روي كويّاس برتغالي بقلب عربيّ

الخميس 2021/07/01
غرافيكس "الجديد"

ا يمكن للتاريخ أن يغفل قيمة الفترة الزمنيّة التي كانت فيها شبه الجزيرة الإيبيريّة تحت الحكم العربي الأندلسي، وذلك من النواحي الفكريّة والعلميّة والثقافيّة والمعماريّة، ولعلّ الأدب كان له نصيبه أيضاً في عمليّة التأثير والتأثّر والتفاعل بين مختلف المكونات داخل شبه الجزيرة تلك، بشقيها الإسباني والبرتغالي، فثمانية قرونٍ متعاقبةٍ من الحكم العربي في تلك البلاد لا بدّ لأدبها أن يأخذ شيئاً من خصائص نظيره العربي وسيماه، ولغاية اليوم لا زال الأدب العربي، بقديمه وجديده، من الأشياء التي تجري العناية بها هناك، وما “المعهد البرتغالي العربيّ للتعاون” إلا ثمرة لجهودٍ متراكمةٍ في بلاد البحّارة لإعادة الوصل بين تراثهم القديم، الذي يعتبر التراث العربي الأندلسي جزءاً منه، وحداثتهم الراهنة التي هي أيضاً تجد في الشعر العربيّ توأماً لها، وشيئاً من استمراريّة تراثها التقليديّ القديم.

ولعلّ الشاعر البرتغالي روي كويّاس (1966) أحد الأصوات الحداثيّة التي تجدُ في الثقافة والأدب العربيّين جزءاً لا يُجتزأ من الأدب البرتغالي الراهن، فصاحب ” ترتيب العالم” لا يكفّ عن استحضار الجغرافيا وشعريّة المكان في نصّه الشعري (وهو ما يمكن اعتباره شيئاً من استعراب الشعر في البرتغال)، وبالتالي يمكن اعتباره من أكثر الشعراء الذين يدركون مدى اتساع نطاق الأثر العربي في الحضارة البرتغاليّة عموماً والأدب خصوصاً.

هنا حوارٌ معه عن تجربته الشعريّة، وعن حاضر البرتغال في الشعر والتزاوج القائم اليوم بين الثقافتين العربيّة والبرتغاليّة، من دون أن نغفل أهميّة الترجمة أثر الثقافة البرتغاليّة على العالم اليوم. وقد قمنا بترجمة مجموعة من قصائد الشاعر.

● الجديد: بعد ثلاث مجموعاتٍ شعريّة وهي “مهنة الجغرافي” و”ترتيب العالم” و”أوروبا”، نجد أنّك توقّفت عن إصدار عملٍ شعريّ لك منذ أكثر من خمس سنوات. هل تصحّ تسمية هذا التوقّف نوعاً من الصمت الشعري الذي يلوذ به الشعراء خلال فتراتٍ متفاوتةٍ من حياتهم؟ وإن كان صمتاً، فكيف تحدّد علاقتك، شعريّاً، معه؟

روي كويّاس: عقب كتابي الأخير “أوروبا” كانت هناك فترةٌ من الصمت بالفعل، صمتٌ اعتقدتُ أنّه موجودٌ دائماً. تعدّ مسألة تأليف عملٍ أدبيّ مهمّةً شاقّة، وأحياناً مرهقةً عقليّاً وحتّى جسديّاً، لذا علينا أن نترك الكتاب يتنفّس، وقبل كلّ شيءٍ أن ندع مشروع الكتاب ذلك ظلّاً لأنفسنا، أو شمساً تشرقُ في صمت.

يعتبر الارتباط بالصمت أمراً جوهريّاً، حتى صمت عدم الكتابة يعتبر ضرباً من ضروب الكتابة. من ناحيةٍ أخرى فإنّ عمل الكتابة – القصيدة هو في الأساس قطعة صمتٍ في حالةٍ نقيّة، في جزءٍ ضئيلٍ من الوقت.

في الوقت الحالي أكتبُ كتابي التالي وأعمل على إكماله، فبعد “أوروبا” حصلتُ على منحةٍ من الحكومة البرتغاليّة للعمل على كتابي الجديد، وذلك كمنحةٍ للإبداع الأدبي من معهد الكتب والمكتبات (Instituto do Livro e das Bibliotecas) التابع لوزارة الثقافة، وكان من المفروض أن يُنشر فعلاً، ولكن مع تداعيات الوباء، كذلك أمام الواجبات الأسرية تجاه أطفالي الصغار، ومع كلّ ما حدث بشكلٍ غير متوقّع، فقد تأخر كلّ شيءٍ للأسف. لكنّني لا زلت متفائلاً بنشره هذا العام.

على أيّ حال، نشرتُ مؤخّراً نصوصاً متفرّقةً، في شكل مختاراتٍ، داخل البرتغال وخارجها (صربيا، روسيا، إسبانيا، بنغلادش، الهند، تلك التي أذكرها حالياً)، كما أنّني أكتب المقالات بحيث أحبّ كتابة المقال الأدبي، وكلّ شيءٍ مرتبطٌ بالغموض.

اكتشاف العالم، اكتشاف المعنى

الجديد: ارتبط الشّاعر القديم بالمعجم الجغرافي لبيئته وللأرض عمومًا حتّى تماهى معها، وأنت تختار عناوين مجموعاتك الشعريّة بناءً على اصطلاحاتٍ جغرافيّةٍ بحتة. ما الّذي يجعل الشعر مرتبطًا في ماهيّته بجغرافيّات الأمكنة والأشياء، وما الذي يضيفه العالم الجغرافيّ للشعر والشعريّة ولا يضيفه غيره لهما؟

روي كويّاس: سؤال مثير للاهتمام ومميّزٌ للغاية، تبدو الإجابة عنه سهلةٌ للغاية، لكنها قد تكون أيضاً صعبةٌ للغاية. منذ أولى كتبي ارتبطت أعمالي ارتباطاً وثيقاً وشكّلت نوعاً من التناسج، كما لو كانت جميع نصوصها متّصلة بشكلٍ لا شعوري ومشكّلةً مشروعاً واحداً، نصّاً واحداً، وطريقةً واحدةً لفهم العالم. هذه الأعمال تشير إلى ذلك الاهتمام بالمناظر الطبيعيّة، ليس كشيءٍ ينبغي وصفه بعناية، بل كشيءٍ يجب اكتشافه، الشعور به وتجربته.

