رحلة حول غرفتي
وُلِدَ مشروع هذه الترجمة كالكثير من الأمور الجميلة من حوار شيِّق مع صديق شاعر عربي عزيز على قلبي وفكري في الآن ذاته. كان ذلك خلال الفترة الأولى لجائحة كورونا، حيثُ كان يعيش هذا الصديق الحَجْرَ الصحِّيَّ في إحدى العواصم الأوروبيَّة، وكنتُ كما أنا اليوم في مدينة الحمَّامات التونسيَّة على ضفاف البحر الأبيض المتوسِّط. كان حديثنا عن الشِّعْر والمَهرَجَانات والرحلات المنقطعة بسبب ما يشهده العالم. وانتبهنا في خلاصة حديثنا إلى أن البشر لا يَعُونَ قيمة ما يعيشون إلَّا عندما يُحْرَمُونَ منه. وفي هذا الخضمِّ، سألني صديقي إن كنتُ أعرف غزافيي دوميستر (1753 – 1821)، لأن محرِّراً يعمل معه في المجلَّة التي يديرها أرسل له مادَّة عن هذا الكاتب غريب الأطوار صاحب كتاب وحيد شهير تحت عنوان ضارب في الطرافة: “رحلة حول غرفتي”.
كان ردِّي بالفرنسيَّة من خلال هذه العبارة: “Tu ne crois pas si bien dire!”، أي أنني أُولي الكاتب ونصَّهُ حبَّاً كبيراً، إلى درجة أني أملك في مكتبتي طبعتَيْن مختلفتَيْن للكتاب نفسه. وهنا أَعْقَبَ صاحبي بذكائه المعهود قائلاً: “حرامٌ عليكَ، تُحدِّثني بالفرنسيَّة كي تُشْعِرَنِي بالنقص! هيَّا، تَرْجِمْ هذا الكتاب إلى العربيَّة، ليستفيد منه الجميع!”
لستُ أدري كيف اندفعتُ بتِلقائيَّة لا مثيل لها، لكنْ، اليوم وبعد انتهائي من الترجمة، تبدو بعض كلمات رولان بارت عن “لذَّة النصِّ” وراء هذا الحماس الذي ما انفكَّ يُلهِمُني ويُراوِدُني طَوَالَ فترة اشتغالي على هذا النصِّ الممتع والشيِّق والصعب في الوقت نفسه: “لذَّة النصِّ هي تلك اللحظة التي يَتْبَعُ فيها جسدي أفكاره الخاصَّة – لأن ليس لجسدي أفكاري نفسها”. [1]
فعلاً، تُعبِّرُ هذه المقولة ومحتوى كتاب رولان بارت كلُّه عن هواجسي كشاعر وكمترجم، خاصَّة وأني في هذا السياق أتبع جسدي في حركة معاكسة، أي أنني عوض أن أُترجِم كالمعتاد من العربيَّة إلى الفرنسيَّة، وجدتُ نفسي أُسافرُ في اللغة انطلاقاً من نصٍّ يتحدَّث عن الحرمان من السفر أو استحالة فعل التحرُّك والتنقُّل بصفة عاديَّة كما كنَّا ولازلنا نعيش تحت وطأة جائحة كورونا.
كما سنقرأ في “رحلة حول غرفتي”، عاش غزافيي دوميستر نوعاً من “الحَجْر”. هذا على الأقلِّ ما تقوله الأستاذة فلورانس لُوتُّوري التي اعتنت سنة 2003 بنشر وتقديم وتحقيق الكتاب في سلسلة غارنيي فلامَّاريون [2] الموجَّهة إلى الطَّلَبَة. فلقد اعتمدنا هذه الطبعة دون غيرها لأسباب متعدِّدة، أوَّلها أن صاحبة العمل جامعيَّة مرموقة في كليَّة باريس 8- دِيدْرُو حيثُ تُدرِّسُ أدب القرن الثامن عشر الذي ينتمي إليه هذا المصنَّف، كما أنها من خلال الملفِّ الذي وهبتنا إيَّاه والهوامش التي وضعت تكشف عن رغبة بيداغوجيَّة كبيرة في مشاركة القارئ متعة هذا النصِّ البسيط والمتشعِّب، السعيد والحزين، الثابت والمتحوِّل في الآن ذاته. فأغلبُ الهوامش التي سيطَّلع عليها القارئ في الترجمة العربيَّة من وَضْع الأستاذة فلورانس لُوتُّوري، وهي ذاتها تعتمد شواهد الطبعة النهائيَّة للكتاب حسب تعليمات غزافيي دوميستر نفسه سنة 1839، كما تُنوِّهُ بالاختلافات مع الطبعة الأولى للكتاب سنة 1795. وارتأينا أن نُضيف مجموعة من الهوامش لإضفاء المزيد من الوضوح والمَقروئيَّة على النصِّ العربي.
لكنْ، ما الذي يُثيرُ الاهتمام في كتاب “رحلة حول غرفتي”؟ ولماذا يبدو لنا العنوان أشهر من المحتوى ومن الكاتب ذاته؟ للردِّ على هذه الأسئلة، يجب أن ننطلق من حياة الكاتب غزافيي دوميستر. في الحقيقة، بالرَّغْم من شهرة هذا العنوان، فإن أخاه الأكبر معروف أكثر منه. يُعَدُّ جوزيف دوميستر (1753 – 1821) من الشخصيَّات الأدبيَّة والفكريَّة الهامَّة في فرنسا وأوروبا، فهو كما كتب عنه سيوران الممثِّل الأوَّل لِمَا يُسمَّى “الفكر الرجعي” والمُنَظِّر اللاذع “للثورة المضادَّة” وأحد أعداء فولتير وفلاسفة الأنوار على حَدِّ السواء. ومن هذا المنطلق، يُعُدُّ أبا الفكر اليميني ومُنظِّرهُ الصارم، من خلال تحليله للعلاقة التي يجب أن تقوم بين الدِّيْن والسياسة وبين النظام المَلَكِيِّ والكنيسة والرعيَّة. فهو صاحب كتاب “عن البابا” و”أُمسيات سانت بطرسبرغ” وغيرها التي أثَّرت تأثيراً كبيراً على الشاعر الكبير شارل بودلير الذي يُقرُّ في أماكن عدَّة بشَغَفِهِ بالرجل الذي، على حَدِّ قوله، “عَلَّمَهُ كَيفَ يُفكِّرُ”.
وُلِدَ غزافيي دوميستر في الثامن من نوفمبر سنة 1763 في مدينة شامبيرِّي في منطقة السَّافْوَا التي كانت آنذاك تابعة لمملكة سردينيا، وتقع هذه المنطقة جنوب شرقي فرنسا في جهة نهر الرون وجبال الألب. هو الابن الثاني عشر في عائلة تكوَّنت من خمسة عشر طفلاً، بقي منهم على قيد الحياة خمس إناث وخمسة ذكور. كان والده فرنسوا – غزافيي دوميستر شخصاً مهمَّاً، فلقد كان يرأس برلمان الجهة. تُوفِّيتْ والدته ماري كريستين دي موتز وهو في سنِّ العاشرة، ولعب أخوه الأكبر جوزيف دور العرَّاب، وأثَّر فيه وفي اختياراته المستقبليَّة. تلقَّى الطفل دروساً في الفرنسيَّة وفي الرسم، نجد صداها في كتاب “رحلة حول غرفتي”. لم يبلغ الثامنة عشرة عندما التحق في 13 حزيران/يونيو/جوان 1781 بسلك المشاة من فوج البحريَّة المَلَكِيَّة في الإسكندريَّة بإيطاليا، ثمَّ تمركز هذا الفوج بمناطق ومُدُن عدَّة مثل شامبيرِّي وبِينْيُورُلْ وفُوناسْتْرالْ وتُوْرِيْنُو. وفي 6 مايو 1784، عاش غزافيي دوميستر تجربة فريدة من نوعها، إذ تطوَّع للقيام بصعود على متن منطاد هوائي، وكان ذلك حَدَثَاً استثنائيَّاً في المنطقة كلِّها، إذ قام الأخوان منغولفيي بتجاربهم الأولى بضعة شهور قبل هذا التاريخ. يتميَّزُ الرجل بروح رحَّالة ومكتشف لا يعرف الخوف طريقاً إليه.
