روح المراهقة
ما المراهقة؟
ليس الجواب عن هذا السؤال بالأمر السهل، فالفلسفة، لأسباب أجهلها، لم تنشغل بهذا المفهوم، فليس لدينا ما نتزود به ممّا يسهل علينا الوصول إلى تعريف فلسفي، إلا بعض شذرات لا قيمة لها تتحدث عن تعليم الفلسفة للمراهق.
بيولوجيا تنتمي الفئة العمرية من سن الرابعة عشرة حتى الرابعة والعشرين (يُختلف أحيانا في السن) إلى مرحلة المراهقة، وهذه مرحلة تشهد نموا جسديا وهرمونيا وتغيرا نفسيا وعقليا يقيم قطيعة ظاهرية مع مرحلة الطفولة.
في هذه المرحلة ينشأ الوعي الذاتي بالأنا، وتتغير الحاجات، وتنشأ الرغبة في الانزياح عن المألوف، وتظهر عاطفة الحب بطابعها الرومانسي، ويغوص الفتى في عالم الأحلام، والتخيلات، وتنمو لديه روح المغامرة، ونزعة التحرر من السلطة، وبخاصة السلطة الأسرية.
لكن هذا العالم المعروف والملاحظ حسيا وواقعيا، والمفسَّر علميا، على أهميته في علم التربية، لا يقول شيئا كثيرا عن المراهقة بوصفها حالة أنطولوجية كلية، أي لا يقول شيئا عن روح المراهقة كما تطمح الفلسفة.
لا شك في أننا نجرد روح المراهقة من تعيّنات المراهقة رغم اختلاف الشروط الأسرية والطبقية والمحلية التي ينشأ فيها المراهقون ويعيشون، فاختلاف سلوك المراهقين باختلاف هذه الشروط المعيشة لا يغير من ماهية المراهقة التي سميناها روح المراهقة، الدالة على المعنى الأنطولوجي للمراهقة، والمقصود بالمعنى الأنطولوجي هو أن المراهقة هي نمط وجود للإنسان، ذو تعيّن متعدد في السلوك والنظرة إلى العالم، لا يعود إلى ارتباط مباشر بالمرحلة العمرية التي تتحدث عنها البيولوجيا وعلم النفس كما قلنا أعلاه.
حين تعلن الذات عن وصولها إلى مرحلة المراهقة، فإنها تعبر أول ما تعبر عن نفسها بالتمرّد الكلي. والتمرّد الكلي هنا تمرّد وجودي وليس تمرّدا على وضع من أوضاع الذات أملا بتحسين وضعها، بل هو التمرّد بالمعنى الذي أشار إليه ألبير كامو في كتابه «فلسفة التمرّد». أي التمرّد الميتافيزيقي، تمرّد على العالم. فروح المراهقة هنا تظهر ما سميته مرة بالنزعة اللائية. إن «اللاء» هنا التعبير عن أول وعي بالحرية
فروح المراهقة تسكن أنواتٍ بوصفها ذات معنى وجودي ونظرة إلى الحياة، وليس بوصفها لحظة عابرة تزول بزوال العمر الذي نشأت فيه وتطورت. وعندها تكون الذوات التي فقدت روح المراهقة قد فقدت السمات الأكثر تألقا للنفس.
فالأنا التي تتعين بفترة الحياة بين سني 14 و24 هي ذاتها التي تستمر في الظهور حتى لحظة العدم. حتى الشعور بحالات الإحباط واليأس والقنوط التي تظهر في المراحل المتقدمة أو المتأخرة من العمر لا تُفهم إلا بوصفها هزيمة روح المراهقة، وبالقياس إلى المعنى الوجودي لروح المراهقة.
والكائنات التي فقدت روح المراهقة هي الكائنات التي تحوّلت من الوجود لذاته إلى الوجود في ذاته.
فالأنا التي خرجت إلى العلن، في فترة المراهقة، بوصفها مشروع وجود ممتلئا بالحرية هي الوجود لذاته بالمعنى السارتري للكلمة. وحين تستمر الأنا وجودا لذاته فإنها تحتفظ بتلك الروح المراهقة، وبالعكس إذا فقدت الأنا وعيها بذاتها على أنها مشروع، أو وجود لذاته، فقدت روح المراهقة وتحولت إلى وجود في ذاته، والوجود في ذاته بهذا المعنى ليس إلا تحول الذات إلى شيء من الأشياء فاقد للحرية والإرادة، وما يجب أن يكون غارقا في ما هو كائن بنوع من الرضا المقيت.
