روايات تتناسل مثل قصص الحيات
مها حسن: طبول الحب
في هذه الرواية الخبر هو الأب والرواية هي الأم. ويتصل بذلك تفريع القصة إلى قصص. فالأسرة الخبرية القصصية هنا ليست فقط أسرة صغيرة (حديثة)، بل هي أيضا أسرة كبيرة ومتشابكة.
عبر الحوار الفيسبوكي بين الأستاذة ريما والمعارض الناشط يوسف سليمان، سيحكي لها قصته كمحام ممنوع من السفر. وعبره ستتم التغطية الإخبارية للحراك المعارض في واحدة من بؤره الساخنة التي لم تفتر طوال أربع سنوات، هي (كفر نبل) من ريف إدلب.
ويغلب أن تكون كل قصة مجالا للحوار أو النقار في السياسة والثورة، وبالتالي، لعرض الآراء المتناقضة أو المختلفة مما يزلزل سوريا. فهذا الفنان فاتح قد نزح من حمص إلى حلب بسبب المسلحين الإرهابيين الذين يجبرون الأهالي على الاختيار بين الخروج في المظاهرات والقتل.
روزا ياسين حسن: الذين مسهم السحر
روزا ياسين حسن
من القصص التي تفتتح هذه الرواية -والقصص منذ البداية كثيرة ومتدافرة ومتشابكة ومتناسلة- قصة الكردي ميغان حاجو، والأستاذ التركماني خالد القادم من كوباني (عين العرب) إلى حي جرمانا. كذلك هي قصة صفوان الشيخ النازح من حمص، وقصة العميد بهجت إسماعيل حسون الموالي للنظام، وزوجته سميرة سلمان، وقصة صاحب الكافيتريا التي يعمل فيها ميغان: عمران أبوالعزم الذي ستوقّع عبارته “ستطول” للرواية، في تقديره لزمن الزلزلة، وعلى العكس من الأستاذ طلال -ولهذا قصته بالطبع- الذي يتنبأ بانهيار الاقتصاد، ويجزم: “لن تطول”. وعبر ميغان ستأتي قصص- أخبار المظاهرات في حي الحجر الأسود، كما تنقلها بخاصة والدة ميغان الكردية.
للشخصية المحورية ريما عيسى قصتها هي الأخرى، التي تبدأ من مدينة اللاذقية، ولا تنتهي في مقامها الدمشقي. وعبر قصة ريما تتوالد- تتناسل القصص وتحتشد وتتفرع، حتى لتقول بصدد واحدة مما ترى أو تسمع: “مجرد قصة من مئات القصص التي راحت تزدحم في الذاكرة، حتى لم يعد من مكان لألمها”.
عبدالله مكسور: عائد إلى حلب
ليس في مخيم اليرموك الفلسطيني الدمشقي، كما تنبئ هذه الرواية، مقومات للحياة، بل هناك انتظار للموت القادم و”كثير من القصص ينتظر صاحبها فرصة من الوقت كي يرويها لمن يلقى السمع″. إنها، كما يوالي السارد، قصص الثورة التي لم تكتمل بعد، قصص الموت والسرقة وقطع الطرق، وصاحب كل قصة ينتظر فرصته للبوح.
هكذا تبدأ (أ. ع. م.) ذات الخمسة وثلاثين عاما، بسرد قصتها، وهي القادمة من حي الخالدية في حمص، حيث جامع خالد بن الوليد والمعارك الطاحنة. كما تروي (س. ك.) من دير الزور قصة زوجها الذي قضى في انهيار سد زيزون سنة 2001، وقصة وحيدها الذي انضم إلى الجيش الحر، وقُتل. وإذ لم يهتم بها أحد من الذين كانوا مع ابنها، دخل الشبيحة من قرى مجاورة واغتصبوها، واغتصبوا ابنتيها أمامها، وحشوا المهبل بجاذب للفئران يشلّ العصب.