يتولى المؤلف في القصائد دور عالمٍ جغرافيّ من نوع ما في رحلاته، تنزّهاته، في أسفاره من الوديان إلى الجبال، الكثبان، الصحاري، ومن الغابات إلى الجزر المفقودة أو “المدن المدمّرة”، يلاحظ ويبلورُ في هذه المشاهد الطبيعيّة أسطرا وأفكار تتّبعُ ترتيباً في الذاكرة.

وهكذا تصبحُ جميع الأماكن والفضاء والخريطة غير المكتشفة جسماً حيّاً للذاكرة، وكذلك الإمكانية الوحيدة، بالنسبة إلينا، للحفاظ على ذكرياتنا ونقل تلك الذكريات التي ليست لنا. تذكّرنا المباني والمدن والحقول والحدائق أيضًا بأداء الذاكرة والماضي وحياتنا، والتي ليست زمانيّةً فحسب بل، ربما بشكل أكثر أهمية، مكانيةً أيضًا، ودائمًا ما كان وينْفرد جورج سيبالد يكتب عن هذا في كتبه ومقالاته.

هذه وجهةُ نظرٍ تأمّليّة، طريقةٌ فلسفيّةٌ لمحاولة فهم الزمن، ماضينا وحاضرنا وتاريخنا البشري، وأبحث داخل شبكةٍ من النماذج التي يتم من خلالها تعليق الأماكن في حالةٍ من المدّ والجزر.

يحملُ الفكر الأوروبي هذا الظل من مسار المشاة، حيث أن الأفكار والأنظمة العظيمة التي ابتكرها وطورها علماؤه وفلاسفته وكتّابه هي نتيجة، في كثير من الحالات، لسفرٍ جغرافي وروحي، ونتيجة لذلك عبر مفترق طرق العقليات والمشاعر المشتركة في كل أزمنتها وأمكنتها.

في كثيرٍ من الأحيان يُنظرُ إلى أنّ القيام برحلة الحج، بالسفر أو حتّى بالترحال، كعملٍ من أعمال اتّباع الطريق. من الصعب رؤية عمليّةٍ بسيطةٍ، يوميةٍ وضروريةٍ كالسفر أو كأداء الحج، ما لم يتم ذلك بطريقةٍ رمزية أو مجازيّة. ومع ذلك فإنّ القيام بسفرٍ يتطلّب أكثر من ذلك، وهو أن يحرّك المسافر قدميه وروحه، أي أن تتضمّن رحلته الجسديّة في ذات الوقت رحلةً موازيةً ذات طبيعةٍ روحانيّة، ففي رحلة الحج يكون الإطار الذهني الذي يدفع الإنسان إلى الأمام نحو هدفٍ محدّدٍ أكثر أهميّةً من فعل السير الجسدي في الطريق إلى نهايته.

هذا التسلسل الذي قد يتوافق بشكلٍ متساوٍ مع أيّ طقوس سفرٍ، ودور السفر ضمن الأنشطة الفنيّة والثقافيّة ليس بأقل، مع ذلك، من “استعارةٍ لحياة الإنسان على الأرض”، والتي يمكن فهمها من قبل أيّ شخص، وبالتالي فإنّ السفر، بقدر ما يكرر المحاكاة المتسلسلة والمتكررة لحياة الشخص حتى النقطة التي يصل فيها إلى نوبة طويلة بعد الهدف، موجودٌ دائمًا عبر أنظمةٍ المعتقدات إلى الحد الذي يُعتبر ظاهرةً ذات طبيعةٍ عالميّةٍ تقريبًا.

في هذا النوع من الشعر سيكتشف القارئ مناظرَ طبيعيةٍ غير مسبوقة، حاضرًا وماضيًا، حيث إذا انجرف بعيدًا في الجوفية التي تمر بها القصائد فسيسافر إلى أماكن غيرَ مسبوقةٍ في الفكرِ واللغة. الكآبة والضياع تجاه دموع الزمن، مفهوم السفر، الحب المفقود، استجواب المشهد الحميم والتاريخي، هي الموضوعات التي تغطي عملي.

في هذه الحالة سيكون السفر، كونه عمل ترحالٍ وكونه وصلة بين النقاط الجغرافيّة ونقاط البداية والنهاية، صورةً لأحداث واسعة النطاق، ومن بين عددٍ لا يحصى من أنفسنا، هناك نوعٌ من الصورِ الرمزيّة الجغرافية التي تنطفئ واحدةً تلو الأخرى. والأهم من ذلك أنّه يجعلنا نفكّر في أنّ الطريقة التي تلتقي بها التصاوير الطبيعيّة في منظور، مجتمعةً بين الطبيعة والثقافة، بإمكانها جعل الآراء والأفكار والمخاوف البشريّة تتجلّى، وأنّ كلّ شيءٍ هو طريقةٌ صامتةٌ تربطنا بالحياة، وبالتربة والموت واستكشاف المعنى خطوةً بخطوةٍ من العالم.

 

الصوفي والشعري

كتب

الجديد: في شعرك ملامح دينيّة صوفيّة لامعة، واستفاضة في وضع الفروق بين الحياة الدنيويّة والغيبيات. وبين السّخيف والعميق، يقعُ صَوت الشّاعر ويمارس الحفر فيهما كاشفًا عن مكامن القوة والضعف فيهما. كَيف يُساهم الصوفي العميق في تعزيز تجربتك الشعريّة؟

روي كويّاس: أجل، السعادة الصغيرة والمتواضعة دائمًا في متناول أيدينا، وكذلك نجد الجمال الذي يسمو فوقنا، والذي يمكن التماثل به مع الله.

ما يبحثُ عنه شعري باستمرارٍ هو الجمال، وما يلتقطه عملي هو الملموس والأشكال التي تعتبر هي أيضاً مؤقّتة وعابرة، مستكشفاً التوازن بين ما هو مبنيّ وفوضوي، حيث تتواجدُ الموضوعات العظيمة للموت والجمال والذاكرة والمعرفة وتتشابك في مسارٍ واحدٍ استثنائي.