المراهقة وروح التمرد
حين تعلن الذات عن وصولها إلى مرحلة المراهقة، فإنها تعبر أول ما تعبر عن نفسها بالتمرّد الكلي. والتمرّد الكلي هنا تمرّد وجودي وليس تمرّدا على وضع من أوضاع الذات أملا بتحسين وضعها، بل هو التمرّد بالمعنى الذي أشار إليه ألبير كامو في كتابه «فلسفة التمرّد». أي التمرّد الميتافيزيقي، تمرّد على العالم. فروح المراهقة هنا تظهر ما سميته مرة بالنزعة اللائية. إن «اللاء» هنا التعبير عن أول وعي بالحرية، المراهق انتقل من حرية الطفل التي لا يعيها، إلى ذات أصبحت، بفضل وعيها لأناها، واعية بحريتها، وبفضل وعيها بحريتها نمت لديها قوة الرفض المعبر عنها بـ»لا» المتمردة والتي تميز روح المراهقة، حتى ليمكن القول إن روح المراهقة هي روح التمرّد. والذي يظهر في سلوك التأفف من كل ما كان يألفه الطفل. فما كان الطفل متكيّفا عليه لم يعد ذا قيمة، وصارت أمام المراهقة بوصفها تأففا مهمة إعادة التكيّف مع العالم، فليس المراهق هو الكائن الجديد بل العالم كله بالنسبة إليه جديد ويحتاج إلى عملية تكيّف جديدة.
هنا بالذات يظهر التوتر والصراع في الذات الجديدة، التوتر هو النتيجة الضرورية لروح التمرّد. هذه الروح التي تجد نفسها لأول مرة أمام اتخاذ قرارات متعلقة بالمصير.
هذا الوصف المجرّد يتعين على أنحاء مختلفة، وإن كان مشتركا لدى جميع المراهقين.
لأن المراهق يحضر بوصفه تاريخ طفولة وتربية ودرجات قمع وحياة حب أو عنف أو فقر أو دعة أو حرمان، يحضر كل المكبوت اللاشعوري. أجل إنه كينونة جديدة.
ولكن روح المراهقة ترافقه طوال مسار حياته، بل هي التي تحدد ظهوره في الحياة.
فإذا انطوى التمرّد والتأفف المراهقي على خوف من المجهول، ومن السلطة الأبوية القامعة، وأدّى إلى العزلة والانطواء، رافقت حالة العزلة والانطواء الذات دون أن تكون الذات قادرة على التخلص منها قط.
أما إذا انطوت روح المراهق المتمرّد والمتأفف على حب المغامرة، فإن الذات هنا تكون على علاقة مباشرة بالخطر. ففي الحالات التي تكون فيها روح المراهقة عائشة في مجتمع مستقر، فإن روح التمرّد تتعيّن في المغامرة التي لا تنطوي على خطر كبير، إنها مغامرة سفر، انفصال عن الأسرة، هروب من المدرسة، حبّ يصل حدّ الهوى، حبّ امرأة لها من العمر ما يزيد عن عمره، هجرة إلى بلاد أخرى، اختيار مهنة يحبها ولا تحوز على موافقة الأهل.
في الستينات من القرن الماضي ظهرت روح المراهقة المتمرّدة والمغامرة بصورتين ساطعتين في الغرب، والغرب مجتمعات مستقرة نسبيا متجاوزة مآسي الحرب العالمية الثانية؛ ظاهرة الهيبيز وثورة الطلاب في فرنسا.