كما عاش غزافيي دوميستر تجارب كثيرة خاصَّة في بلدة أَوُوسْتْ أسفرت بعد ذلك على كتابة نصوص مثل “أبرص مدينة أَوُوسْتْ” (1811)، وهو يُشبهُ في تركيبته نصَّ “رحلة حول غرفتي” بما أن الكاتب يروي قصَّة رجل مصاب بالبَرَص يعيش حَجْرَاً في قلعة، ويتذكَّر أيَّام حياته السعيدة. ألهمت هذه الأحداث القصصيَّة وحياة الكاتب في منطقة أَوُوسْتْ الأكاديمي الفرنسي أصيل منطقة السافوا هُنْرِي بُورْدُو كتاباً بعنوان: “قصص حُبِّ غزافيي دوميستر في أَوُوسْتْ” الصادر سنة 1931.
وفي سنِّ السابعة والعشرين، غداة كرنفال تورينو، في الأوَّل من جانفي/يناير 1790، خاض غزافيي دوميستر مبارزة مع ضابط من منطقة البِيِيمُونْتْ الإيطاليَّة يُدْعَى بَاتُونُو دي مَايْرَانْ. يبدو أن الإهانة كانت حقيقيَّة، ولكنَّ الأمر لم يكن يستحقُّ هذا العناء كلَّه. خرج غزافيي دوميستر منتصراً من المبارزة التي لم تكن الأولى في سجلِّه، لكنّ غريمه بقي على قيد الحياة، وغذَّى تجاهه ضغينة شرسة. حُكِمَ عليه إذاً بالحَجْر لمدَّة اثنَيْن وأربعين يوماً في غرفته بقلعة تورينو، حيث شرع في كتابة نصِّه الأشهر “رحلة حول غرفتي” الذي لم ينته منه إلَّا في مدينة أَوُوسْتْ سنة 1794. وخلال زيارته إلى أخيه الأكبر جوزيف، في مدينة لوزان السويسريَّة، أَطلَعَهُ غزافيي على نصِّه الذي نال إعجابه الشديد، فقرَّر نشره سنة 1795 دون إعلامه بذلك.
هذه هي قصَّة هذا الكتاب الذي جعل من صاحبه أسطورة أدبيَّة في فرنسا وفي أوروبا، إذ يعدُّ الكثيرون من الشعراء والكُتَّاب والنقَّاد أمثال ألفونس دو لامرتين وأناتول فرانس وسانت بوف “رحلة حول غرفتي” حدثاً أدبيَّاً هامَّاً، لأنه يُمثِّل نقطة تقاطع بين أزمنة وأحداث وأفكار وتمثُّلات مختلفة وربَّما متضاربة، فمن جهة يُمكنُ عَدُّ الكتاب لحظة فريدة من نوعها من خلال جمعها بين عقلانيَّة فكر الأنوار الذي هيمن على القرن الثامن عشر والرومنطيقيَّة التي ستُولَد في أواخر التسعينات من هذا القرن وبداية القرن التاسع عشر. كما يُمثِّلُ غزافيي دوميستر نقلة نوعيَّة بصفته سافوائيَّاً، يكتب بالفرنسيَّة، فهو بذلك يُعْلِنُ عن إدماج هذه المنطقة إلى الجمهوريَّة الفرنسيَّة بعد الثورة سنة 1792. ولهذا السبب سيموت الرجل كأخيه الأكبر في الغربة، حيث سيوافيه الأجل في 12 حزيران/يونيو/جوان 1852 في مدينة سانت بطرسبرغ الروسيَّة وهو يرقد في مقبرتها اللوثريَّة التي تستقبل رفات الأجانب غير الأرثوذكسيِّيْن من كاثوليك وبروتستانت.
زيادة على ذلك، يَحْمِلُ أسلوب غزافيي دوميستر بوادر التجديد والحداثة، وربَّما ما بعد الحداثة، فإن كان الكاتب الأيرلندي الناطق بالإنجليزيَّة لورانس ستارن صاحب كتاب “الرحلة العاطفيَّة عبر فرنسا وإيطاليا” الصادر سنة 1768 نجم عصر دوميستر، وربَّما مرجعيَّة له، فإن “رحلة حول غرفتي” يتجاوز بكثير ما يُسمَّى بأدب الرحلة، ويفتح أُفقاً لنوع جديد من الاكتشاف، يمكننا التعبير عنه بعبارة “الاستكشاف الباطني” كما سنرى ذلك في بداية القرن العشرين مع “تيَّار الوعي” بفضل كُتَّاب أمثال فرجينيا وولف وجيمس جويس. نعم، يُعْلِنُ أسلوب غزافيي دوميستر عن هذه الحداثة والأمثلة كثيرة في كتاب “رحلة حول غرفتي” أحياناً من خلال الحُلْم وحيناً عبر التأمُّل، ناهيكَ عن الاستقصاء الكامن في الزوج الفرويدي قبل وقته الجسد – الآخر/الروح. لكنْ، حسب رأينا، تبقى “البوليفونيا” أو تعدُّد الأصوات من أهمِّ ميزات هذا الأسلوب الذي يجمع بتناسق فريد بين الجِدِّ والهَزَل، بين التأمُّل في الناس، وفي ذات الرجل نفسه، بين معاشرة البشر واختبارهم والكشف عن إنسانيَّة الحيوان أو على الأقلِّ عن قيمة الحيوان في توازن الإنسان.
ومن علامات تعدُّد الأصوات، سيُلاحِظُ القارئ إطناب غزافيي دوميستر في استعمال علامة الترقيم المتمثِّلة في المَطَّة الطويلة (-)، فهي تُعْلِنُ حيناً عن استهلال حوار، وحيناً آخر عن تغيير في نبرة الحديث أو الخطاب، وفي حالات أخرى تكشف عن شخوص و”طبائع” كما صوَّرها الكاتب الأخلاقيُّ الفذُّ جان دي لابرويير. ربَّما تكمن هنا حداثة هذا النصِّ: التصق صاحب “رحلة حول غرفتي” بموضوعه، أي بنفسه، فالرحلة الحقيقيَّة والاكتشافات المنشودة لم تعد كتلك التي قام بها ماركو بولو وكريستوف كولومبس وماجلَّان ودراك وأنسون وكوك وغيرهم، وهي لا تحتاج إلى سفن وطاقم مُتكوِّن من بحَّارين ومُعَدَّات ذات تكلفة، بل، كما وصفها غزافيي دوميستر، تحتاج إلى مكتب وأقلام وحبر وأوراق للكتابة.