هذا هو التأمّل، وهذه هي الفلسفة والميتافيزيقا التي تقرّبنا من عالمٍ متسامٍ يمكن أن يكون عالم الله. ثمّة بعدٌ للتفكير فيما أكتبه وكأنّ الأماكن التي نمرّ بها، والمشهديات الطبيعيّة، والقصص التي تحدث في حياتنا هي الطريق إلى الفكر، الطريق إلى جوهر الأمور حيث يأتي كلّ شيء.

في هذه الأوقات الغريبة التي نعيشها اليوم في عالمِ العولمة الخبيث، من واجبنا أن نعود مرّة أخرى إلى البعد الفكريّ والبعد الديني. دائماً ثمّة هشاشةٌ في كلّ شيء، ففي هذا العالم المتسامي غير الملموس – على الرغم من العولمة والحاجة إلى السرعة وما إلى ذلك – نجد الإبداع الفني باعتباره انعكاسًا للنشاط الفكري. هنا تظهر الحياة التي تعرفنا والصورة التي تكمن خلف صورةٍ أخرى في طبقات، وتظهر كلّ صورةٍ على مستوى، مرتبطاً بما يسبقها ويتبعها، إذا كان هذا التحوّل قد حدّد مشاركةَ الجنسِ البشري مع العالم. هذه أيضًا تجربةٌ داخليةٌ، فكرةٌ، رؤيةٌ شبه صوفيّةٍ بمعنى الفلسفة والشعر الصوفي، نقاء.

أستحضر الآن ما كتبه الشاعر والفيلسوف الفرنسي فيليب تانسلين عن ترجمة كتابي “ترتيب العالم” المنشورة في فرنسا عن دار لارماتان (L’Harmattan):

“من النظرة المحاصرة في ذاكرة الأصل هذه، والتي تطرح ترتيب الأشياء في تعقيدها السحري، نلتقط الإنسان، الوحش، العناصر وفقًا لمواجهة لا هوادة فيها، رقيقة وعنيفة في آنٍ معاً.

ثمّة كائناتٌ ترسمُ إشارات الصليب، رجالٌ ونساءٌ يصلبون أرواحهم، كلّ حقيقةٍ في حالة تأهّبٍ وكلّ بحثٍ في طور التكوين. تجيءُ أحلامٌ دعماً للقاء حكايةٍ تحكي عن إنسانيّتنا حكمتها الوليدة في الجحيم الأصليّة.

يمرّ الشاعرُ ناقلاً للأبصار بقدر ما يمرّ ناقلاً للبصائر، يباركُ وجوه الزمان والمكان المحبوبين أمس وغداً بالضحك والبكاء.

يُستجوب ترتيب العالم هنا باستمرارٍ من قبل الشاهد – الشاعر، ويتساءل هو نفسه عن شهادته الخاصّة وتشرّد كلماته التي تعبر الحدود كطفل، والنجوم الواقفة على جوعه النهم.

تتغلغل لغة الشاعر أنفاسا ولهيب مسار هذه الترانيم التي تسعى إلى العزلة الأكثر حميميّة في الوجود”.

 

ملمح أوروبي

الجديد: صدرت مجموعتك “أوروبا” عام 2016 بعد مئة عامٍ من دخول البرتغال للحرب العالمية الأولى، ولم تغب بعض نصوص المجموعة عن استعادة الحرب. كيف يجري استذكار البرتغال في الحرب من خلال الأدب البرتغالي؟

روي كويّاس: مجموعة “أوروبا” هي انعكاسٌ لمفهوم أوروبا الذي يحاولُ تكوين صورةٍ للمشهديات الطبيعيّة الحاليّة أو الماضية في الأجواء والأماكن التي يمكن التعرّف عليها أحيانًا، على الرغم من أنها، في بعض الأحيان، قد تكون نتيجة مزيجٍ من أوقاتٍ مختلفة.

في الكتاب فصلٌ تحت عنوان “دموع الحرب العذبة”، وهو مجموعة من القصائد التي تعدّ وجهة نظرٍ سياقيّةٍ حيال معركة السوم عام 1916، كما لو كانت في مكانٍ أو في عدّة أماكن مترابطة فيما بينها، وكما لو أنّ الكاتدرائيّة أقيمت خلال زمنٍ يحتوي على بوادر انقراضها، كلّها مقسّمةٌ على موجاتٍ متناسقةٍ ومتباعدة، سواء أكانت أجزاء من الجغرافيا، من التاريخ، من العمل البشري، من الماضي الفرديّ والمشترك أم من ماضي التقوى. في الأساس، لو أردنا الحرب كفعلٍ ميتافيزيقي، كتأمّلٍ في غايةٍ ما، حيث يقترب الصمت وتبسط الأرض هذا الصمت في المسافة. فجأةً تذكرت استخدام موضوع الحرب، أحد أعظم مواضيع الإنسانية، للحديث عن أشياءَ أخرى، ودائماً ثمّة حزنٌ أكثر من الرعب. في الحقيقة أفكّر دائمًا في التاريخ والذاكرة والتصاوير الطبيعيّة والوقت والحب.

من خلال هذا المعنى، فإنّ الحرب التي تدعو إلى تأمّلٍ فلسفيّ تقدّم رسماً خرائطياً حقيقيّاً لكلّ من القارّة الأوروبيّة وأسس الصوت البشري الهش من خلال القصائد والمذكّرات التي كتبها فلاسفة وشعراء قاتلوا خلالها، وذلك في أكثر أوقاته تنوّعاً وأكثر مساحاتنا الثقافية في طور الاختفاء.

في هذه القصائد تنعكس التجربة الإنكليزية والألمانية للحرب أكثر من التجربة البرتغالية، فقد كتب العديد من الجنود مذكرات ودفاتر حربية كما هو معروف، كما كتب البرتغاليون كذلك، وقد كان هناك العديد من البرتغاليين على الجبهة الغربية في الحرب الأولى من الكتاب والرسامين.

أولئك الفنّانون تركوا أعمالاً مكتوبةً ولوحات، وهذه الأعمال جزءٌ من ذلك الزمن وكان لها تأثيرها في ذلك الوقت، إذ أثّرت الحرب العالمية على الفنّ في جميع أنحاء أوروبا، كما أثّر هذا المقياس أيضاً على الأدب البرتغالي وتميّزه من خلال مرويّات الحداثة في البرتغال وعبر أوروبا.