أما ظاهرة الهيبيز (Hippies) والتي ظهرت كحركة مراهقين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة في الولايات المتحدة إبّان الستينات، ما لبثت أن انتشرت في كل دول أوروبا. كانت ظاهرة الهيبيز أسطع ظاهرة في معاداة الجانب المتوحش من الرأسمالية، ظاهرة احتجاج تمّت خارج الحركات الشيوعية والعمالية ضدّ اغتراب الإنسان في عالم التقنية والسلعة والحاجات التي يخلقها الرأسمال. ولقد امتلأت الجامعات بالآلاف من الطلاب المتمردين على القيم الأميركية، وراحوا يدافعون عن الحبّ والحرية والسلام. وتعبيرا عن نزعة الرفض والتمرّد راحوا يميزون أنفسهم بالمظهر الخارجي ذي الرداء البسيط والزِّيّ، وإطالة الشعر. فضلا عن انتقال الكثير منهم إلى بلدان الشرق الآسيوي القديم، كبلاد العرب وبلاد الهند علّهم يجدون الراحة والهدوء في العالم الروحي- الطبيعي.
بينما كان أكبر انفجار لروح المراهقة في التاريخ هو ثورة الطلاب في فرنسا سنة 1968. لقد خرج المراهقون هذه المرة إلى الشوارع في عملية احتجاج ثورية لتغيير الوجود الفرنسي وليس لتغيير النظام. خرجوا متمردين على النظام الأبوي القارّ في الأسرة والمؤسسة والسلطة، رافعين شعار «منع الممنوع»، محتجين على القوانين المانعة للحرية، رافضين سلطة الرأسمالية المتوحشة التي بسببها راح الطلاب والعمال يعيشون حالة الحرمان. لقد حملت ثورة الطلاب كلا من سارتر وفوكو ودولوز على الاندراج فيها، فضلا عن الكثير من الفنانين والشعراء.
أرعبت ثورة المراهقين هذه شارل ديغول بطل تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني، صحيح أن تحالف اليمين الفرنسي مع اليسار الستاليني- الشيوعي قد أجهض الحراك الطلابي لكن روح ثورة الطلاب مازالت تسري في المجتمع الفرنسي.
أما إذا ترافق انفجار روح المراهقة مع مجتمع يعيش حالات من التغيرات الرديكالية وعلى أعتاب تحولات رديكالية أو في مجتمع تأكله حرب أهلية، فإن جمهور المراهقين في الغالب من المغامرين الذين يذهبون للخطر بكل سعادة.
لقد وجد جمهور كبير من الشباب الفلسطيني بالمخيمات وغير المخيمات في انطلاق الثورة الفلسطينية ضالتهم في خوض المغامرة الوجودية. ففكرة الوطن والتحرير والعودة والتي كانت خالية من معاني الجهاد والجنة كانت جوهر التمرّد المغامر وركوب الخطر.
لقد كان الشباب الفلسطيني والعربي عموما يعيش مناخات رديكالية عالمية، وفكرة الثورة على الصهيونية عكست تلك الميول الثورية الشبابية الطافحة بروح المراهقة المتمردة.
وفي صباح كل عيد تُحمل أطنان من أغصان الآس إلى مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك لتوضع على قبور، أغلبُ أعمار ساكنيها بين السادسة عشرة والرابعة والعشرين.
بل لقد تحولت الثورة الفلسطينية بما هي حالة تمرّد قصوى إلى موقع خلاصي لعدد كبير من المراهقين السوريين واللبنانيين والعرب عموما، ومن كل أنواع الفئات الاجتماعية. وراحت تلهمهم معنى الفداء. وكل ذلك جرى في مناخ الظاهرة الجيفارية، حيث تحوّل جيفارا في حياته وموته إلى مثل أعلى للتمرّد والفداء.
الأيديولوجيا وروح المراهقة
يمكن القول بكل اطمئنان بأن الأيديولوجيا مصيدة المراهقين، وهي الأكثر قدرة على الجذب والإغراء لهذا العالم؛ عالم المراهقة. وتفسير ذلك أن الأيديولوجيا تستجيب لنزعتين أساسيتين من نزعات المراهق: الرومانسية والطوباوية. وهما نزعتان مترابطتان غالبا. فروح المراهقة روح وجدانية حدسية عاطفية تسحرها الأهداف العظيمة بكل ما يكتنف هذه الأهداف من غموض ولاعقلانية، ويزداد سحر الأيدلوجيات تأثيرا أكثر كلما كانت الآمال المستحيلة فيها أكثر، وصورة المستقبل زاهية أكثر.