كما كتب أناتول فرانس عن غزافيي دوميستر سنة 1878 وهو في سنِّ الثالثة والثلاثين: “تخيَّلوا كيف أن أصدقاءه في محلِّه كانوا قد شَرِبُوا ودَخَّنُوا وتَثَاءَبُوا. لكنْ، كان لغزافيي موارد أخرى ضدَّ الوحدة. كان ذكيَّاً. فكَّر في ألف شيء بطريقة متقلِّبة، وبعد ذلك كتب أفكاره. عندما كان ديكارت في خدمة مُوريي دو ناسُّو كان يملأ فراغ أيَّامه كجنديٍّ بالطريقة نفسها، لكنْ، بحزم لا يُقَارَنُ”. [3]
أعاد أناتول فرانس نشر نصِّه هذا في كتاب “عبقريَّة اللاتينيَّة” سنة 1913 وربَّما كان ذلك دعوة ضمنيَّة لمعاصريه لطرد طيف الحرب وحقن الدماء. ربَّما كان الكاتب الذي سيتحصَّل على جائزة نوبل للآداب سنة 1921 يرى في غزافيي دوميستر كاتباً وفنَّاناً إنسانيَّاً وليس جنديَّاً ومحارباً. ربَّما يرى فيه مفكِّراً يُعْلِنُ عن إنسانيَّة جديدة بعد تلك التي جاء بها روني ديكارت في كتاباته مثل “مقالة الطريقة” (1637) حيث نقرأ: “عندما نُقضِّي وقتاً طويلاً في السفر، نُصبحُ أخيراً غرباء في بلدنا”. [4]
وهذا فعلاً ما حصل لصاحب “رحلة حول غرفتي” الذي قرَّر مغادرة إيطاليا سنة 1838 للعيش صُحْبَة زوجته في روسيا، لكنْ، قبل ذلك ذهب لزيارة مَسْقَط رأسه شامبيرِّي، ثمَّ العاصمة باريس أين التقى بالناقد الشهير شارل أغوسطين دو سانت بوف الذي كتب عنه مقالاً ضارباً في الإعجاب والحُبِّ: “بعيداً عنَّا، في سافوا، في روسيا، في سماء نابولي، بدا أنه احتفظ بنفسه عن قَصْد، لِيَحْضُرَ بيننا في زيارة قصيرة جدَّاً، في سنِّ السادسة والسبعين تقريباً، الرجل الوحيد في الوقت الحاضر الأكثر تشابهاً من الناحية الأخلاقيَّة مع أعماله، التي ربَّما تُشبهُ إلى حَدٍّ بعيد ماضيها، وهي وفيَّة إليه في روحها، ساذجة، مندهشة، ذكيَّة ومبتسمة بلطف، طيِّبة قبل كلِّ شيء، ممتنَّة وحسَّاسة إلى حَدِّ الدموع، كما في النضارة الأولى، هو أخيراً مؤلِّفٌ يُشبهُ كتابه أكثر من أيِّ وقت مضى، لأنه لم يَحلُم أبداً بأن يكون مُؤلِّفاً. [5]
ربَّما لِمَارْسِيلْ بْرُوسْتْ الحقُّ في كُرْه سانت بوف الذي جعل من سيرة الكُتَّاب مدخلاً لقراءة أعمالهم، لكنْ، يبدو لنا وصفه لكتاب “رحلة حول غرفتي” ولصاحبه غزافيي دوميستر بليغاً. تتماهى البلاغة هنا مع شعورنا بلذَّة مزدوجة عند كتابتنا لِمَا سبق بعد فعل الترجمة. هي لذَّة قراءة النصِّ باللغة الأصليَّة تُضَافُ إليها لذَّة مشاركته الصديق الذي طلب منِّي تعريبه. ولا أنسى الأصدقاء المرتقبين من القُرَّاء في كامل العالم العربيِّ الذين سيكتشفون من خلال هذا العمل شيئاً مختلفاً عمَّا عهدوه عن الأدب الفرنسيِّ: هو الأدب في زمن الحَجْر، في زمن الجائحة، في زمن الوحدة والعزلة؛ هو الأدب بمثابة حَلٍّ وأمل ومحافظة على الإنسانيَّة من خلال دَعْم ومساندة إنسانيَّة الإنسان زمن الهجر والخراب والموت المُعلَن. أنا على ثقة أن سيكون لهذا النصُّ وقعاً إيجابيَّاً على قارئيه، وهذه لذَّة أخرى تُضاف إلى سابقاتها.
الفصل الأوَّل [6]
كم هو عظيم أن تفتح مساراً جديداً، وأن تظهر فجأة في عالم المعرفة، برفْقَة كتاب اكتشافات في اليد، كمثل شهاب غير مُنتظَر يتلألأ في الفضاء!
كلَّا، لن أحمل بعد الآن كتابي في صدري؛ ها هو يا سادتي، فلتقرؤوا. لقد خطَّطتُ وقُمتُ برحلة دامت اثنَيْن وأربعين يوماً حول غرفتي. فالملاحظات الشيِّقة التي قمتُ بها، والمتعة المستمرَّة التي شعرتُ بها طَوَالَ الطريق، جعلتْني أرغبُ في مشاركتها مع الجميع؛ فثقتي بأني مُفيدٌ هي التي فرضت قراري الأخير. يشعرُ قلبي برضا لا يُوصَف حين أفكِّر بالعدد اللامتناهي من التعساء الذين أهديهم مَوْرِداً مضموناً ضدَّ القلق، وتلطيفاً للآلام التي يتحمَّلون. المتعة التي نشعرُ بها عند سفرنا في غرفتنا ملاذ ضدَّ الغَيْرَة القلقة للبشر؛ وهي متعة مستقلَّة عن الحظِّ.
هل يوجد في الواقع شخص غير سعيد بما فيه الكفاية، أو مهجور بما فيه الكفاية، حتَّى لا يكون من حظِّه التمتُّع بملجأ، حيث ينسحب ويختبئ من الناس جميعاً؟ هذه هي تحضيرات الرحلة كلّها.
أنا متأكِّد من أن كلَّ إنسان ذي عقل سيتبنَّى نظاماً، من أيِّ نوع كان، وأيَّاً كانت طبيعته؛ بخيلاً كان أم مسرفاً، غنيَّاً أم فقيراً، شابَّاً أم عجوزاً، وُلد في المناطق الساخنة أو قرب القطب، سيسافر مثلي؛ أخيراً، ضمن العائلة الشاسعة للبشر الذين يَعِجُّ بهم سطح الأرض، لا يوجد واحد – كلَّا، لا يوجد واحد (أعني من أولئك الذين يسكنون الغرف) – من شأنه، بعد قراءة هذا الكتاب، ألاّ يوافق على الطريقة الجديدة للسفر التي أولجها في العالم.
الفصل الثاني
بوسعي أن أبدأ في مدح رحلتي قائلاً إنها لم تُكلِّفني شيئاً؛ هذه المادَّة تستحقُّ الانتباه. في البداية يُشادُ بها، يُحْتَفَلُ بها من قبَل الناس ذوي الثروة الهزيلة؛ توجد طبقة أخرى من الناس تَحْظَى بقربها بنجاح بهيج، لذلك السبب نفسه أنها لا تتكلَّف شيئاً. – قُرْبَ من إذن؟ وماذا أيضاً؟! أَتسألون؟ إنها قرب الناس الأغنياء. ثمَّ أيّ مورد تُمثِّلُ تلك الطريقة في السفر بالنسبة إلى المرضى؟ ليس عليهم الخوف من تقلُّبات الهواء والفصول. – أمَّا الجبناء، فسيكونون في مأمن من اللصوص؛ لن يتعرَّضوا للهوَّات ولا للمستنقعات. آلاف الأشخاص الذين لم يجرؤوا من قبلي، والآخرون الذين لم يتمكَّنوا، والآخرون في النهاية الذين لم يُفكِّرُوا في السفر، جميعهم سيتَّبعون أُنمُوذَجِي. أيُّ شخص حتَّى الأكثر تراخياً لن يتوانى عن اتِّباعي على الطريق للتمتُّع بلذَّة لا تتكلَّف تعباً ولا مالاً؟ – هيَّا بنا، لنرحل – اتْبَعُوني، أنتُم جميعاً يا مَنْ حجزتُكم في غرفكم خيبة حُبٍّ وإهمال صداقة، وفضَّلتُم أن تكونوا بعيدين عن خساسة البشر وغدرهم. فليتبعني تعساء هذا الكون ومَرضاه ومُنزعجوه كلُّهم!- فلينهض الكسالى كلُّهم كتلة واحدة [7]! – وأنتُم يا مَنُ تُغذُّون في أذهانكم مشاريع شرِّيرة لتعديل أو انزواء لإحدى الخيانات؛ أنتُم يا مَنْ في المخادع تَعزِفُون إلى الأبد عن الحياة؛ نُسَّاك وَدُودُون لليلة واحدة، تعالوا أيضاً: صدِّقوني، تخلَّوا عن هذه الأفكار السوداء؛ ستخسرون لحظةَ لَذَّةٍ دون ربحِ أخرى للحكمةِ: تفضَّلوا بمصاحبتي في رحلتي؛ سنمشي خلال أيَّام قليلات، ساخرين، على امتداد الطريق، من المسافرين الذين زاروا روما وباريس [8]؛ – لا عوائق ستُوقِفنا؛ مستسلمين بجَذَل لمخيِّلتنا، سنتبعُ الطريق إلى حيث سيُعجِبُها أن تقودَنا.
