رواية الخلاص الفردي والسرد العربي
باولو كويلهو ذلك الروائي البرازيلي الذي نال شهرة عالمية واسعة، لم ينل الحظ نفسه عند النقاد العالميين والنقاد العرب، وأعتقد أن ذلك يرجع لنوع الرواية التي يقدمها كويلهو، والتي يمكن أن نطلق عليها رواية “الخلاص الفردي”، أي رواية البطل المهموم بأزمته الذاتية والبحث عن خلاصه الفردي في ظل تناقضات العالم المحيطة به. وتتبدى أكثر وأكثر مشكلة كويلهو مع النقد العالمي والعربي، في أنه يقدم الخلاص دائما في صورة روحية وعن طريق أقرب للبطولة والتصالح مع النفس والحكمة في أشكال متعددة، وهو ما يجعلنا نتساءل عن مكانة كويلهو وسط أدب أميركا اللاتينية ومقارنة رواية “الخلاص الفردي” التي يكتبها برواية “الواقعية السحرية” عند ماركيز أو بورخيس.
في رواية “الواقعية السحرية” التي نالت شهرتها العالمية والمرتبطة بأدب أميركا اللاتينية، نجد التمرد على الواقع السياسي العام واستبداد السلطة حاضرا والبطل ليس بطلا فرديا يبحث عن خلاصه الذاتي، ولهذا تجد نقاد اليسار العربي يقدمون ماركيز ورواياته “خريف البطريق” و”الجنرال في المتاهة” و”مائة عام من العزلة” بوصفها من روائع الأدب العالمي، لاشتباك تلك الروايات مباشرة مع المجال السياسي، خاصة لما مثلته أميركا اللاتينية من رمز كلاسيكي في مواجهة التوسع والهيمنة الأميركية أثناء القرن الماضي.
ورغم أن “الواقعية السحرية” تتجاوز لحد بعيد رواية “الواقعية الاشتراكية” وتعبيرها المباشر عن الصراع في شكله الطبقي، بين أبنية المجتمع كمدرسة أدبية رسمية عبّرت عن الفكر الماركسي وارتبطت به، إلا أن موقف الماركسيين من فكرة الفرد البطل في رواية “الخلاص الفردي” والأخلاق والمثل عند كويلهو، جعلهم دائما يضعون ماركيز على رأس أدب أميركا اللاتينية ويتجاهلون كويلهو.
للأمر أيضا علاقة بفكرة التراتبية في الفكر الاستعماري الأوروبي، حيث يكتب كويلهو بالبرتغالية بينما كتب ماركيز بالإسبانية، ورغم كل ما يشاع عن عدالة الثقافة الأوروبية إلا أنها في نواح عديدة ثقافة رتب ودرجات، تضع اللغة الإنجليزية والفرنسية في المقام الأول، ثم الألمانية والإيطالية والإسبانية، ولا تعير انتباها كبيرا لبقية اللغات الأوروبية.
إلا أن كويلهو استطاع تجاوز ماكينة تشكيل النمط الأدبي وتوجيه الذوق الفني المنتشر في العالم كله، فحققت روايته “الكيميائي” نجاحا فاق التوقعات وباعت حوالي 150 مليون نسخة في مختلف اللغات المترجمة إليها، وتوالت نجاحاته في “الجبل الخامس″ و”على نهر بيدرا جلست وبكيت” و”الحاج” و”بريدا”، وغيرها.
وأعتقد أن نجاح كويلهو تواكب أيضا مع مرحلة انحسار أثر ما بعد الحداثة وأزمة بحث أوروبا عن فكرة جديدة تعيد لها توازنها، فما بعد الحداثة لم تحقق لأوروبا حتى الآن سوى التنفيس عن الغضب جراء فشل أطروحتها عن مركزية العقل وقدرته على تقديم نموذج الحداثة، حتى أفكار “ما بعد الاستعمار” وغيرها ما تزال محاولات نخبوية تحتاج لنموذج حضاري تطبيقي واقعي لتسير على الأرض وتدب فيها الحياة.
من زاوية أخرى يمكن تفسير نجاح روايات كويلهو بين شباب العالم، على أنه إشارة لتمردهم على أشكال البطل الأيديولوجي الجامد من جهة، وعلى شكل البطل العبثي المتبلد تجاه الواقع من جهة أخرى في روايات “الديستوبيا”، أو روايات المدينة الآفلة إذا كانت “اليوتوبيا” تعني المدينة الفاضلة.