وغالبا ما تعيش الأوتوبيا والأيديولوجيا معا وتموتان معا، ففي كل أيديولوجيا أوتوبيا وفي كل أوتوبيا أيديولوجيا. وكلتاهما تنطويان على الوعد، على مستقبل متجاوزٍ للواقع. وروح الرومانسية قابعة في قلب الأوتوبيا أصلا. حتى ليمكن القول بأن روح المراهقة تتعيّن في الأيديولوجيا.
لندقق في هذه الفرضية التي نطرحها انطلاقا من حال الأيديولوجيات العربية أيام ازدهارها، وقبل أن تصبح جزءا من المستنقع العربي الراهن.
فلقد انخرط الشباب العربي في ثلاثة أنماط من الأيديولوجيات الكبرى: القومية والشيوعية والإسلامية بدءا من أوائل القرن العشرين حتى نهاية السبعينات.
كانت النزعة الطوباوية من حيث هي قوة للإغراء نادرا ما نجا منها جيل من الشباب في بداياتها.
وروح المراهقة لا تطرح على نفسها السؤال حول واقعية الفكرة، بل تتوحد مع الفكرة بشكل صوفي. فالأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة والمعبر عنها بكلمة وجدانية مؤثرة «البعث»، وهي تستعيد ذكريات المجد المسطورة في الكتب والقارّة في الذاكرة، والمتداولة في الخطاب الشفهي، واستعادة الاعتداد بكل هذا وبالانتماء إلى «العروبة»، كلّ هذا لم يترك أيّ تحفظ للسؤال لدى روح المراهقة الجامحة، والحاوية في الأصل على حظ من ثقافة مهيّأة لذلك.
يظن بعض الناس أن الفيلسوف، وهو الحكيم، مبدع تجاوز روح المراهقة ووصل إلى درجة العقل الذي يفهم ويفسر بأداة المنطق الصارمة. أن يكون الفيلسوف عقلا يفهم ويفسر ويتمنطق، فهذا صحيح، أما أن يكون قد غادر روح المراهقة فهذا ينتمي إلى بعض الظن الذي هو إثم. فإذا كان الشاعر ذروة روح المراهقة الجمالية المبدعة
وقس على ذلك الخطاب السوري القومي المتشابه جدا في جوهره للخطاب القومي العربي، مع اختلاف حجم المقدّس القومي وحدوده وتاريخه.
بينما انطوت الأيديولوجيا الإسلاموية بكل أشكالها على ما انطوى عليه الخطاب القومي، ولكنها زادت عليه المقدّس الإلهي والشهادة في سبيل الله وأمر الله، كانت فكرتا البعث العربي والبعث الإسلامي تقومان على أن هناك تاريخا أثيرا يجب بعثه، فقامت هذه الرومانسية التاريخية بدور الجاذب لروح ترفض الواقع المرفوض الذي يعود وجوده إلى آخر يكره العرب والمسلمين.
أما روح المراهقة التي تنتمي إلى حس أخلاقي عالٍ بفكرة المساواة بين البشر، ونزعة رديكالية ضد القيم السائدة التي تعبر عن التفاوت بين البشر، فقد وجدت ضالتها في أوتوبيا مجتمع بلا طبقات، وبشرية أممية بلا عنصريات، وجنة على هذه الأرض يعيش فيها الناس كل حسب حاجته في مجتمع شيوعي أشبه بالمدينة الفاضلة.
والحق بأن الإغراء بالجنة الأرضية لا يختلف عن الإغراء بالجنة السماوية، وإن كانت الجنة السماوية أكثر تجذّرا في الوعي من الجنة الأرضية.
ولقد شهدت المنطقة صراعات بين هذه المصيدات الثلاث؛ صراعات على المصير المتخيل، صراعات مازالت بقاياها حاضرة حتى الآن.
فضلا عن ذلك فإن جميع الحروب الأهلية لا يمكنها أن تستمر إلا إذا تخفّت وراء المصيدة الأيديولوجية، وهي حروب مادتها الأساسية الفئة العمرية بين 16 و25 سنة، أي الفئة التي تتمتع بروح المراهقة. والمصيدة الأيديولوجية للحروب الأهلية إما مؤسسة على فكرة قومية- إثنية وإما على فكرة دينية، أو على الفكرتين معا.