الفصل الثالث
العالم، كم هو مليء بالأشخاص الفضوليِّيْن!
أنا متأكِّدٌ من أن الكثيرين يرغبون في معرفة لماذا دامت رحلتي حول غرفتي اثنَيْن وأربعين يوماً بدل ثلاثة وأربعين، أو أيِّ حيِّز آخر من الوقت؛ لكنْ، كيف يمكنني شرح ذلك للقارئ، إن كنتُ أنا نفسي أجهله؟! كلُّ ما بوسعي تأكيده، أنه لو بدا طويلاً له، فلأني لم أتمكَّن من جعله أقصر: لولا غرور المسافر، لكنتُ قد اكتفيتُ بفصل واحد. كنتُ في الحقيقة في غرفتي مع اللذَّة والاستجمام الممكن؛ لكنْ، هيهات! لم يكن بوسعي الخروج وَفْقَ إرادتي [9]؛ أظنُّ أني حتَّى دون تدخُّل بعض الأشخاص النافذين الذين كانوا يهتمُّون بي، والذين لم ينطفئ عرفاني لجميلهم بعد، كان بإمكاني إهداء العالم مجلَّداً [10] كاملاً، بقَدْر ما كان حُمَاتِي الذين جعلوني أسافر في غرفتي طيِّبين معي!
ومع ذلك، لَاحِظْ، أيُّها القارئ المتعقِّل، خَطَأَ هؤلاء الناس، وتَبَيَّنْ جيِّداً إن تمكَّنتُ من ذلك المنطق الذي سأعرضهُ عليكَ.
أَليس من الطبيعي ومن العادل التناحر مع شخص مشى على قدمكَ من دون قَصْد، أو تركَ كلمة جارحة تخرج في لحظة من الاستياء، علماً أن وقاحتك هي السبب، أو في النهاية لأن من سوء حظِّه أنه أَعْجَبَ عشيقتكَ [11]؟
نذهب للتبارز في مرج، وهنا، كما كانت تفعل نيكول مع البورجوازي النبيل، نُحاول إطلاق أربع عندما يتمكَّنُ من صَدِّ ثلاث [12] :ولكي يكون الانتقام مأموناً وكاملاً، نُقدِّم إليه صدرنا عارياً، ونتكبَّد خطر أن نُقْتَلَ من قبَل عدوِّنا لننتقم منه. – نرى ألاّ شيء أكثر منطقاً، بيد أننا نعثر على أناس يعارضون مثل هذه العادة الحميدة! لكنَّ ما هو منطقي أكثر من الباقي، أن أولئك الناس الذين يعارضونها والذين يرغبون في أن نُعاينَها بوصفها خطأ فادحاً، قد يتعاملون بطريقة أكثر سوءاً مع ذلك الذي يرفض القيام بها. وكم من شخص تعيس، بعد أن احترم آراءهم، خسر سُمعته ووظيفته؛ بهذه الطريقة، عندما يكون عندنا لسوء حظِّ ما يُسمَّى “قضيَّة”! ليس من المعيب أن نرمي النَّرْد لنعرف كيف نَبُتُّ فيها وَفْقَ القوانين أم وَفْقَ العُرْف، وبما أن القوانين تتضارب مع العُرْف، يُمكنُ كذلك للقضاة بأن يُصْدِرُوا حُكمهم برَمْي النَّرْد. – ومن المحتمل كذلك اللجوء إلى قرار مماثل لتفسير لماذا وكيف دامت رحلتي اثنَيْن وأربعين يوماً بالتحديد.
الفصل الرابع
تقع غرفتي تحت الدرجة الخامسة والأربعين من خطِّ العرض [13]، حسب قياسات الأب “بِكَّارِيَا “[14]؛ تتَّجه من المشرق إلى المغرب؛ تُشكِّلُ مربَّعاً طويلاً ذا ستَّة وثلاثين قَدَمَاً، إنْ لاصقنا الحائط عن قُرب. لكنْ، ستكون رحلتي أطول لأني سأقطع الغرفة في الجهات جميعها، أو ربَّما بطريقة قُطريَّة، دون اتِّباع قاعدة أو طريقة. – حتَّى إنني سأقومُ بخطوط متعرِّجة، وسأجوبُ، إنْ لزم الأمر، الخطوط الممكنة كلَّها في الهندسة. لا أحبُّ الناس الذين يعدُّون أنفسهم بقوَّة أسيادَ خطواتهم وأفكارهم، أولئك الذين يقولون: “اليوم، سأقومُ بثلاث زيارات، سأكتبُ أربع رسائل، سأنتهي من هذا الكتاب الذي بدأتُ.” – روحي منفتحة جدَّاً على أنواع الأفكار، الأذواق والمشاعر جميعها؛ إنها تستقبل بشراهة كلَّ ما يأتي!… – ولماذا نرفض الملذَّات المبعثرة على طريق الحياة الصعب؟ إنها نادرة ومتناثرة جدَّاً إلى درجة أن يكون المرء مجنوناً كي لا يتوقَّف، أو يحيد عن طريقه حتَّى ليجمع التي في متناول أيدينا كلّها. لا شيء جذَّاب حسب رأيي بقَدْر تقصِّي أثر الأفكار كما يفعل الصيَّاد مع الفريسة، دون تكلُّف اتِّباع أيِّ طريق. إذن، عندما أسافر في غرفتي، لقلَّما أتَّبع خطَّاً مستقيماً: أذهب من طاولتي إلى لوحة في الزاوية؛ من هنا أنطلقُ بشكل مائل لأصل إلى الباب؛ لكنْ، وإن كانت تلك نِيَّتي في البداية، فإني لا أمانع أبداً الجلوس على كرسيِّي، إن اعترضني في الطريق. – إن الكرسيَّ أثاث ممتاز؛ إنه خاصَّة ذو نفع لا يُقدَّر بالنسبة إلى رجل متأمِّل. في ليالي الشتاء الطويلة، يكون أحياناً ناعماً، ومن الحذر أن نُطيل الجلوس عليه بارتخاء، بعيداً عن ضجيج التجمُّعات الكثيرة. – مدفأة جيِّدة، كُتُب، أقلام؛ يا لها من موارد ضدَّ القلق! وكم هو ممتع نسيان الكُتُب والأقلام لتذكية النار مع الانغماس في تأمُّل لطيف أو بصُحْبَة قوافٍ ننظمها لإمتاع الأصدقاء! تنزلق الساعات عنكَ لتسقط في صمت الخلود، دون أن تجعلكَ تشعر بعبورها الحزين [15].