وقد انتشرت “روايات الديستوبيا” في مصر والمنطقة العربية مؤخرا، وتميزت بصورة البطل السلبي الذي ينشغل برصد القبح والواقع المرير وهو في حالة انسحاق واستسلام للعجز، على العكس من بعض روايات الديستوبيا العالمية مثل “ألعاب الجوع″ التي يتمرد فيها البطل ويثور على صورة المدينة الفاسدة أو الآفلة.
وترجع صورة البطل السلبي المنسحق في روايات الديستوبيا المصرية خاصة إلى الروايات التي كتبها جيل التسعينات (وبعضهم بدأ شاعرا)، إلى فكرة الهزيمة وإعلان خراب العالم التي ظهرت مع قصيدة النثر المصرية التسعينية، ولم تصل المواجهة إلى ذروتها بين قصيدة النثر التسعينية كشكل أدبي نخبوي وبين جماهير الشعر، إلا عند عودة منصات ميدان التحرير إبان الثورة المصرية في يناير 2011م.
فكيف يمكن لأحد هؤلاء الشعراء أن يخرج للناس ليتحدث عن اليومي والعادي والذاتي والهزيمة والتشيؤ وكتابة الجسد والعزلة، في حين تبحث الجماهير عن استعادة الحس الجماعي وحلم النهضة مجددا، وتشغلها الأحوال العامة للبلاد.
ربما يمثل كويلهو حلقة مفقودة في السرد العربي، فعلى العكس من تيار “الواقعية السحرية” الذي انتشر في العالم العربي، لم يجد كويلهو من يروج له نقديا في المشهد العربي، وأعتقد أن ذلك يرجع إلى حالة الفصام السائدة الآن بين النخبة المنتقاة وبين الجماهير، فالنخبة في معظمها الآن إما نخبة رسمية تروج للأدب الهامشي الذي لا يستعيد حالة الجماعة المصرية، وإما نخبة معارضة تصر على كتابة أدبية أيديولوجية تصادر على الحلم، فإما أن يتحقق على طريقتها أو لا يتحقق أبدا.
من هنا يبدو كويلهو في رواية “الخلاص الفردي” حلقة مفقودة في السرد العربي، ربما حلقة تفضي في ما بعد لاجتماع تلك الخلاصات الفردية في حاضنة جماعية تلتفت لأزمة الإنسان العربي الراهنة، بعد أن انتكست -مرحليا- معظم الثورات العربية وعادت الأبنية السياسية العتيقة للحكم أكثر قسوة وقمعا وتجبرا.
يظهر السؤال هنا، هل تكون رواية “الخلاص الفردي” لـ”كويلهو” ونجاحها على المستوى الشعبي العربي، إشارة لمرحلة نفسية يتمكن فيها الشباب العربي من امتلاك “الخلاص الفردي” أولا، تمهيدا لخلاص جماعي قد يأتي لاحقا! هل يمكن أن ينطلق البطل بعد تحققه فرديا وانتصاره على هواجسه الخاصة، لإطار البحث عن الخلاص الجماعي!
إن الواقع الاجتماعي لـ”كويلهو” جعل رواياته التي تعكس كثيرا من تفاصيل حياته وسيرته الخاصة، تقف عند مساحة البحث عن الخلاص الفردي، الذي عادة ما وجده البطل في الخلاص الروحي والديني بعد تجربة وصعاب وترحال، وكأنه يقدم صورة جديدة من “الوجودية المؤمنة” عند كيركيغارد حيث يكتشف الإنسان ربه وحده بعيدا عن المذاهب والطرق الدينية السائدة والجاهزة.
لكن الواقع الاجتماعي العربي في تقديمه لصورة البطل الذي تتنازعه الدوافع ويبحث عن نجاته، لا بد سيتجاوز صورة “الخلاص الفردي” ويعتبرها مرحلة تطهر فردي ضرورية، للمشاركة لاحقا في حالة البحث عن “الخلاص الجماعي”.
رواية الجماعة المصرية وعلاقتها بالخلاص الفردي؛ ذلك ما قد ينبئ عنه التدافع في المشهد السردي المصري في الفترة القادمة، خاصة أن الصدام بين المشهد النخبوي وبين المشهد خارج الأبنية التقليدية؛ شهد عدة انفجارات في المرحلة الأخيرة كشفت عن الفجوة بين الاحتياجات الواسعة للجماهير، والمنتجات الجامدة التي تعرضها عليها النخبة التقليدية، وكانت وفاة الروائي د.خالد أحمد توفيق وأثرها الجماهيري الواسع، ودهشة النخبة التقليدية ورد فعلها تجاهها نموذجا لحالة الفجوة تلك.