رواية عذراء سنجار
تضعنا رواية «عذراء سنجار» للروائي وارد بدر السالم الصادرة عن منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف/بيروت/2016 أمام سرديات عجائبية للمأساة العراقية، إذ تكشف عن طاقة تمثيلية تتنوع تشكّلاتها الموضوعية والتعبيرية، وعن منظور سردي تتمثل قراءته وكشوفاته مجموعة من الأحداث ذات الطابع الملحمي، ومجموعة من الشهادات عن تفاصيل حياة مسكونة بالوجع والمحو والاستلاب..
تحفل الرواية بلحظة تاريخية عراقية مفارقة، يحتشد فيها استلاب الكائن مع موت المكان، مثلما يتحول فيها زمن الكتابة الى زمن محكوم بالواقع وموته، إذ تتمخض أحداثها عن تمظهرات ومواقيت تُحيل إلى سيمياء الخراب، وتُفضي إلى التقاطات تتفتح عبرها معانٍ شوهاء للوجود، وبما يُعطي للجهد السردي مهمة استثنائية في توصيل الرسالة وفي فتح أفق تتفجر عبره الكثير من شحنات التخيّل، ويتوافر على تقانات لتنمية الاجتهاد الروائي في التحرّي عن محنة الكائن والمكان، وفي الإبانة عن عدمية الزمن..
هذا الثالوث ينطوي على مادة حكائية عميقة الغور في الواقع والتاريخ والوجدان، وعلى سياقٍ تعبيري تتبدى فيه مظاهر الحجب ومظاهر الصراع في آن معا، إذ تتبأّر الأحداث في الرواية عبر ثيمة هذا السياق من خلال البحث عن الغائب، وعبر مقاربة ثيمة الحضور المُستَلب والإيهامي عن هذا الغائب.. أبطالها يخوضون صراعهم من أجل أنسنة هذا الغائب، وتسحير وجوده في فضاء الحكاية، وفي معروضها السردي، ليس للتخفيف من قسوة الواقع/الوثيقة/الشهادة بل لإعطاء هذا العرض/الخطاب نوعا من المفارقة الحرّة، تلك التي قد تعطي للقراءة هامشا لتقصّي وجود ضديّ، أو تحقق سيميائي خلف أقنعة (الموت العلني) إذ تموّل القراءة البصرية المشهدَ بنوعٍ من التحوّل، مثلما تُسبغ على الجسد/الأضحية، المُستلَب، والمُغتَصب إيهاما بطاقة فائقة، وبسياق مموّه لمواجهة رمزية القهر والمحو الهوياتي الديني والأنثروبولوجي.
عتبة سيميائية
تقترح عتبةُ العنوان قراءةً لثيمة البحث عن الغائب، فـ»العذراء» تتحول في مجرى الخطاب إلى سيمياء لوجود طهري تعويضي يواجه لعبة المحو التي يتعرض لها المكان، والعذرية هنا هي شفرة الطهر مقابل اغتصاب المكان/تلويثه وهو ما يتبدى عبر إصرار البطل «سربست» في ديمومة عملية البحث عن ابنته «نشتمان» بوصفها سيرورة للبحث عن الغائب الطاهر.
عبر شفرة هذه العتبة المشهدية نعاين الكثير من الأحداث التي يختلط فيها الواقعي بالسردي، التخيّلي بالسحري، فهي ليست صيغة خطاب مسرود ذاتي، بل هي مجموعة من الصيغ التي يصنعها اللاوعي الجمعي، والتي تتشكل تبعا لتصعيد الأحداث، فهي تتّكئ على ثيمة البحث، وعلى تبئيرها، لكنها تتجه بالمقابل إلى أن تكون مركزا لتشكيل زاوية نظر تحتفظ بـ»المسافة والمنظور» كما يسميها سعيد يقطين، لكي تعزز هذا البحث وتضاعف صوره عبر ما يسّاقط من وجدان جميع الضحايا، وللاستدلال عبرها عن شفرات الفقد/الخطف/الاغتصاب، بوصفها خطابا سيميائيا للراوي وللشخصيات، وللكشف عن البشاعة «الأنثربولوجية» التي بلغتها الوقائع في مدينة سنجار.