الفصل الخامس
وأنتَ تتَّجه نحو الشمال، بعد كرسيِّي، يُمْكِنُكَ اكتشاف فراشي الكامن في قاع غرفتي، وهو يشكِّل أجمل منظور. يقع فراشي في الموقع الأكثر سعادة: أوَّل أشعَّة الشمس تأتي لتمرح في ستائري. – أراها، في أيَّام الصيف الجميلة، تتقدَّم على طول السور الأبيض، بقدر ما تَصْعَدُ الشمس: تُقسِّمها أشجار الدَّرْدَار الموجودة قُبَالَة نافذتي حسب ألف طريقة، وتجعلها تتأرجح فوق فراشي، ذي اللون الورديِّ مع الأبيض، وهو يَذرِفُ من كلِّ جهة ظلَّاً ساحراً بفضل انعكاسها. – أُصغي إلى الزقزقة المشوِّشة للسنونوات التي احتلَّت سقف البيت، وللطيور الأخرى التي تُعشِّشُ في أشجار الدَّرْدَار: ألف فكرة ضاحكة تشغل ذهني؛ وفي العالم بأسره، لا أحد يستمتع بصحوة ممتعة وهادئة كصحوتي.
أعترفُ أني أحبُّ تلك اللحظات الناعمة، وأني أُمدِّدُ دائماً، وذلك قَدْر المستطاع، اللذَّة التي أجدها في التأمُّل مستمتعاً بدفء فراشي الناعم. – هل يوجدُ مسرح يضفي أكثر على الخيال، ويوقظُ أفكاراً أكثر حناناً، من قطعة الأثاث التي أنسى فيها نفسي أحياناً؟ – أيُّها القارئ المتواضع [16]، لا تخفْ – لكنْ، أَلا يمكنني الحديث عن سعادة حبيب يضمُّ لأوَّل مرَّة في أحضانه زوجة فاضلة؟ هي لذَّة لا تُوصَف يمنعني سوء حظِّي من تذوُّقها! أَليس الفراش المكان الذي تنسى فيه أُمٌّ ثملة بولادة ابنها الأوجاع؟ هناك تأتي الملذَّات الرائعة، ثمار الخيال والأمل، لتُثيرَنا. – أخيراً، في هذه القطعة اللذيذة من الأثاث ننسى، مدَّة نصف حياة، أحزان النصف الآخر. لكنْ، أيُّ حشد من الأفكار الممتعة والحزينة تتسارع في الآن نفسه في ذهني؟ خليط عجيب من الوضعيَّات الرهيبة واللذيذة!
فراشٌ يرانا نولدُ ويرانا نموتُ؛ إنه المسرح المتغيِّر، حيث يلعب الجنس البشري دوراً بدور الدراما الشيِّقة والكوميديا المضحكة والتراجيديَّات المروِّعة. – إنه مهد مزيَّن بالزهور؛ – إنه عرش الحبِّ؛ – إنه ضريح.
الفصل السادس
ليس هذا الفصل إلَّا للميتافيزيقيِّيْن. ولسوف يُلْقِي أكبر قَدْر من الضوء على طبيعة الإنسان: إنه المنظار الذي سيمكِّننا من تحليل مَلَكَات الإنسان وتفكيكها، وذلك من خلال فصل قوَّة الحيوان عن أشعَّة الذكاء النقيَّة.
سيكون من المستحيل بالنسبة إليَّ أن أُفسِّرَ لماذا وكيف أَحْرَقْتُ أصابعي منذ الخطوات الأولى التي قُمْتُ بها عندما بدأتُ رحلتي، دون أن أُفسِّر للقارئ، وبتفصيل كبير، نظامي المتعلِّق بالروح وبالوحش [17]. – يؤثِّر هذا الاكتشافُ الميتافزيقي على أفكاري وأفعالي لدرجة أنه سيكون في غاية الصعوبة فَهْم هذا الكتاب، إن لم أعطِ مفتاحه في البداية.
بدا لي، من خلال ملاحظات مختلفة، أن الإنسان متكوِّنٌ من روح ومن وحش. – هذان الكيانان مختلفان للغاية، لكنَّهما متشابكان الواحد داخل الآخر، أو الواحد على الآخر، بحيثُ يجب أن يكون للروح تفوُّقٌ معيَّن على الوحش ليقع تمييزها.
تعلَّمتُ من أستاذ عجوز (بقَدْر ما أتذكَّرُ) أن أفلاطون كان يُسمِّي المادَّة الآخر. هذا جيِّد جدَّاً؛ لكنّي أُفضِّلُ إعطاء هذا الاسم بامتياز إلى الوحش المرتبط بأرواحنا. إنها حقَّاً هذه المادَّة التي هي الآخر، والتي تداعبنا بطريقة غريبة. يبدو لنا بالإجمال أن الإنسان مزدوج؛ لكنّ ذلك، وكما يُقالُ، لأنه متكوِّن من روح ومن جسد؛ وهذا الجسد مُتَّهَمٌ بعدد لا يُحصَى من الأشياء، لكنْ، بالتأكيد أغلبها في غير محلِّها، لأنه غير قادر على الشعور بقَدْر ما هو غير قادر عن التفكير. يجبُ مهاجمةُ الوحش، ذلك الكائن الحسَّاس، المختلف تماماً عن الروح، وهو فرد حقيقيٌّ ذو وجود منفصل، وأذواق، وميولات وإرادة، وهو فقط فوق الحيوانات الأخرى، لأنه أعلى وصاحب أعضاء أكثر كمالاً.
سيِّداتي، سادتي، كونوا فخورين بذكائكم قَدْر ما شئتُم؛ لكنْ، شَكِّكوا كثيراً في الآخر، خاصَّة عندما تكونون مع بعض!
قُمْتُ، ولست أدري كم مرَّة من التجارب على وحدة هذَيْن المخلوقَيْن غير المتجانسَيْن. على سبيل المثال، لقد أدركتُ بوضوح أنه يمكن للروح أن تجعل الوحش يخضع لها، وأنه بشيء مثل العودة المريبة، يفرض عادة الجسد على الروح أن تتصرَّف ضدَّ إرادتها. وَفْقَ القوانين، يكون للأوَّل السلطة التشريعيَّة، وللثانية السلطة التنفيذيَّة؛ لكنْ، عادة تتعارض هاتان السلطتان. – يتمثَّلُ الفنُّ العظيم للرجل العبقري في معرفة كيف يُرَبِّي وحشه حتَّى يتمكَّن من المشي بمفرده، بيد أنه يمكن للروح المتحرِّرة من هذه العلاقة الصعبة، أن تصعد حتَّى السماء.
لكنْ، يجب توضيح هذا بمثال.
سيِّدي، عندما تقرأ كتاباً وتنتابُ فجأة خيالكَ فكرةٌ أكثر متعة، تتشبَّثُ روحكَ بها فوراً وتنسى الكتاب، بينما تتابع عيناكَ الكلمات والأسطر تِلْقَائِيَّاً؛ تنتهي من الصفحة دون فَهْمها ودون تذكُّر ما قرأتَ. – هذا لأن روحكَ، بعد أن طلبت من رفيقها أن يقرأ لها، لم تُنبِّهه إلى الغياب الصغير الذي كانت ستقوم به؛ وبهذه الطريقة، الآخر واصل القراءة التي لم تعد روحكَ تصغي إليها.
الفصل السابع
أَلا يبدو هذا واضحاً بالنسبة إليكَ؟ هذا مثال آخر.
في يوم من أيَّام الصائفة الماضية، كنتُ في طريقي إلى البلاط [18]. كنتُ قد رسمتُ طَوَالَ الصباح، وروحي مستمتعة بالتأمُّل في الرسم، تركتُ للوحش عناية نقلي إلى قصر الملك.
