، فشخصية “بلعيد” مثلا (شخصية ثانوية في الرواية) لم يتجاوز جنونه إلا حين فقد ذاكرته. يعد عنوان الرواية لازمة لها أيضا تتكرر على لسان الكثير من الشخصيات الثانوية والرئيسية، انطلاقا من عازف العود الذي كرر على مسامع آدم الكلمات التالية:
إذا خذلك عالمك، اعلم أن في الحياة عوالم أخرى.
جفّف البحر وسر على ملح النّسيان
جفّف البحر وسر لا تتوقف أبدا
واعهد برغباتك لخطاك
وصولا إلى العود الذي يعزف حول “آدم” وهو يغرق:
“جفف البحر وسر، لا تتوقف أبدا، همس الريح للأشجار”.
تتفنن الشخصيات في تقديم النصح والمعونة لآدم الذي يتنكر لجميعها، مشدّدا على تفرّد تجربته، يتفنن في أذية نفسه، ضاربا سورا عازلا حول نفسه. محنة آدم هي محنة الإنسان المعاصر خصوصا، وحيدا، معتدّا بنفسه وقدراته لدرجة يغفل فيها عن هشاشته.
عوالم عجائبية
لا يمكن لقارئ “ملح النسيان” ألا يتوقف عند اللمسة الفنتازية التي وسم بها مولسهول نصه. قصة السيد “نايت قاسم” واقعية جدا، قد تكون قصة حياة أيّ شخص في ظروف بعل “دلال” السابق، لكن مغامرات المعلم المستقيل لفتها الكثير من العجائبية، انطلاقا من شخصيات نصه مثل “ميشال” أو “ميكا” الأشبه بالجنّ الحارس، كلّما اقتنع القارئ بأنه اختفى إلا ويعود للظهور من جديد، بتفسير منطقي وواقعي. رفيق السيد “آدم” الذي فرض نفسه عنوة عاش ظروفا غاية في القسوة، منذ ولد في جسد “قزم” إلى اختياره الحياة البرية وحيدا. صوّر خضرا بكلماته ديكورات حياة “آدم نايت قاسم”، التي ساهمت هي الأخرى في تضخيم البعد العجائبي لروايته، يدور الجزء الأكبر منها في غابات وجبال، كانت مسرحا لمعارك الثورة الجزائرية منذ فترة غير بعيدة. عجائبية نص الروائي الجزائري تستمر إلى غاية النهاية المفتوحة التي اختارها، وقد رمى بشك كبير إلى قلب القارئ في أن يكون كل ما قرأه مجرد رواية أخرى لا يعدو “آدم” إلا قارئا لها.
عالم شبه رجاليّ
السبب في نكسة “آدم نايت قاسم” هو “دلال” حبّ حياته، وما يقوده إلى الجنون تماما أو الموت هو حب “آخر (أو ذلك ما خيل له)”: “حدة”. تهجر “دلال” زوجها لأجل رجل آخر وقعت في غرامه، وهي ابنة المدينة التي لقنت “آدم” ملامح التحضر الأساسية وجعلت منه الشخص الذي أصبح عليه، أما حدة فهي ترفض تماما التخلي عن زوجها الكسيح كي تنزاح إلى حبّ “نايت قاسم” الذي راودها عن نفسها عدة مرات، مقتنعا بحبّه لها، وقدرته على إغوائها. لا نسمع أصواتا نسائية أخرى داخل “ملح النسيان”. رحلة المعلم بحثا عن المعنى هي رحلة بحث عن الحبّ بالأساس أو ربما لا يتأتى المعنى لشيء في الحياة دون الحب، ثنائية يدافع عنها محمد مولسهول إلى جانب ثنائية النسيان والجنون.
كاتب يخاصمه النقد
يحس قارئ رواية ياسمينة خضرا مدى توظيف الكاتب لذاكرة طفولته في رسم جزائر ما بعد الاستقلال مباشرة، بعين سينمائي قبل أن يكون بعين أديب، وهو الذي حولت الكثير من نصوصه إلى أفلام، مثل “فضل الليل على النهار”، “الصدمة” وغيرهما. بالمقابل يضيق صدر محمد مولسهول بقلة الاهتمام التي يتعامل بها الإعلام الجزائري، خصوصا الناطق بالعربية، مع أعماله، إضافة إلى عزوف الجوائز الأدبية عنه، متناسيا أن الحركة النقدية عموما في الجزائر متعثرة بل راكدة، لعبت أزمة الكوفيد – 19 دورا في مضاعفتها. كما أنه ربما لا يعي أنه أحد أنجب الأقلام الجزائرية التي لا تكلّ، غزير الإصدار، ينوع موضوعاته، يسعى لأن تكون رواياته دون هفوات سردية، متناسقة، ما يجعل من أمر متابعة أعماله متعبا لدى قطاع واسع من النقاد الموسميين، الذين يبحثون بدورهم عن الأضواء، في ركونهم إلى أدوات تحليلية قديمة. لا يحتاج الأدب الجيد إلى إعلام ونقد وجوائز، يحتاج الأدب إلى ثقة في الكتابة ولزمن كاف حتى يتمكن من البوح بكل ما يسكنه.