والموت في سبيل فكرة أثمن من الذات، والقتل لكائن آخر لا قيمة له بالقياس إلى الفكرة، هو ذَاك جوهر المصيدة الأيديولوجية للحرب الأهلية. وهذه المصيدة تلتهم روح المراهقة التهاما، إنها الوقود الذي من دونه لن تنفجر الحروب الأهلية ولن تستمر.
المبدع وروح المراهقة
تقول فرضيتي حول العلاقة بين المبدع وروح المراهقة: إن المبدع موهبة تحتفظ بروح المراهقة حتى النهاية. ومن أبدع مراهقا وكفّ عن الإبداع شيخا فهو من ماتت فيه روح المراهقة.
فالمبدع يحتفظ بكل صفات روح المراهقة التي ذكرت ويعيّنها فيما يبدع. فهو رومانسي طوباوي متمرّد حدسي حساس، إلخ. إن شئتم قولوا المبدع روح المراهقة الموهوبة المصقولة ثقافيا ومعرفيا. وتجربة شهوة الحضور عند مراهقي طلاب المرحلة الإعدادية والثانوية عبر كتابة الشعر والخواطر وعبر الرسم تكاد تكون عامة، لكن روح المراهقة الموهوبة وحدها هي التي تستمر في الحضور إبداعا.
ونحن لا نجد كبير عناء في تتبع روح المراهقة المبدعة لدى الشاعر الشاعر، ولا يضير فرضيتنا مثل أو أكثر مما يعارضها أو ينفيها، فالاستثناء يؤكد القاعدة. والسيرة الذاتية الشعرية للشاعر المبدع، مهما تنوّعت موضوعاتها، وصقلت أساليبها، واغتنت بمفرداتها، تظلّ محافظة على الروح الأولى التي فجّرتها. فبين قصيدتي محمود درويش «سجّل أنا عربي» و»أحمد العربي» فرق في درجة الشعرية لكن روح الشاعر واحدة، وليس للشاعر أن يحافظ على روح شعريته بقرار واعٍ منه، بل هي روح المراهقة التي لم تغادره. فروح التمرّد النزارية ظلت حاضرة في شعره من قصيدته «لوليتا» حتى قصيدته «رسالة من تحت التراب».
وإن روح التمرّد لا تغادر الشاعر أبدا، بدءا من تمرّده على اللغة المألوفة، مرورا بتمرّده على الواقع وانتهاء بتمرّده على الوعي. فشيخ المعرّة -رهين المحبسين- ظل روحا وقّادة، متأففا من الوعي العامي واللاهوتي حتى نهاية حياته. والخيال الشعري لا يسمح للشاعر بمغادرة روح المراهقة، فإذا كان التخيل أحد معالم بلوغ الكائن مرحلة المراهقة، كما يقول علم النفس، فإن الخيال المبدع لدى الشاعر هو استمرار لهذا النزوع نحو التجاوز على نحو خلّاق.
وليست روح المراهقة مرتبطة باستمرار عاطفة الحب التي لا تغادر الشاعر، واحتفاله الدائم بالمرأة فحسب، وإنما تظل أيضا حاضرة، احتفالا بالبيان ذروة الوعي الجمالي، فالجمالي في الشعر احتفال بالوجود والحياة بلغة راحت تقيم العلائق بين الكلمات لتصوغ منها السحر البياني.
ولا يختلف الرسام والنحات عن الشاعر إلا بأسلوب روح المراهقة- اللوحة والتمثال. وروح اللعب هنا حاضرة حضورا قويا، اللعب بالألوان والحجر، وما روح اللعب إلا روح المراهقة المبدعة.
ومن ذَا الذي يستطيع أن يتخيل مبدعا موسيقيا ليس غارقا، وهو في ذروة إبداعه بشعور الفرح والسعادة والبهجة والطرب والمرح أو الحزن والشجن والشجو واليأس والضيق. إنه وهو يقيم العلاقات بين علامات السلم الموسيقي يعبر عن نمط من تلك العواطف أو أكثر، فيخرج مكبوته حين يؤلف، ويخرج مكبوت السامع.
ويظن بعض الناس أن الفيلسوف، وهو الحكيم، مبدع تجاوز روح المراهقة ووصل إلى درجة العقل الذي يفهم ويفسر بأداة المنطق الصارمة. أن يكون الفيلسوف عقلا يفهم ويفسر ويتمنطق، فهذا صحيح، أما أن يكون قد غادر روح المراهقة فهذا ينتمي إلى بعض الظن الذي هو إثم. فإذا كان الشاعر ذروة روح المراهقة الجمالية المبدعة، فإن الفيلسوف ذروة روح المراهقة العقلية المبدعة.