يا لروعة فنِّ الرسم! كانت تقول روحي؛ كم هو سعيد ذلك الذي تأثَّر بمشهد الطبيعة، ذلك الذي ليس مجبراً على القيام بلوحات ليعيش، ذلك الذي لا يرسم فقط لتمضية الوقت، لكنْ، مشدوداً إلى سيماء جميلة، مع ألعاب الأنوار الرائعة التي تذوب في ألف لون على الوجه البشريِّ، يحاول أن يقترب في أعماله من آثار الطبيعة السامية! كم هو سعيد كذلك الرسَّام الذي يدفعه حبُّهُ للمناظر إلى نزهات منعزلة، ذلك الذي يجيد التعبير في اللوحة عن الإحساس بالحزن الذي يُلهمه إيَّاه غاب قاتم أو ريف مهجور! تُحاكي إبداعاته الطبيعة وتعيد إنتاجها؛ إنه يعيد خَلْق بحار جديدة وكهوف سوداء غير معروفة للشمس: بأمر منه، تخرُجُ غابات صغيرة من العدم، لازورد السماء ينعكس في لوحاته؛ وهو يَحْذِقُ فنَّ تعكير الهواء وجَعْل العواصف تعوي. في مرَّات أخرى، يُهدي عين المتفرِّج المسحور الأرياف اللذيذة في صقليَّة القديمة: نرى الحوريَّات المذهولات وهنَّ يهربنَ عبر القصب من ملاحقة ساتير [19]؛ معابد ذات هندسة مهيبة، ترفع واجهاتها فوق الغابة المقدَّسة المحيطة بها: الخيال يضيع في الطُّرُق الصامتة لهذا البلد المثاليِّ؛ يندمج الأزرق البعيد مع السماء، والمشهد بأكمله، وهو يتكرَّر في مياه نهر هادئ، يشكِّل عَرْضَاً لا يمكن لأيَّ لغة وصفه. – بينما كانت روحي تفكِّر بهذا كلِّه، كان الآخر يسير في طريقه، والله أعلم أين كان يسير! – بدل أن يذهب إلى البلاط كما جاءت الأوامر، انحرف بعيداً إلى جهة اليسار، لدرجة أنه عندما لحقت به روحي، كان على عَتَبَة السيِّدة دي هوتكستل، على بُعْد نصف ميل من القصر المَلَكِيِّ.
أتركُ القارئ يُفكِّرُ بما كان سيحدث لو دخل بمفرده إلى منزل امرأة في جمال تلك السيِّدة.
الفصل الثامن
إن كان من المفيد والممتع أن تكون لديكَ روح خالية من المادَّة بحيث تسافر بمفردها عندما ترى أن ذلك مجد، فإن لهذه المقدرة عيوبها أيضاً. أنا مَدِينٌ لها، على سبيل المثال، بالحرق الذي تحدَّثتُ عنه في الفصول السابقة. – عادة ما أمنحُ لوحشي رعاية تحضير غذائي؛ هو الذي يُحمِّص خبزي ويُقطِّعه. إنه يصنع القهوة [20] بشكل رائع، بل وكثيراً ما يتناولها دون أن تتدخَّل روحي، إلَّا عندما ترغب في مراقبته وهو يعمل؛ لكنْ، هذا نادر ويصعب جدَّاً تنفيذه: لأنه من السهل، عند القيام بأيَّ عمليَّة ميكانيكيَّة، التفكير في أيِّ شيء آخر؛ ولكنْ، من الصعب للغاية أن تُشاهدَ نفسكَ وأنت تفعلُ، إنْ جاز التعبير؛ – أو إن شَرَحْتُ الأمر وَفْقَ نظامي أن تُسْتَخْدَمَ الروح لفحص مسيرة الوحش ورؤيته يعمل دون المشاركة فيها. – هذه هي أكبر بدعة ميتافيزيقيَّة مدهشة يمكن أن يقوم بها الإنسان.
كنتُ قد وضعتُ السفافيد على الجمر لتحميص الخبز؛ وبعد مرور بعض الوقت، بينما كانت روحي تسافر، تدحرج جِذْع ملتهب فوق الموقد: – وضع وحشي المسكين يده على السفافيد، فاحترقت أصابعي.
الفصل التاسع
آمُلُ أن أكون قد شرحتُ أفكاري بما يكفي في الفصول السابقة لأعطي القارئ ما يُفكِّرُ فيه، ولأجعله في وضع يُمكِّنه من القيام باكتشافات في هذه المسيرة اللامعة: لن يكون بوسعه سوى إلَّا أن يَرْضَى عن نفسه، إن تمكَّن في أحد من الأيّام مِن جعل روحه تسافر بمفردها؛ على كلِّ حال، ستُعدِّلُ هذه المَلَكَة الملذَّات التي ستمنحه إيَّاها الالتباس الناجم عنها. هل من متعة أكثر إغراء من تمديد الوجود بهذه الطريقة، من احتلال السماء والأرض في الوقت نفسه، ومن مضاعفة كينونته، إن صحَّت العبارة؟ – أَلَا تتمثَّل الرغبة الأبديَّة، والتي لا تُشْبَعُ أبداً، في زيادة قوَّته وقدراته، في رغبته في أن يكون حيث لا يوجد، في تذكير الماضي والعيش في المستقبل [21]؟ – يُريدُ قيادة الجيوش، رئاسة الأكاديميَّات؛ يُريدُ أن تعشقه الجميلات؛ وإذا تمكَّن من ذلك كلِّه، فإنه يفتقد الحقول والهدوء، ويحسدُ كوخ الرعاة: مشاريعه، آماله، تخفق باستمرار أمام مصائب الواقع المرتبطة بالطبيعة البشريَّة؛ ليس بوسعه تحقيق السعادة. رحلة من ربع ساعة برُفْقَتي ستريه الطريق.
مهلاً! لماذا لا يترك للآخر هذه الهموم البائسة [22]، هذا الطموح الذي يُعذِّبه؟ – تعال، أيُّها البائس المسكين! ابْذُلْ أيَّ مجهود لكسر سِجْنكَ، ومن أعلى السماء التي سآخذكَ إليها وسط المدارات السماويَّة ودار الخُلْد [23]،- انظرْ إلى وحشكَ، الذي تمَّ إطلاقه في العالم، وهو يركض بمفرده وراء مسيرة الثروة ومراتب الشرف؛ انظرْ بأيِّ وقار يمشي بين الناس: يبتعد الحشد باحترام، وصدِّقني، لا أحد سينتبه إلى أنه بمفرده؛ أدنى ما يهمُّ الجمهور الذي يتجوَّلُ فيه، أن يعرفوا إن كان له رُوحٌ أم لا، وإن كان يُفكِّرُ أم لا. – ستحبُّه ألف امرأة عاطفيَّة [24] بشدَّة دون أن تعي بذلك؛ يمكنه أن يرتفع دون مساعدةِ روحكَ إلى أعلى نِعْمَةٍ وأكبر ثروة. – أخيراً، لن أتعجَّب أبداً عند رجوعنا من دار الخُلْد إن كانت روحكَ، وهي تعود إلى مسكنها، في وحش سيِّد عظيم.
الفصل العاشر
لا تعتقدنَّ أني بدلاً من الوفاء بوعدي بتقديم وصف لرحلتي حول غرفتي، أُطْنِبُ في الهَذَر، كي أفرَّ بجِلْدِي: إن ذلك لخطأ فادح، لأن رحلتي متواصلة فعلاً، بينما تنغلق روحي على نفسها وهي تجوب في الفصل السابق الأمكنة المتشعِّبة للميتافيزيقا، – كنتُ جالساً على الكرسيِّ الذي أُسندتُ عليه إلى درجة أن قَدَميْهِ الأماميَّتيْن قد ارتفعتا بوصتَيْن عن الأرض؛ وبينما كنتُ أتأرجح يَمْنَةً ويَسْرَةً، رابحاً بعض الفضاء، كنتُ قد وصلتُ قريباً جدَّاً إلى الحائط بطريقة غير محسوسة. – إنها طريقة سفري عندما لا أكون متعجِّلاً. – الآن، استحوذت يدي ميكانيكيَّاً على صورة للسيِّدة دي هوتكستل [25]، والأخرى تلهو بنزع الغبار الذي كان يغطِّيها. – منحها هذا العمل لذَّة هادئة، وقد شعرتُ بهذه اللذَّة في روحي، بالرَّغْم من أنها كانت ضائعة في سهول السماء الواسعة: من الجيِّد ملاحظةُ أنه عندما تُسافرُ الروح بهذه الطريقة في الفضاء، فهي تبقى دائماً متمسِّكة بالحواسِّ برابط سرِّيٍّ أَجْهَلُ مصدره؛ بهذه الطريقة، دون أن تُزْعِجَ أعمالها، بوسعها المشاركة في المتعة الهادئة للآخر؛ لكنْ، إن زادت هذه المتعة إلى حَدٍّ ما، أو إن اعترضها مشهد غير مُنتظَر، تستأنف الروح مكانها بسرعة البرق.