تميّزت الحداثة البرتغالية، كما هو الحال في البرازيل، بنهجها في الحركات الطليعية خلال ذلك الوقت متجاوزةً المعايير الجمالية القديمة من خلال لغةٍ أدبية مبتكرة، وكان الممثلان الرئيسيان لها هما فرناندو بيسوا وماريو دي سا كارنيرو، مؤسسا مجلة Orpheu التي هدفت إلى نشر المثل العليا الحداثيّة.

بدأنا ننظرُ إلى العالم كواقعٍ في الاختفاء الدائم، كما لو أننا وسط أنقاض أوهامنا، وننظرُ إلى عالمٍ يمكن التشكيك فيه باستمرار.

 

أدب وترجمة

الجديد: هل ثمّة فائدة اليوم لكتابة الشّعر؟ ترجمته؟ نشره؟ أو: ماذا يغيّره الشّعر في وعينا اليوم، علمًا أن هذه الـ”نا” البشريّة ليست واحدةً موحّدة؟

روي كويّاس: سؤالٌ مثيرٌ للاهتمام بلا شك، أعتقد أنّ الإجابة موجودةٌ في سؤالك أستاذ بهاء. علينا التصديق بأنّ الكلمات والكتب واللحظات والموسيقى بإمكانها تغيير حياة كلّ واحدٍ منّا وجميع الشعوب، فهي توفّق بيننا وحياتنا والطبيعة البشريّة. إنّ حبّ الأدب والثقافة هو أفضل حلٍّ بإمكاننا تقديمه للعالم من أجل الإيمان بالمستقبل، فالجمال لا يقلّ أهميّةً عن الحقيقة والعدالة والخير لأنّه يمنحنا المصالحة مع العالم، يؤكّد أفراحنا، يغيّر حياتنا، ويمنحنا سببًا لفهم وقبول رثائنا وعيوبنا.

هذا هو التراث العظيم للشعر والفنّ والثقافة، وذلك من خلال التأثير على حياتنا، من خلال الجمال أو حتى من خلال توكيد المأساة (والتي تحملُ جانباً جماليّاً في بعض الأحيان)، والفنّ يجعلنا نفهم العالم جيراننا بشكلٍ أفضل. كلنا واحد ونفس النوع، الجنس البشري الجميل.

جميعنا نعيش، كبشريّةٍ، أوقاتاً خطرة، أوقاتَ تغيير. لا أعرف في أيّ طريقٍ نسير أو ما إذا كنا نسير بالفعل على أفضل وجه، فأنا متشائمٌ قليلاً، تشاؤمٌ إنسانيٌّ يجب علينا الإدراك من خلاله أن هناك دائمًا أفقًا للهشاشة البشرية في كلّ ما نقوم به. هذه فكرةٌ ملحّةٌ للغايةِ إبّان القرن العشرين.

ما هو التقدّم؟ هل التقدّم جيّد؟ ما هي الحقيقة؟ الحقيقة ليست مفهوماً رياضيّاً وليست الحقيقة المباشرة، فدائماً ما توجد منطقة ظلّ تتّسم بالغموض. نعتقد الآن أنّ كلّ شيءٍ يُشرحُ من خلال علاقةٍ مباشرةٍ مع العالم، من خلال شبكات التواصل الاجتماعي (Facebook) على سبيل المثال. نحن نعيش في زمن التنميط، زمن الشفافيّة المطلقة، لكنّ هذا التنميط يخفي الجوانب الأساسيّة للإنسانيّة، تلك المتعلّقة بالغموض، باللغز والرمز. إنّ مشروع الشفافيّة التامّة المفروض عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعيّ مناهضٌ للثقافة، وذلك بسبب رفضه لكافّة رموز فكرة الفنّ والجمال.

هذه هي الغرضيّة العظيمة للشعر والفن اليوم، ألا وهي مواجهة هذا الوضع، ولكي ندرك أنّ هناك المزيد من الأشياء ينبغي علينا تغيير ضميرنا والإيمان بالبهاء ومصير الجنس البشري.

لذا يتوجّب علينا مواصلة الكتابة والترجمة والنشر ومع بذل جهدٍ كبير، فالترجمة مهمّةٌ جداً وتعدّ غايةً جوهريّة، فدونها لا يحدث أيّ اتصالٍ بين الشعوب ولا يتناقل المعنى، ومن هنا تتزايد أهميّة المترجمين اليوم.

يقدم لنا الفن الموضوعات العظيمة لتاريخ البشرية، فيعطينا مفهوم الأسلاف للوقت والتاريخ والماضي، وفي هذا السياق يعتبر الشعر، الرسم، الموسيقى، الفلسفة، بمثابة أساسيّات، فهي الفكرة.

لا أعرف ما إذا كنت قد أجبت على سؤالك.

 

مغامرة الترجمة

لوحة: فؤاد حمدي
لوحة: فؤاد حمدي

الجديد: لا بد أن أسال أيضا في هذا السياق عن خروج الشعر من بيئته ونزوحه نحو الآخر (الآخرين)، أي الثقافات الأخرى: يضيفُ له أشياء ويخسره أشياء أخرى. بتأمّلك لعملية “الارتحال” هذه، ما الذي يشكّل خطرًا عليه بتحوله إلى ألسنةٍ أخرى؟

روي كويّاس: إنّ عمل الترجمة أساسي، وقد ذكرت ذلك أعلاه بعض الشيء. يمكن للترجمة أن توضّح لنا ما هي إمكانيات الشعر في العالم المعاصر، وما هي الحاجة إلى الشعر في هذا العالم، ويمكننا، على سبيل المثال، اكتشاف مكانة بلد ما وصوته، ويمكننا الاقتراب من القارة. ليست الترجمة إمكانية اكتشاف المعنى اللغوي فقط، بل هي أيضًا اكتشاف البيئة والمراجع الثقافية لمؤلفٍ وكاتبٍ وبلد، فهي تمنحنا هذه الإمكانية لنقل قارّةٍ إلى قارّةٍ أخرى، وتشكيل صوت واحد وهو الصوت البشري.

الترجمة مهمّةٌ للمؤلّفين والمترجمين والقراء أكثر منها للناشرين والنقاد، لنفس الأسباب التي تجعل الأدب مهمًا أيضًا، لأنّها مهمّةٌ لإحساسنا بأنفسنا كبشر.

لن يتمّ إنكارُ هذا الدافع الفنّي والحاجة إلى الفن في جنسنا البشري، فحيثما يوجد أدبٌ تتواجد الترجمة. إنّها بحاجةٍ إلى رعاية الآخرين.