عتبة السيمياء تقترن بالمعروض السردي، وبالإخبار عن تمثلات هذا المعروض، فـ»الكل» يعيشون هواجس الضحايا، والكل يتسترون بما هو ضدّيّ (أسماء، هويات، أقنعة دينية) و»الكل» ينتظرون -أيضا- خلاصا قدريا، و»الكل» يعيشون أوهامهم عبر إنتاج الكثير من العلامات النفسية والتعبيرية والسحرية للإيهام بذلك الخلاص عبر استيهامات فيها الكثير من السحري والفنطازي والتخيّلي الديني حسب ما يقترحه الروائي من خلال إيراد استهلالات دينية وشعرية من الموروث الأيزيدي.
العناوين الفرعية للرواية لا تنفصل عن تلك العتبة، بل تتحول إلى مجسات سردية للكشف عن سرائرها، ولتوصيف عوالمها ويومياتها، بوصفها عتبات صغيرة للمتن الحكائي، لكنها الأكثر إثارة واستنفارا، إذ تضع فعل القراءة أمام معينات مُغذية للسرد، كالمونولوج، والتذكّر، وأمام لعبة لا يحضر فيها الراوي عبر ضمير «الغائب» بل عبر صيغة الإحالة إلى التنوع في استخدام الضمائر وأزمنتها، وإلى تقانة المكاشفة عبر أحداث تاريخية، أو وقائع أو نصيّات هي الأقرب للوثائق، تلك التي تُسهم سرديا في تفجير شفرة الاستئناف الدائم للبحث عن أسرار الغائب، وأسرار الضحايا، والتي تعيش عاهاتها شخصيات الرواية طوال أحداثها.
فـ»أرامل الرواية» كما يسميها الروائي هي جوهر فاعل في هذا «الفقد»، فهي تحتمل عبر هذا التوصيف التسجيلي مقاربةً لما يتداعى من الأحداث، ولما يجعل من خطابها التبئيري بمثابة مجال نفسي للتعبير، والاعتراف، ولتشكيل مشاهد يتمركز ظاهرها عبر ديالوغات متعددة، ويتجوهر مُضمرها حول الحديث السري التناوبي عن ثيمة «الفقد» وثيمة «البحث عن الغائب» وهوما يستدعي نوعا من «السرد التنكري» حيث النزوع إلى ما يشبه التماس أدوات «الواقعية السحرية» للتخفيف من عبء الواقع وأحداثه، فالروائي يقترح مشهدا حواريا لـ»أبطاله الأرامل» تتأنسن فيه اللغة السردية والشخصيات، وتذوب حدودها عبر حراك الضمائر واحالاتها، ولتصطنع لنا فضاء تجوس فيه عين الكاميرا، بوصفها عينا حيادية، مثلما تتحفز فيه الشخصيات/الضحايا للمشاهرة بحضورها وبتوترها بوصفها من الذوات غير المتواطئة مع الواقع، وتنخرط عبر هذه المفارقة في لعبة البحث عن «غائبها»، والغائب هنا هو «المفقود» وهو أيضا «المدينة» و»الهوية».
التبدلات السردية
لا تشتغل الرواية على صيغة السرد الذاتي للروائي، بل على صيغة المعروض القريب من التسجيل السردي، والذي يتمثل أحداث «احتلال» داعش لمدينة «سنجار» العراقية وتفكيك منظومتها الديموغرافية والدينية والهوياتية، والذي تتشكل أحداثه عبر ما ترويه الشخصيات، ليس بوصفها أقنعة للروائي، بل هي طاقة تشكيلية فاعلة لسردنة الوقائع، ولموضعة خطابها عبر شهادات لا يعمل الراوي فيها سوى ضبط إيقاع عين الكاميرا، وهو بطبيعة الحال مقابل سردي لضبط حركة الضمائر وتمثلاتها النفسية، ولتأطير إحالاتها واستعمالاتها عبر صياغة التحولات داخل الحيز المكاني، وعبر ترسيم علائق شخصياته، وفي إعادة توليف الوثيقة الواقعية عبر تسحيرها، أو عبر تحويلها إلى شهادة غير مباشرة حول ما جرى في المدينة.