هذا ما حدث لي وأنا أنظِّفُ الصورة.
بقَدْر ما كان المنديل ينزع الغبار ليظهر جدائل شقراء وإكليل الورد الذي يتوِّجها، أحسَّت روحي، منذ الشمس التي انتقلت إليها، بقُشَعْرِيْرَة صغيرة تنتابها، وشاركتْ في حركة من التعاطف بمتعة قلبي. صارت هذه المتعة أقلَّ تشويشاً وأكثر حِدَّة عندما أَظْهَرَ المنديل دفعة واحدة الجبين العريض والناصع لهذه السيماء الساحرة؛ كانت روحي على وشك مغادرة السماء لتستمتع بالمشهد. لكنْ، لو كانت في الشانزليزيه، لو أنها حضرت حفلة موسيقية للملائكة، لَمَا بَقِيتُ هناك أكثر من نصف ثانية، عندما انتبه لها رفيقها الذي يُبدي اهتماماً أكبر بعمله، فأمسك بإسفنجة مبلَّلة تمَّ تقديمها إليه، ومرَّرها فجأة فوق الحاجبَيْن والعينَيْن -، فوق الأنف -، فوق الخدَّيْن -، فوق هذا الفم؛ – آه! يا الله! قلبي ينبض: – على الذقن، على الثدي: دام ذلك الحال لفترة؛ بدا أن الشكل كُلَّهُ قد وُلِدَ من جديد وخرج من العدم. – اندفعت روحي من السماء كنجم ساقط؛ وَجَدَتِ الآخر في نشوة جميلة، وتَمَكَّنَتْ من الإضافة إليها بمشاركتها. هذا الوضع الفريد وغير المتوقَّع جعل الزمان والمكان يختفيان بالنسبة إليَّ. – لقد وجدتُ نفسي في الماضي للحظة، وصرتُ أصغر ضدَّ نظام الطبيعة. – نعم، ها هي ذي، هذه المرأة المحبوبة، هي نفسها، أراها تبتسم؛ ستتكلَّم لتقول إنها تُحبُّني. – يا لها من نظرة! تعالي لأعانقَكِ قرب قلبي، يا روح حياتي، يا وجودي الثاني! – تعالي وشاركيني ثملتي وسعادتي! – كانت هذه اللحظة قصيرة، لكنَّها كانت فاتنة: سرعان ما استعاد العقل البارد سيطرته، وفي غمضة عين، شِخْتُ عاماً كاملاً؛ – أصبح قلبي بارداً وجليديَّاً، ووجدتُ نفسي في مستوى حشد اللامبالين الذين يُثْقِلُون كاهل الكرة الأرضيَّة.
• أعد الملف: تيسير خلف، ميريه الجراح
الهوامش:
[1] رولان بارت، “لذَّة النصِّ”، باريس، منشورات سُويْ، 1973، ص30، وقع إعادة طبعه في سلسلة الجيب “بوان سوي”، سنة 1982، ص27. (ما لم يُذكَر خلاف ذلك، النصوص المترجمة إلى العربيَّة كلُّها من فعل المترجم).
[2] Xavier de Maistre, Voyage autour de ma chambre, présentation et dossier par Florence Lotterie, Paris, GF, 2003, 154 p. ISBN : 978-2-0807-1148-9.
[3] غزافيي دوميستر، “رحلة حول غرفتي”، مع مقدِّمة لأناتول فرانس، باريس، منشورات ألفونس لومار، سنة 1878، ص11.
[4] روني ديكارت، “مقالة الطريقة”، طبعة من إعداد وتقديم فريديريك دو بيزون، باريس، منشورات فوليو/الأبحاث، 1997، ص79.
[5] صدر في مجلَّة “العالَمَيْن” سنة 1839، ثمَّ في كتاب “صور معاصرة” سنة 1846.
[6] يتصدَّر الطبعة الأولى للكتاب (1795) شاهدٌ شِعْرِيٌّ مُقتطفٌ من النشيد الأوَّل لقصيد “أخضر- أخضر” للشاعر والمسرحي جان باتيست غريسِّي عضو الأكاديميَّة الفرنسيَّة (1709- 1777)، يقول ما يلي: “عند العديد من الكُتَّاب العلماء/ قرأتُ أن السفر خطير كالوباء” (1734).
[7] العبارة جاءت بالإيتاليك أو الحروف المائلة، وهي تكشف هنا عن السخرية التي تتميَّز بها كتابة غزافيي دوميستر.
[8] تلميح لكُتُب أدب الرحلة التي عَرَفَتْ شعبيَّة كبيرة في القرن الثامن عشر. هنا، يُفكِّرُ غزافيي دوميستر في تقاليد “الجولة الكبرى” التي كانت تذهب بالرحَّالة إلى إيطاليا. فيما يحيل المرجع الخاصّ بباريس إلى رائعة فيلسوف الأنوار مونتسكيو، “الرسائل الفارسيَّة” (1721)، وخاصَّة الكُتُب الرديئة التي حاولت تقليدها.
[9] كان غزافيي دوميستر مُلازِماً وقد وقع إيقافه ووَضْعه تحت الإقامة الجبريَّة بسبب مبارزة مع ضابط آخر يُدعَى باتونو دي مايران ليلة كرنفال تورينو سنة 1790.
[10] العبارة المستعمَلَة في النصِّ الفرنسي جاءت باللاتينيَّة وهي “إين فوليو”، وتعني كتاباً تكون فيه الورقة مَطوِيَّة على اثنَيْن. العبارة تعني هنا بطريقة أوسع وسخرية بيِّنة كتاباً ضخماً.
[11] تُذكِّرنا هذه النبرة الساخرة بالحوارات حول المبارزة في روايات القرن الثامن عشر المتأثِّرة بفكر فلسفة الأنوار التي تعدُّها بمثابة “الحكم المُسبق”. يتطرَّق مونتسكيو لهذه المسألة في “الرسائل الفارسيَّة” (الرسالة رَقْم 90)، ولكنْ، يمكن هنا الرجوع إلى “هِلُوِيزْ الجديدة” (1761) لجان جاك روسُّو (الجزء الأوَّل، الرسالة 57)، حيث تحُثُّ البطلة “جولي” حبيبها ومدرِّسها “سان برو” بعبارات ساخرة على ألاّ يتقاتل مع “ميلورد بومستون”: “أفهم أن في حالتكَ لا يمكن التشاور مع البراعة، بل مع الشجاعة، وأن أفضل طريقة للانتقام من رجل جسور قد شتمكَ تتمثَّل في تمكينه من قتلكَ، وذلك وَفْقَ قول مأثور ضارب في الحكمة” (“هِلُوِيزْ الجديدة”، باريس، منشورات كلاسيك غارنيي، 1988، ص127).
[12] “البورجوازي النبيل”، مسرحيَّة موليير، الفصل الثالث، المشهد الثالث، حيثُ يتحدَّى السيِّد “جوردان” خادمتَهُ نيكول للمبارزة بسيف الشيش، بسبب تهكُّمها المتواصل عليه: – نيكول: تطلب منِّي سيِّدي أن أدفع للأمام. – السيِّد جوردان: أجل، لكنْ، تدفعينني ثلاثاً قبل أن تدفعيني أربعاً، وليس لكِ الصبر لتمكيني من الصدِّ.” موليير، “الأعمال الكاملة”، الجزء 2، باريس، غاليمار، مكتبة البلاياد، 1971، ص739.