بالطبع تعتبر عمليّة الترجمة معقّدة بالفعل، وهذا هو سبب أساسيّتها. إنّ ترجمة الشعر صعبةٌ للغاية، خاصة عندما نتحدّث عن لغاتٍ وثقافاتٍ مختلفة، وكذلك الحساسيّات التي تبدو متباعدةً في بعض الأحيان رغم تقاربها، وكذلك الأصوات والإيقاعات تبدو مختلفة، كما لو أنّ الأمر بين أوروبا والشرق الأوسط.

ومن خلال هذا المعنى تتجلّى صعوبة عمليّة الترجمة، لكنّها بالتالي أكثر أهميّة. أعتقدُ أنّنا نسعى من خلالها جاهدين للاستماع إلى النسخة الأولى من عمل الشاعر بأكبر قدرٍ ممكنٍ من العمق والكمال، فنكافح لاكتشاف الشحنة اللغويّة والإيقاعات الهيكليّة، وكذلك تعقيدات المعنى والاستدلالات الثقافيّة والاستنتاجات التي تسمح لنا، من خلال هذه النغمات، بالاستقراء والنزوح.

في الترجمة ثمّة خطرٌ دائم مع هذا النزوح، فمن الممكن أن يضيع الإيقاع الأصلي للنص، والأهم من ذلك المعنى، والفكرة الأصليّة للنص.

ومع ذلك، فعندما يكون المترجمُ مترجماً جيّداً ويهتمّ ببنية النص والمعنى، فسيحاولُ أن يجسّد في لغته، أي اللغة الهدف، صوتاً ومعنى، حتى ولو تطلّب الأمر إعادة اختراع هذا المعنى. ولهذا تعتبر الترجمة عملاً إبداعياً، فهي تساعدنا دائماً على المعرفة والرؤية من زاويةٍ مختلفة، وكذلك نسبة قيمةٍ جديدةٍ لما قد يكون غير مألوفٍ في السابق.

وبهذا المعنى تنقل الترجمة الصوت عبر الإنسانية، فتجعلنا نفهم معنى الوجود، ونحن كأممٍ وأفراد بحاجةٍ إلى هذا النوع من الفهم.

 

دي كامويس وبيسوا

● الجديد: عرفنا البرتغال عالماً شعريّاً جميلاً بدءاً من عصر النهضة مع لويس دي كامويس وصولاً إلى العصور الحديثة مع فرناندو بيسوا وأوجينيو دي أندرادي وغيرهم. حدّثنا باختصارٍ عن تطوّر الأدب البرتغالي عبر العصور.

روي كويّاس: اللغة البرتغاليّة لغةٌ عالمية، وواحدةٌ من أكثر اللغات انتشاراً حول العالم، كما هي اللغة العربيّة الجميلة أيضاً وذات الغنى الثقافي الواسع. اللغة البرتغالية هي اليوم تراثٌ ماديّ وغير مادي يوحّد الملايين من الناس حول العالم من البرازيلِ إلى الشرق الأقصى، والأمر نفسه ينطبق على اللغة والثقافة العربيتين، إذ لا يمكننا نسيان تراثنا العربي الرائع.

عندما كنت في الهند، في غوا تحديداً قبل بضع سنوات وبصفتي ضيفاً في معهد كامويس في المدينة، استطعت أن أشهد كيف يتحرّك هذا الأمر، فحتى اليوم لا زالت غوا تتكلّم بالبرتغاليّة وتعدّ لغةً مكتوبة. كما سمعت اللغة البرتغاليّة في شوارع بانجيم وأتيحت لي الفرصة لإلقاء محاضرةٍ على الطلاب البرتغاليين في غوا. كانت واحدةً من أكثر اللحظات إثارةً في حياتي، ألا وهي تمكّني من سماع البرتغاليّة المنطوقة في الهند، في هذا المكان البعيد، وهذا يعني أنّ تاريخ الأدب البرتغالي كان مسؤولاً عن ذلك أيضاً. ليس الأدب البرتغالي هو الأدب المكتوب في البرتغال فحسب، بل هو أيضاً الأدب المكتوب في البلدان الناطقة بالبرتغاليّة كالبرازيل وأنغولا وموزمبيق.. إلخ.

لا يسعني إلا التأكيد أنّ اللغة البرتغاليّة، وكذلك الفنون والعلوم والهندسة المعمارية وما إلى ذلك، تأثرت باللغة العربيّة بشكلٍ كبير، إذ نستخدم اليوم مئات الكلمات والتعابير ذات الأصل العربي، فعلى سبيل المثال كلمة Alforria والتي تعني الحريّة، وكذلك كلمة Alvara ومعناها البراءة، وكلمة Açucar أي السكّر، وعبارة oxalá أي إن شاء الله… كان للغة والثقافة العربية تأثير كبير على اللغة البرتغالية وبالتالي على أدبها، فلا يمكننا تناسي حقبة بلاد الأندلس الرائعة، وهو الاسم الذي أطلقه الفاتحون الإسلاميون على شبه الجزيرة الإيبيرية في القرن الثامن.

ودون أن نخوضَ بعمقٍ في هذا الموضوع، فقد تميّز الأدب البرتغالي أيضاً عبر تاريخه بالحركات العظيمة للأدب العالمي، ولا شكّ أنّ أعظم مؤلفين برتغاليين في كلّ العصور هما لويس دي كامويس وفرناندو بيسوا، الأول خلال القرن السادس عشر والثاني خلال القرن العشرين. ومن المثير للاهتمام أنّ كلا المؤلفين قد عاشا خلال فترتين بارزتين من تاريخ البرتغال: الأول زمن الاكتشافات الجغرافيّة والملاحة البرتغاليّة، والتي ترافقت مع آداب عصر النهضة المستوحاة من الثقافات الكلاسيكيّة الإغريقيّة واليونانيّة؛ والثاني خلال النصف الأول من القرن العشرين الذي تميّز بالحداثة، الحداثة التي اتّبعت الموضوعات الصوفيّة والدينيّة وإضفاء الطابع المثاليّ على الطفولة والريف، وهي التي ميّزت الرمزيّة البرتغاليّة لدى الشاعر سيساريو فيردجي (1855 – 1886). كان للأخير أثرٌ كبيرٌ على السوداويّة البرتغاليّة النموذجيّة لدى فرناندو بيسوا، نظرة حنينٍ معينةٌ إلى لشبونة، شيءٌ مثل مكانٍ ضائعٍ في ضباب الزمان والمكان.