يقول كاليكليس في محاورة أفلاطون (جورجياس) «إن الفلسفة يا سقراط، من دون شك، لا تخلو من سحر، إذا خصص المرء حياته لها باعتدال في الصغر، ولكن إذا ما كان هناك شخص موهوب واستمر في التفلسف حتى سن النضوج فيستحيل ألا يصير غريبا عن الأشياء التي ينبغي أن يعرفها ليصير إنسانا مهذبا محترما… إن الفلسفة حسنة إذا أخذنا منها ما ينفع للتعليم وليس من عار إذا ما تفلسف الإنسان وهو صغير، ولكن المرء الناضج يأتي شيئا مضحكا يا سقراط إذا ما استمر في التفلسف، وأشعر من ناحيتي إزاء هؤلاء الذين يفعلون ذلك بما أشعر به نفسه حيال رجل يتهته ويلعب كالطفل… عندما يكون المرء صغيرا أتذوق الفلسفة لديه، وتكون في مكانها، وتدل على طبيعة إنسان حر، ويلوح لي الصغير الذي لا يتعاطاها ذَا نفس غير حرة وعاجزة دائما عن أن تسمو إلى شيء نبيل وجميل. ولكني أقول لنفسي يا سقراط عن الرجل الكهل الذي يرى أن يمضي في الفلسفة دون توقف، إن ذلك الرجل جدير بالجلد». (أفلاطون، جورجياس، ترجمة محمد حسن ظاظا، القاهرة، 1970، ص. 90-91).
لا شك في أن هذا النص جاء على لسان أحد المحاورين السفسطائيين لسقراط، وليس هو رأي أفلاطون كما يظن بعض الدارسين، فرأي أفلاطون يأتي على لسان سقراط. وما أوردت هذا النص الطويل موافقة لما جاء فيه من رأي، بل لأكشف عن الترابط بين الإبداع الفلسفي والمراهقة. فالصغير في هذا النص هو المراهق نفسه. وما من فيلسوف تفلسف مراهقا وكفّ عن التفلسف كهلا. فهذا السفسطائي يلتقط روح المراهقة في لحظة تفلسفها، ويرى فيها أمرا محمودا، ومذموما إذا ما استمرّت حاضرة في مرحلة الكهولة. لقد ربط كاليكليس بين تفلسف المراهق والحرية، بل لقد جعل من تفلسف المراهق دلالة على الكائن الحر، وعلى السمو وعلى النبل. وبالعكس، فمن لا يتفلسف مراهقا فهو كائن خالٍ من الشعور بالحرية، وخلا من السمو والنبل.
ولأن التفلسف، بوصفه روح المراهق يظل مستمرا بوصفه نمط وعي الفيلسوف بالعالم حتى الكهولة، فإن روح المراهقة المتوقدة فلسفيا تظل هي روح الفيلسوف.
تتكون روح الفيلسوف الكلية من جملة أرواح متشابكة: التأمل، الشك، التمرد وما يجب أن يكون. أرواح تزهر في لحظة انبلاج صبح روح المراهقة. فما كان موضوع دهشة وتأمل يتحوّل إلى موضوع سؤال، ولأن المراهق سآل فهو سرعان ما يشك في ما سبق وتلقاه من تلقين.
ولا أحتاج إلى أن أضرب الأمثلة من الفلاسفة وحياتهم لأدلل على صحة ما أقول، حسب القارئ العودة إلى تاريخ الفلسفة والفلاسفة من طاليس وحتى جيل دولوز.
وبعد، لقد حاولنا في هذا النص أن نجعل من روح المراهقة مفهوما مجردا كليا، على غير ما اعتاد المتناولون لواقعة المراهقة. والحق أني بعد هذا الجهد المضني الذي بذلته، وجدتني لم أستنفد القول فيه. ولكني وصلت إلى حكم واضح ومتميز وهو: إن المبدع هو ذلك الموهوب الذي تسكنه روح المراهقة الدائمة حتى الوصول إلى بوابة العدم.