[13] هنا استغلال لصورة التفاوت الهزلي وربَّما هي لمحة لمقطع شهير من كتاب “الطبائع” لأديب القرن السابع عشر “جان دي لابرويير” (1645 – 1696)، حيث يصف البلاط المَلَكِيَّ على أنه بلد بعيد (الفصل الثامن “عن البلاط”، المقطع 74)، وَفْقَ تِقْنِيَّة تغريب سيُبدِع في استعمالها بعد ذلك فيلسوف الأنوار مونتسكيو في رائعته “الرسائل الفارسيَّة”.
[14] جان باتيست بِكَّارِيَا (1716 – 1781)، عالم فيزياء شهير من جامعة تورينو، طلب منه ملك سردينيا سنة 1759 قياس خطِّ الطول انطلاقاً من منطقة البييمونت الإيطاليَّة، ولقد نشر نتائج هذه التجربة سنة 1774.
[15] تَعدُّ الجامعيَّة الفرنسيَّة فلورانس لوتري هذا المقطع: “تقريظاً للحَجْر، يذكِّرنا بذلك الذي يوجد في “الرحلة العاطفيَّة””، وهي رواية للكاتب الأيرلندي “لورانس ستارن” صدرت سنة 1768، ولعبت دوراً هامَّاً في تنمية الثقافة الأدبيَّة الفرنسيَّة عامَّة والحسِّ الفنِّيِّ لدى غزافيي دوميستر خاصَّة. لكنْ، ما يثيرُ انتباهنا أن هذه الناقدة الجدِّيَّة استعملت كلمت “confinement” بالفرنسيَّة سنة 2003، وهي الكلمة نفسها التي وقع استعمالها سنة 2020 للتعبير في فرنسا وفي البلدان الفرنكوفونيَّة عن “الحَجْر الصحِّي” في ظلِّ جائحة كورونا أو كوفيد – 19. يعني ذلك أن ما يعيشه كاتبنا، وهذا ما تنبَّهتْ إليه الناقدة، شكل من أشكال “الحَجْر الصحِّي” المفروض، لكنَّه سرعان ما صار مُستَحَبَّاً، حتَّى إن المرجع المذكور يُشبِّهه بسجن “الباستيل” الشهير الذي يُمثِّل سقوطه يوم 14 جويلية/يونيو 1789 الاحتفال بالثورة الفرنسيَّة وبقيام النظام الجمهوري. في هذا الصدد، يجدر بنا الاستشهاد بهذه الأسطر من نصِّ الأيرلندي لورانس ستارن “الرحلة العاطفيَّة” حيث يمدح فيها “الحَجْر” بسجن الباستيل: “عليكَ أن تحترم ذلكَ بكلِّ ما أُوتيتَ من قوَّة، هذا ما قلتُ لنفسي، فليست الباستيل سوى قلعة، لكنْ، مع تسعة كُتُب يوميَّاً، ريشة للكتابة، ورق، وشيء من الصبر؛ وبالرَّغْم من أنه لا يمكن للإنسان الخروج منها، فبإمكانه على الأقلِّ أن يكون في وضع مريح بداخلها – على الأقلِّ لمدَّة شهر أو ستَّة أسابيع”.
للإشارة سيكرِّرُ ذلك جان جاك روسُّو بعد عشرين سنة في الجولة الخامسة من كتابه “أحلام يقظة جوَّال مُنفرد” عندما يَعدُّ سجن الباستيل المكان الأمثل للاعتكاف.
[16] الكلمة المستعمَلَة في النصِّ الفرنسي”modeste”، وتعني في ذلك السياق القارئ المحتشم.
[17] الإيتاليك أو الحروف المائلة من وَضْع الكاتب في النصِّ الأصلي، وهذا يعني أنه يُعطي لكلماته وللمصطلحات التي يستعملها معنى خاصَّاً، يجبُ على القارئ التفطُّن إليه.
[18] في تورينو، سنة 1789، كان غزافيي دوميستر يُخالِط بلاط المهاجرين الوافدين في حقائب “الكونت دارتوا” الذي سيصير الملك شارل العاشر بين 1824 و1830، كما كان يُخالطُ بلاط ملك سردينيا.
[19] كائن أسطوري ذو قرون وذيل وقَدَمَيْ تَيْس كان يعيش في الغابات، حيث يطارد الجميلات كالحوريَّات؛ صارت التسمية في اللغة الحديثة تُطلَقُ على رجل مُسنٍّ يراود الشابَّات. (هامش من وَضْع المترجم).
[20] لَفْتُ النَّظَرِ إلى القهوة، وهو يمثِّلُ علامة خارجيَّة للبذخ والثقافة الرفيعة والمتعة الحسِّيَّة، تعبيرٌ عن صبغة النصِّ الأبيقوريَّة. في ما يخصُّ هذه المسألة بالذات، يجب الرجوع إلى كتاب الناشر والباحث “سيرج سافران”، “الحبُّ النَّهِم، تحرُّر فنِّ الأكل في القرن الثامن عشر”، باريس، منشورات لاموزاردين، 2000، الفصل الثالث.
[21] العودة هنا إلى تِيمَة أو موضوع محوريٍّ في فلسفة العصر الكلاسيكيِّ، وهو القلق وعدم الرضى في إشباع الرغبات. انظرْ هنا أبحاث “جون دوبران”، “فلسفة القلق في فرنسا في القرن الثامن عشر”، باريس، منشورات فران، 1979.
[22] الكلمة المُستعمَلَة هنا هي “soins”، وهي تعني اليوم في اللغة المعاصرة عناية أو اهتماماً أو علاجاً، لكنَّها كانت تعني في القرن الثامن عشر مشاكل، قلقاً وهموماً، كما نقرأ في “معجم الأكاديميَّة الفرنسيَّة”، طبعة 1762 سنة: “حياة العظماء مليئة بالهموم. الطموح يُسبِّبُ الهموم”.
[23] في الأساطير الإغريقيَّة، تعني “Empyrée” أعلى الأربع كرات سماويَّة، حيث يقطن الآلهة.
[24] دخل النعت “sentimental” إلى الفرنسيَّة مع ترجمة كتاب “الرحلة العاطفيَّة” (1769) للكاتب الأيرلندي لورانس ستارن من قبَل فريني سنة 1769. كان آنذاك لا يزال استعمالاً حديثاً وغير معروف من قبَل العامَّة، فعلى سبيل المثال لا يوجد هذا النعت في “معجم الأكاديميَّة الفرنسيَّة” لطبعات 1762 و1798. كان يعني في البداية ما له علاقة بالأحاسيس في الحياة العاطفيَّة. لكنَّ عاطفيَّة ستارن تعني تحديداً الحركيَّة الفكريَّة والانعكاسيَّة التي من خلالها يُلاحِظ الشخص حركاته الذاتيَّة ويصفها. في نهاية القرن، صار للكلمة معنى سلبيّ: العاطفيّ هو الذي يُظهِر مشاعر ذات لُطف متكلَّف، وحساسيَّة مفرِطة ومبالغة. يستعملها هنا غزافيي دوميستر في معناها الساخر الذي يُذكِّرنا بالأقوال اللاذعة للماركيز “دو مارتوي” في رائعة “لاكلو”، “العلاقات الخطرة”، سنة 1782، حيث تهزأ البطلة من “النساء ذوات العاطفة”.
[25] لم يتمكَّن النقَّاد والمؤرِّخون من تحديد هُوِيَّة هذه السيِّدة التي لُقِّبت “بالمفتاح”، والتي كان بإمكاننا من خلالها فكّ رموز المجتمع الذي كان يخالطه الكاتب في مدينة تورينو الإيطاليَّة.