فترةٌ أخرى مثيرةٌ للاهتمام للغاية في الأدب البرتغالي، كما هو الحال في الآداب الأوروبية وخاصة الألمانية والإنكليزية، ألا وهي الفترة الرومانسية المتمثلة بألميدا غاريه وكاميلو كاستيلو برانكو. هذه الفترة، كما هو معروف، قدمت الحب والحنين إلى الماضي والحزن والذاتية وإنقاذ الماضي التاريخي في العصور الوسطى كمواضيع أسطورية ورئيسية. لطالما كانت الرومانسية حركةً مهمةً جدًا بالنسبة إليّ، وأعتقد أنه من المهم للغاية العودة إلى موضوعات الرومانسية في الوقت الحاضر، لأن الجمال في الحياة، في الغابة، في الزخارف، في الهندسة المعمارية، في الكتب وفي الحب الذي لطالما سعت إليه الرومانسية كمثل، في خطر الضياع حاليّاً.

واليوم، في مواجهة الموجة الخبيثة من الهيجان العددي البيروقراطي والإفراط في الرؤية، تذكرنا الرومانسية بالهشاشة، بضوء الشك والاستبطان الباهت، بغير المحسوس والمخفي الذي هو البناء البشري، وبالتاريخ. ويجب أن تُسلِّط رموز الرومانسية الضوء على حياتنا أكثر من أيّ وقتٍ مضى.

في الآونة الأخيرة خلال هذه الفترة المعاصرة، تميّز الأدب البرتغالي بشكلٍ أساسيّ بالكاتب جوزيه ساراماغو الحائز على جائزة نوبل، ويبرز بالإضافة إليه أنطونيو لوبو أنطونيس، بالإضافة إلى العديد من شعرائنا العظماء أمثال روي بيلّو، صوفيا دي ميلو براينر أندرسن، أوجينيو دي أندرادي، غاستاو كروز ونونو جوديسِ.

يجب أن يفوز نونو جوديس، ولحسن الحظّ لا زال على قيد الحياة، بجائزة نوبل، فهو في الواقع يمثّل حزناً برتغاليّاً محدّداً وهامّاً للغاية، ورؤيةٌ لكيفيّة مرور الأوقات العابرة، والمسارات التي نسلكها، وهناك أيضًا تأمّلٌ فلسفيّ أساسي، وبحثٌ عن الجمال من أجلِ الموضوعات العظيمة والأبدية للبشرية.

أريد أن أذكر أنّ هناك العديد من الشعراءِ والكتّاب البرتغاليين الذين كرسوا أنفسهم طوال حياتهم للأدب العربي وترجمة الشعر العربي والترويج له، فالشعر باللغة العربية مهمٌّ جداً في البرتغال ويعتبرُ جزءاً من تاريخنا.

 

ثقافة الحرية

الجديد: كان عام 1974 عام تحوّلٍ تاريخي بالنسبة إلى البرتغال، وذلك جرّاء اندلاع ثورة القرنفل التي أطاحت بدكتاتوريّة “إستادو نوفو”، وتجسّدت ارهاصاتها الأولى في رواية “قطار الليل إلى لشبونة” لباسكال مرسييه. كيف أثّرت هذه الثورة على الحراك الأدبي البرتغالي ككل، وهل تجد نفسك ضمن مجموعة شعراء ما بعد الثورة؟

روي كويّاس: ثمّة دور نشر، مثل دار أوروبا – أميركا (Europe-America) أو دار دون كيشوت (Don Quixote)، قد ظهرت قبل الـ25 من أبريل ولعبت دوراً مهمّاً للغاية، فعلى سبيل المثال أصبحت دار دون كيشوت واحدةً من أبرز الدور في البلاد رغم المشاكل التي واجهتها مع الشرطة الوطنيّة (Polícia internacional e de defesa do estado) والتي تختصر بـ PIDE.

في تلك الفترة ظهر كتّابُ جدد وكتبٌ جديدة، كأنطونيو لوبو أنطونيس، ماريو دي كارفاليو، ليديا جورجي وجوزيه ساراماغو، والذي اكتُشف ككاتبٍ من خلال روايته الأولى “دليل الرسم والكتابة” (Manual de Pintura e Caligrafia) والتي صدرت عام 1977. أمّا الروايات فقد استغرق ظهورها بعض الوقت جرّاء الاضطرابات السياسيّة التي حدثت بعد الـ25 من أبريل مباشرةً بين عامي 1975 و1976. خلال هذا النوع من الانفجار عاشت الكتابة الروائيّة في أزمةٍ لأنّ الناس كانوا وقتها يكتبون عن الموضوعات الراهنة، الأيديولوجيّة والسياسيّة، وقد صدرت عدّة كتبٌ خلال ثورة الـ25 من أبريل ضمن حركة نقباء أبريل.

خلال الثمانينات برز شعر آل برتو بقوّةٍ أكبر، فهذا النوع من الموضوعات المتصدّعة كان معقّداً للغاية قبل الـ25 من أبريل. وثمّة جيلٍ جديدٍ أكثر تحرّراً من أيّ اصطلاحٍ وقيود سيكون له موقفٌ مختلفٌ تجاه الأدب، منها تلك الاختلافات التي تتعلق أيضًا بسهولة السفر والتأثيرات الأوروبية والعلاقات الأخرى مع العالم.

بسبب هذا التنوّع أصبح التحرير نشاطاً مثيراً وبشدّة، حيث أنّ مؤلّفين باتوا ينشرون كتاباً كلّ خمس سنواتٍ ويبدؤون بنشره سنويّاً. هذه المرحلة بأكملها سمحت أيضاً بتوثّق العلاقات بين المؤلفين والقرّاء مع إطلاق الكتب وجلسات التوقيعات ومعارض الكتاب، والتي كانت موجودة فيما مضى لكن تنحصر ضمن نصف دزينةٍ من الأجنحة. وهكذا بات الحراك الأدبي نوعاً من الاحتفاليّة عقب الـ25 من أبريل.