لا تسمي الرواية هاتين الشخصيتين، فالأسماء، كما سيلي، لا تهمّ في مثل عالمها. لكنها ستسميّ غيرهما وهي تقدم قصة في ملخص مثل الكثير من القصص الملخصات. فهذا أبونزار الذي يصلح لأن يكون شخصية في رواية أو في مسرحية، كما يقدر السارد، وهو متمسك ببيته في حلب، حيث أصوات القذائف والرصاص توقّع للعبه في طاولة الزهر مع السارد الذي يرى مصادفة صورة نزار عندما تقترب الدورية من المنزل، فيخبئها أبوه. وهنا يتابع السارد قصة اختطافه مع نزار على الحدود التركية. ويسرد السارد أيضا قصة نيكولاس الصحفي الأيرلندي الذي أنقذه من الموت عند الإسلاميين، فوضع هؤلاء رأس السارد على قائمة المطلوبين. وعلى هذا النحو تتوالد القصص من مركز السارد غالبا، بينما تتوالد بالتراصف أحيانا، وبمركزية السارد أحيانا، في روايتي مها حسن وروزا ياسين حسن وسواهما.
في المشفى الميداني كان السارد قد التقى نيكولاس، حيث يروي الطبيب -وهو طالب الطب مرهف المسيحي القادم من درعا- عن تحول المركز الصحي إلى مسلخ حقيقي للموت، بسبب السرقات. وهنا تأتي قصة “أبوضرار” واللصوص الذين يسرقون الدواء ويتاجرون به. أما مرهف فيحذر من الأنبياء الكذبة الذين يأتون بثياب الحملان: “من ثمارهم تعرفونهم”. وبرفقة نيكولاس يلتقي السارد مع رفيق طفولته أحمد، لتبدأ قصة جديدة، يشتبك فيها سعي الصحفي بعون السارد إلى كتابة تحقيق عن مجزرة اللطامنة في ريف حماة، حيث يسعى أحمد إلى توحيد الكتائب المسلحة، وهو الذي انتقل من نشاطه في لجان التنسيق إلى العسكرة، فأدرك أن الإمدادات الخارجية تفرض قوتها لتحدث التغيير في اتفاقات الكتائب المسلحة. ويروي في القصة الفرعية الصوت الذي يسأل عن سيرك في مدينة، كل البنادق فيها مستعدة لاعتباركَ هدفا، وأنت لا تنتمي إلى أي طرف، وتودّ “لو تلقي بهم جميعا في البحر، كي تعود المدينة إلى صفائها القديم قبل نصف قرن من الزمن”.
ينطوي الكثير من القصص على مثل هذا النقد الجارح للمعارضات العسكرية والإسلامية. وبالطبع، دون أي لبْس في الموقف المعارض للنظام. لكنه الورم الذي أصاب المعارضات المسلحة بخاصة، والذي تقصه قصة أبوسالم من جبهة النصرة، منذ عهده بأفغانستان والعراق ومخيم البارد (طرابلس لبنان) إلى سجن صيدنايا، حيث يثير شكوك الراوي إفراجُ النظام عن أبوسالم وأمثاله. وكذلك هي قصة “أبوضرار” الذي دوهمت مزرعته واعتقل واعترف بمصادرته أنابيب الأوكسجين من المركز الصحي لبيعها في السوق السوداء، وبتسليمه للجبهة الجنوبية، حيث تقاتل المعارضة المسلحة، مقابل 35 مليون ليرة، وبسفره إلى تركيا مرارا لبيع السيارات التي رحل أصحابها. وقد حكمت عليه المحكمة الشرعية بالإعدام رميا بالرصاص، وليس بالسيف.
من مثل هذه القصص والحكايات المتناسلة، جمع نيكولاس الكثير قبل وصوله إلى حلب. فهذه قصة أمير جلد رجلا تزوج من امرأة خلال فترة العدة بعد مقتل زوجها، وهذه قصص حرق دار السينما الوحيدة في حلب، ومنع العروض المسرحية، ومصادرة وإتلاف حمولات من الخمر. وسوى ذلك كثير كثير.
***
من المؤسف أن قصص الحيّات هذه المرة ليست لليالي السمر التي كانت تحييها الجدات، أو كان يحييها الحكواتي. فقصص الحيّات السورية، كما تناسلت في الروايات الثلاث مجبولة من الدم والرعب والوحشية والدمار، فمتى يتبدل عليها هذا المثل العتيد.