زمن الرسالة
لوحة: سمان خوام
ترهين الأحداث باحتلال داعش للمدينة يعني وضعها في سياق زمني له صيغته، وله مهيمناته، فصيغة الخطاب الروائي ستكون هنا رهينة بتوصيف التحولات والاستلابات التي تعيشها الشخصيات، إذ هي تعيش وقائعها وفقدها وكأنها في أرض المتاهة، وبما يجعلها خاضعة لتبدلات قامعة، تقوم على مهيمنة المحو (محو الاسم، والدين والهوية) تلك التي يفرض شروطها ورعبها شخصيات «الغريب» و»الأفغاني» وغيرهما من الذين تستقطبهم أوهام «حروب الجهاد» وتداعياتها العابرة للمدن والهويات، وعبر حواريات تكشف عن رهاب هذه الحروب:
«أنا الآن آزاد.. آزاد المسلم الذي يحمل ورقة التوبة في جيبه.
ابتسمت وهي تقول: كل أسماء السنجاريين تغيرت فلا أستغرب، فقط عيدو ظل على اسمه القديم ولم يدخل في الإسلام، لأنه مجنون كما تعرف..!!
لكني الآن مسلم ولست أيزيديا..ولهذا اسمي آزاد وتركت سربست في الجبل.. أنا الآن تائب يا أخت هههه…» (ص32).
تقوم الرواية على تقانات المشاهد، وعلى تقانة الاسترجاع، وهذا ما يجعل النظر الى فكرة الزمن ترتبط بـ»الزمن الحاضر/زمن الاحتلال» وهو عبارة عن أحداث وصراع وقتل وإعدامات، والزمن الذي تتمثله الشخصيات وهو زمن الحكي، أي الزمن السردي الذي يضعنا داخل علائق مضطربة، وتخيلات نستخلص من خلالها أحداثا متخيلة، تلك التي يصطنع تواتر شفراتها الروائي لكسر مسارها الحكائي من جانب، وللتخفيف من رهاب واقعيتها، وتوحش صورها ومفارقاتها مثل «حصول سربست على ورقة من السماء للتجوّل بين المدن المسبية، طريقة رمي الخال عفدال من السطح واختفائه في الكونكريت، والزوج الذي نبتت في مكان مقتله شجرة تين، وعلاقة الصقر بالمرأة التي يبلغ حملها 12 شهرا وترفض الإنجاب، والطريقة التي أخذ بها الصقر عيدو من قفصه لحظة إعدامه بالحرق».
هذه الوقائع الضدية لزمن الموت، وللمسار الحكائي الكرونولوجي تفترض لها زمنا سحريا يتجاوز الواقع، وهو بعض ما عمد إليه الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في روايته «مئة عام من العزلة» حين يعمد إلى تقانة الإخفاء لتفكيك زمن الموت الذي يخص لحظة الموت والهروب، وللإنوجاد في زمن إيهامي ينطوي على ما يشبه الخلاص التطهيري السحري عبر استدعاء «شخصية» المنقذ، تلك التي تكون فائقة، وخارجة عن زمن القصة/زمن الموت إلى زمن متخيل عجائبي/زمن نفي الموت «وبلمح البصر تعلق عيدو بأقدام الصقر الهائج وهو يخطف على رأسه، فكانت لحظة لا يمكن نسيانها وهي تستغرقنا في عجائبيتها الرهيبة حينما طار عيدو وبأذياله نار صغيرة كما لو طرنا معه، وطارت سنجار بأسرها إلى السماء» (ص199).