شهدنا في كتابة ومحتوى السنوات القليلة الماضية تغييرات كبيرة، بما في ذلك تدويل المؤلفين البرتغاليين مثل أنطونيو لوبو أنطونيس أو جوزيه ساراماغو، وها نحن أيضاً نشهد عالميّة البرتغال، ففي الوقت الحاضر بات من الطبيعي أن يقوم الكاتب الشاب بجمع المراجع من المؤلفين من جميع أنحاء العالم.

كنتُ طفلاً عندما بدأت ثورة القرنفل ولديّ ذكرياتٌ بعيدةٌ جداً، لكنّني لا أعتبر نفسي من شعراء ما بعد الثورة لأنّ تلك الفترة قد مضت، إذ كان هناك رد فعلٍ لما بعد الثورة في الأدب، بشكل رئيسي وكما ذكرت أعلاه، خلال الثمانينات من القرن الماضي. هذا واختلفت التأثيرات الآن لأنّنا عالمٌ آخر بالفعل، رغم أنّنا ندين جميعاً بحريّتنا لتاريخ الـ25 من أبريل 1974.

 

20000 كلمة عربية

لوحة: فؤاد حمدي
لوحة: فؤاد حمدي

الجديد: عرفت البرتغال في العصور الوسيطة فترة حكمٍ عربي أندلسي، وأهم ما تبقّى من آثارها هي قلعة Paderne إحدى القلاع السبعة التي تزيّن علم البلاد. ما الذي بقي من الثقافة العربيّة اليوم وترك آثاره في الثقافة البرتغالية؟

روي كويّاس: نظراً لموقعها الجغرافي، ظلّت البرتغال، شأنها شأن إسبانيا، مكاناً للقاء مختلف الشعوب عبر تاريخها، فهي نقطة الالتقاء بين المحيط الأطلسيّ والمتوسّط المسيحي والمتوسّط الإسلامي، كما أنّها تربط بين بحرين: البحر المتوسّط مركز العالم القديم، والمحيط الأطلسيّ بوابة العالم الجديد.

خلال القرن الثامن الميلادي عبر العرب والبربر، وهم مجموعةٌ من شعوب شمالي أفريقيا، مضيق جبل طارق وبدأوا في غزو شبه الجزيرة الإيبيرية، وبقي وجود هؤلاء في البلاد لما يقارب الثمانية قرون واستقرّوا بشكلٍ رئيسي في مناطق معيّنةٍ اعتماداً على المناخ وظروف التربة والسكان الموجودين مسبقاً وكذلك الاختلافات العرقية أو القبليّة. ومن هنا أصبح التباين بين شمال البرتغال وجنوبها أكثر وضوحاً، فالعرب لم يصلوا إلى أقصى شمال البلاد التي خضعت للحكم المسيحي، ولم يكن التأثير على سكان شبه الجزيرة هو نفسه في كافة المناطق، ففي البرتغال تجلّى التأثير العربي في إِستريمادورا وبيرا ليتورال، وبشكلٍ خاص في المناطق الجنوبيّة خاصّةً في ألغارفي (الغرب). يمكن تفسير هذا الوضع من خلال التجارة والحرف المزدهرة التي ميزت جنوب شبه الجزيرة الإيبيرية بأكملها.

“الأندلس” هو الاسم الذي أطلقه المسلمون على شبه الجزيرة في بداية القرن الثامن، هذه الأندلس كانت إمارة بادئ الأمر قبل أن تصبح خلافة، ويتوافق الجزء الغربي منها مع جزء من الأراضي البرتغاليّة الحديثة وتقريباً نحو حدود لوسيتانيا القديمة. وبحلول القرن التاسع ازدهرت المنطقة وتوسّعت وضمّت العديد من المدن الكبرى: كويمبرا (قلنبرية)، ليسباوا (لشبونة أو أشبونة)، سانتاريم (شنتمرية)، سيلفِش (شِلب)، مِرتولا (مَارتُلَة)، فارو، مِريدا (ماردة) وباداخوس (بطليوس).

إنّ مصطلح “غرب الأندلس” هو في الأصل الاسم الإسلامي للمنطقة بأكملها إلى الغرب والشمال الغربي من نهر غواديانا (نهر يانة كما عرفه العرب)، وهو ما يقابل تقريباً مقاطعة لوسيتانيا الرومانيّة والقوطيّة الغربية. وعلى الرغم من مقاومة المسيحيين لوجودهم، لكن الحقيقة هي أنّ المسلمين أظهروا دائماً تسامحاً كبيراً تجاه مختلف الشعوب الموجودة على شبه الجزيرة الإيبيرية.

اليوم، وبعد عدّة دراسات، من المعروف أنّ الإرث الإسلاميّ في المنطقة التي تسمّى اليوم بالبرتغال، على الرغم من صغر حجمه مقارنةً بإسبانيا، إلا أنّه هائل، فالتأثير الثقافي للعرب يظهر بشكلٍ رئيسي في تكوين المستعربين، وفي ديمومة المدجّنين وفي الاتصالات مع المراكز الكبرى للثقافة العربية. يتجلى التأثير العربي في التغييرات في اللغة، الملابس، الطعام، تقنيات العمل، العادات الشخصية، فعلى سبيل المثال تعتبر العديد من الآلات الموسيقية المستخدمة اليوم في البرتغال، كالكمان والغيتار والعود، مشتقّة مباشرةً من الآلات العربية، ويعتقد بعض العلماء أن التأثير العربي موجود في موسيقى الفادو، وهو أسلوب موسيقي برتغالي نموذجي يغنى عادةً من قبل شخصٍ يرافقه الغيتار الكلاسيكي والغيتار البرتغالي، وهذه الموسيقى مدرجةٌ في قائمةِ التراث الشفهي وغير المادي للبشرية من قبل اليونسكو.

نشر العرب المعارف الرياضيّة والفلسفيّة والعلميّة وأضافوا إليها مفاهيم جديدةٍ في الجبر والطبّ وعلم الفلك والحساب، لنأخذ على سبيل المثال نظام الترقيم العربي الذي يسمّى بالأرقام العربية. كما تشكّلت مجموعة كبيرةٌ من العلوم الفلكيّة والرياضيّة التي جاءت ثمرة جهودِ سنواتٍ طويلةٍ من الدراسات الإسلاميّة والمسيحيّة واليهوديّة، ويعتبرُ المسلمون مبتكرين لمصطلحاتٍ واسعةٍ ومعقّدةٍ غطّت كافة فروع العلم.