كثرة المشاهد في الرواية توحي بالكثير من المفارقات، تلك التي يتناوب فيها الزمن السردي مع الزمن الفيزيقي، والذي يوظفه الروائي كإطار لاستقراء الحمولات الدلالية للحدث الكبير/احتلال سنجار، هذا الذي يفضي إلى سردنة استثنائية لهذا الحدث، عبر اعتماد منطق الكشف، وعبر تصميم الشخصيات، وعبر اصطناع زماناتها وعلائقها، وعبر الاستعانة بالمنولوج للتخفيف من حدّة الوقائع، وهو ما يعني الانخراط بالكثير من التداعيات، وأحيانا بالتكرار والتعدد الصوتي للشخصيات، لأن الواقع صار مجالا مشوّها، وأن ضديّته تفترض التخيّل والاسترجاع، وربما الرغبة في أن يتحول الزمن الواقعي إلى ما يشبه الزمن الدائري الذي يدعو إلى «معاودة النظر في هذا البعد على الصعيد النصي بربطه بالدلالة، وذلك من خلال معاينته على صعيد البناء» (تحليل الخطاب الروائي/الزمن السرد/التبئير/ د. سعيد يقطين/المركز الثقافي العربي/الدار البيضاء/ المغرب ط4 2005 ص 163).
هذه القراءة تضع الأبطال/الضحايا داخل فضاء السرد، حيث يكتبون حكاياتهم، وحيث يسترجعون وجودهم عبر تضخيم فكرة الغائي، وعبر توسيع مساحته في المتن السردي، إذ يتحوّل هذا الغائب الى نوع من التشفير بالمقدس، وأن حضور الشخصية واختفاءها سيكون هو المقابل السيميائي لسقوطها وحضورها في الزمن الاستلابي -زمن الخطاب- فعبْرَ ثنائيتي الحضور والاختفاء تفقد هذه الشخصية تمركزها في الواقع، لكنها تنغمر أكثر في سردية المفارقة، تلك التي يتشوّه فيها الاسم، والأنثروبولوجيا الدينية والهوية، وبما يجعلها أكثر استعدادا لتوليد دلالات جديدة، نافرة، بأسطرتها، وسحريتها، تعيش هاجس استعادتها للمقدس الغائب، ورعبها بقهرية الفقد والتحوّل، مثل شخصيات «سربست، دلشاد، سالار».
هذا الزمن يسبغ وجوده القهري على تمثلات هذه الشخصية المتحولة، فهو يُحدث تغييرا جوهريا في كينونتها، وهويتها، ويجرّها إلى محنة التحول السلبي، مثلما جعلها تعيش عبره عُصاب الانهيار والفقد، وهو ما أكسب «مسرودها الذاتي» بُعدا يشتبك فيه المونولوج/ الاعتراف الداخلي مع قصدية الإيهام، إذ تنكسر عندها فكرة تداول الزمن العمومي، الزمن الظاهر، ليكون هناك زمن آخر هو الزمن الذي يعيشه أولا سالار في البئر، والزمن الذي تعيشه المرأة الحامل الرافضة لولادة طفلها، وبالطريقة التي تُعطي لـ»الصوت السردي» تعاليه لأن يكون هو الصوت الأكثر تحفّزا وتعويضا عن فكرة استعادة الغائب والهوية المفقودة والملتاثة برهاب المحو.
الشخصية ورهاب الوقائع
الشخصية في الرواية تُحقق بعدا سيميائيا للحدث، لأنها تضع وجودها في سياق من الانشطار عن الواقع الفاجع، وإعادة تمثّله عبر أسطرته، أي «الارتفاع بفعاليات الشخصيات المركزية وأنشطتها من أرضيتها الواقعية على نحو فضائي يقارب الأسطورة» (محمد صابر عبيد/المغامرة الجمالية للنص الأدبي.. دراسة موسوعية/ مكتبة لبنان. ناشرون/ بيروت 2012 ط1 ص 502). أو عبر توسيع مساحة إشغالها السردية، فالروائي يرسم لنا مشهدا تتشكل فيها شخصيات مضطربة، تعيش محنتها، واستلاب وجودها، لكنها بالمقابل تتحول إلى دوال بطاقة شحن سرديات الرواية، وترسيم وقائعها، وتعرية ما يحوطها من مظاهر للعنف والكراهية والقهر.
فالشخصيات الرئيسة يتمثلها أنموذج الأضحية، والشخصيات الساندة تتمثلها الشخصيات الإخبارية والتمثيلية، والشخصيات العدّوة يضعها الروائي في سياق واحد، على المستوى التوصيفي «سفاح، قاتل، لايرف له جفن» (ص35) و»لحمية حمراء ووجه أسود مجدور» (ص40).
يستثمر الروائي مهارته في صياغة الريبورتاج ليقترح لنا فضاء سرديا يقوم على دراما الشخصيات، أي مسرحتها بطريقة تعبيرية، وإيحائية، إذ تتحول هذه الشخصيات لتصبح هي الوحدات الرئيسية للرواية، ومن خلالها يمكن معاينة الأحداث، فهي تضعنا منذ البدء في حوار سحري وإيهامي بين شخصيات واقعية وغير واقعية، لكن ما يجمعها هو الفقد، وهذا الإطار الجامع هو العنصر الرئيس لتصعيد الحدث، فعبر شفرة الفقد والترمل تتبدى الأحداث، وعبر شفرة البحث عن الغائب تتكشف المقاصد، وحتى الحركة التي تشدّ الشخصيات إلى واقعها، وإلى حلمها وحريتها.. شخصية المكان هي الأكثر تشوها وغيابا وتعرضا للمحو، فسنجار في الجغرافيا وفي قاموس الغزاة هي غيرها «شنكال» في الوجدان الأيزيدي، وما بين هذين الاسمين تتداعى الكثير من الأحداث، وتتشظى الكثير من الأرواح المستلبة والشائهة بين مكانين وهويتين وديانتين.
شخصية عيدو المجنون أكثر شخصيات الرواية تمثلا للتوصيف السردي، فهو يختزن تاريخا طويلا من الأضحيات «ضحية عسكري في معارك نهر جاسم في الحرب العراقية الإيرانية، وضحية للأجهزة الأمنية السابقة، وضحية لفقدان العقل، وضحية لداعش»، تملك هذه الشخصية المركبة أبعادا تخص وظيفتها السردية، وتخص شهادتها في السياق الروائي وفي الأحداث، فهو يشبه شخصية البهلول في المثيولوجيا العربية، يمارس وظيفته في الاحتجاج عبر الشتم والقذف، وعبر الفضح، ومن خلال استخدام ثلاث لغات (العربية والكوردية والتركمانية) لكنه في النهاية سيمتثل لوظيفة الأضحية الطهرية بعد أدائه لوظيفة قتل (الحجي الافغاني) والحكم عليه بالإعدام حرقا.
لوحة: عثمان شبر
شخصية المرأة الحامل هي خليط ما بين الواقعي والسحري، فبيتها هو المكان الأليف للأيزيديين، مقابل الأمكنة العدوة المشحونة بالتوتر والكراهية في سنجار والموصل، وحضورها يُعطي للشخصيات العابرة شحنات من الأمل والبقاء، فهي فقدت زوجها الذي قتل أمامها، وتعيش سرائر علاقتها الملتبسة والتعويضية مع الصقر في إيحاء لإيروسية غائبة، ولوجود قوة روحية تدافع عن المكان، وامتناعها عن إنجاب طفلها الحامل به منذ 12 شهرا هو التعبير عن سحرية الاحتفاظ بالحياة بمواجهة فرضية الموت في الواقع.
شخصية سالار غريبة في خياراتها، فهو يرفض إخراج أولاده خارج البئر، برمزية حضور البئر في المقدس، وبأنه الوجه الآخر لحياة يرفضها، ويكره الاندماج فيها، وأن يجد في الغناء وسيلة صوتية تعويضية إشباعية للتعبير عن وجودهم الإنساني واللساني.
شخصية الشاب المسلم الذي قتل الدواعش كل عائلته يعيش أوهامه في المكان، واغترابه خارج مرجعياته الدينية، فهو يعشق نشتمان الأيزيدية الغائبة، وابنة العم سربست، ويعمل مع الجماعات الإرهابية ليكون عينا باحثة عنها في بيوتات أمراء داعش، لكن وظيفته تظل ساندة، وأن قيمتها الدرامية تحدد في مجال ترميز المشهد، وفي توسيع سيمياء الحدث في سنجار، وفي التعبير عن زيف عوالمه وخطاباته التي حاولت الجماعات الإرهابية تسويقها وفرضها على الناس.
الرواية والبناء الملحمي
إذا كانت الملحمة تحتاج أحيانا الى التمثيل لتجسيد وظيفتها في المحاكاة كما يريد أرسطو، فإن هذا التمثيل يتبدّى عبر العلاقة مع العالم الخارجي وليس مع التاريخ وحكاياته وحسب، وبما يجعل البطل الملحمي هو الوجه الآخر للبطل الروائي الذي يجد في قواه العميقة مجالا تعبيريا عن تمثلات الصراع، وعن وظيفته فيه، بوصفه منقذا أو أضحية أو كما يقول عنه لوكاش بـ»أنه البطل الإشكالي المريب الذي يزج بنفسه في الصراعات بحثا عن القيم المطلقة».
في رواية «عذراء سنجار» نجد الكثير من التمثلات للبنية الملحمية في الرواية عبر الأحداث والصراعات والغزو، وعبر ترسيم «مظاهر الموت الجماعي والتعذيب الجماعي» كما قرأناه في الملاحم، فضلا عن ترسيم صور للبطل الملحمي، البطل الذي يبحث عن غائبه في شخصية العم سربست، وعبر أسفاره المتعددة في الأمكنة، وعبر أقنعته، وعذاباته، وصولا إلى تمثله وظيفة الأضحية ومسلوب الاسم والهوية والدين والمكان والعائلة.
كما نجده في شخصية البطل عيدو/البطل الإشكالي الملتبس والمريب، والحامل على كتفه تاريخا طويلا من العذابات، بدءا من عذابات الحرب والسجن والجنون، وانتهاء بعذاب المواجهة القدرية مع داعش، إذ يقدّم نفسه أضحية وقربانا بعد قتله البطل السلبي كما في الملاحم ليكون منتجا للمعاني السامية.
كما أن شخصية نشتمان المخطوفة هي ذاتها شخصية «هيلين» اليونانية في «حصان طروادة» حيث يشعل هروبها مع باريس الحرب الكبرى بين الأثينيين والطرواديين، واختطاف نشتمان من قبل الدواعش يمثل للروائي بداية الحدث انطلاقا للبحث عن الروح والوجود والطهر في المكان المستلب أو في حصن الحرب الملحمي.
والطقوس الدينية الأيزيدية والتعاويذ والمقامات تشكل في المبنى الروائي نوعا من «السينوغرافيا» التي تعزز المسار الملحمي للرواية ولمظاهر الصراع والتحول في عوالمها.
رواية عذراء سنجار «ملحمة أيزيدية» تلامس عالما مجهولا للقارئ العربي، عالما غارقا بالأسرار والمسكوتات والسحر، فهي ليست رواية «دينية» بقدر ماهي كشوفات ساحرة لجماعات تعيش في شرقنا، لكنها مستلبة أنثربولوجيا، لها طقوسها وعلاماتها ومقاماتها وأنماط عباداتها، ولعل أخطر ما وضعنا فيه الروائي وارد بدر السالم هو مواجهة هذه الكشوفات، والتعرّف على سرائرها، وعلى معاناتها بعد الحروب الدامية، حروب المحو التي فرضتها الجماعات الأصولية الخارجة من أوهام التاريخ وسردياتها الظلامية.