كان لوصول العرب إلى شبه الجزيرة الإيبيرية ومكوثهم فيها لقرونٍ تأثيراً قويّاً على الشعب البرتغالي وثقافته ولغته، فقد تركوا أثراً لا يمحى على الأراضي البرتغاليّة. يمكن اعتبار تلك المرحلة لقاءاً بين ديانتين، ومحاولة للتسامح الديني والتعايش بين المسلمين والمسيحيين.

من الصعب تحديد الرقم الدقيق لعدد الكلمات العربية في اللغة البرتغاليّة المعاصرة، غير أنّ البعض يعتقد أنّ عددها يناهز الـ20000 كلمة. لعب العرب دوراً مهمّاً في التاريخ والحضارة البرتغاليّين، وكثيرٌ من الناس اليوم لا يدركون الميراث العظيم الذي تركوه، والاختراعات التي قدّموها والاكتشافات الأساسيّة التي قاموا بها.

ينتمي فصلٌ كبيرٌ من التاريخ البرتغالي إلى الديانة الإسلامية والشعوب العربية، ودونه لم تكنِ البرتغال على ما هي عليه اليوم.

 

عالمية البرتغال

الجديد: كان للبرتغاليين رحلات كشوفٍ جغرافيّةٍ خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حيث اكتشفوا رأس الرجاء الصالح وقاموا بعدّة رحلاتٍ بحريّة إلى أميركا وأفريقيا والمحيط الهندي وذلك بغية أعمالٍ تجاريّةٍ وعسكريّة. هل ثمة آثارٌ من الثقافة البرتغاليّة تجدها في الثقافات العالمية اليوم؟ حدّثنا عن ذلك.

روي كويّاس: سؤالٌ مهمٌّ للغاية وأودّ ربطه بالإجابة السابقة. إنّ التأثير العربي كان محسوساً في مجال الملاحة أيضاً، لنأخذ على سبيل المثال السفينة كارافيلا التي انطلق بها البرتغاليون لاكتشاف العالم في القرنين الـ15 والـ16، أي عصر الكشوف الجغرافية، والتي تشبه القارب الذي استخدمه العرب في المحيط الهندي. كما جرى تبادلُ المعرفة الجغرافية بين العلماء والبحّارة والتجّار، ونُقِلت الكثيرُ من هذه المعلومات من قبل العالم الإسلامي، والجدير بالحديث عنه هو أنّ الجغرافيين العرب ذكروا الساحل الغربي لأفريقيا حتى رأس الرجاء الصالح.

خلال القرنين الـ15 والـ16 اعتُبِرت البرتغال واحدةً من أعظم الدول في العالم وأقواها وأكثرها ثراءً، إلى جانب إسبانيا. في الواقع، لجأت المملكتان لتقسيم العالم إلى قسمين من خلال معاهدة توردِسيلاس، التي تم توقيعها في مستوطنة توردِسيلاس القشتالية في الـ7 من يونيو من عام 1494 بين مملكة البرتغال وتاج قشتالة، ونصت على تقسيم الأراضي “المكتشفة وغير المكتشفة” خارج أوروبا بين التاجين.

بموجب هذه المعاهدة قسّم القشتاليون والبرتغاليون العالم الجديد في أفريقيا من خلال خط الطول 370 فرسخًا غرب أرخبيل الرأس الأخضر، وبات الجزء الشرقي تابعاً البرتغال، بينما تبع الجزء الغربي إسبانيا.

يعدّ الملاح البرتغالي فرديناند ماجلّان المخطّط والقائد لأول رحلة إبحارٍ حول العالم في القرن السادس عشر، فهو أوّل من وصل إلى تييرا دي فويغو (أرض النار) في الطرف الجنوبيّ للقارة الأميركيّة، وعبر المضيق الذي يحملُ اسمه ومن بعدها عبر المحيط الهادئ.

كما أنّ اكتشاف الطريق البحري إلى الهند هو أيضًا أول رحلة أوروبية إلى الهند عبر المحيط الأطلسي، تمت تحت قيادة الملاح البرتغالي فاسكو دي غاما بين عامي 1497 – 1498، وهذه الرحلة واحدة من أبرز الرحلات في عصر الكشوف، والتي عززت الوجود البحري وهيمنة البرتغاليين على الطرق التجارية.

إنّ تأثير البرتغال في العالم هائلٌ وغنيٌ جدًا ولا يقاس، أفكّر في البرازيل، كل إفريقيا، الهند، غوا، الشرق، المحيط الهادئ، الفلبين، جزر مالوكو، أستراليا، الصين، ماكاو، اليابان، وأرى كم أنّ هذا مؤثّر.

أعود إلى القصّة التي ذكرتها في إجابةٍ سابقة، وذلك عندما كنت في مقاطعة غوا الهنديّة التي ظلّت مستعمرّة برتغاليّة لقرونٍ عديدةٍ حتى عام 1961 وسمعت فيها لغةً برتغاليّة صحيحةً وبلّوريّة. إنّ المباني الهندسيّة في غوا ذات أساسٍ برتغالي، والأحياء قرى أصيلةً في البرتغال كحي فونتاينياس، وكان للبرتغاليين أنفسهم حضورٌ قويّ في هذه المقاطعة حيث استقرّ اليسوعيون في مدينة غوا القديمة، وهي عبارةٌ عن مجموعةٍ من البازيليكا والكنائس في وسط الغابة ومن أجمل الأماكن التي عرفتها. يوجد متحف للصور واللوحات العائدة لجميعِ حكامِ الهند البرتغاليين، وآخرهم كان مانويل أنطونيو فاسالو إي سيلفا الذي حكم المقاطعة بين عامي 1958 و1961. وفي مدينة غوا القديمة، كان ساو فرانسيسكو شافييه مبشرًا كاثوليكيًا ورائدًا ومؤسسًا لجمعية اليسوعيين، وقد زرت قبره.

من الممكن العثور على آثارٍ للثقافة واللغة والأدب والعمارة البرتغالية في جميع أنحاء العالم لأنّ البرتغاليين ببساطةٍ جابوا جميع أنحاء العالم، فالمبشرون البرتغاليون اليسوعيون وصلوا إلى اليابان خلال القرن السابع عشر، وحتى اليوم يوجد مبشرون يسوعيون في كافة أنحاء العالم في أفريقيا والهند. درست في مدرسةٍ يسوعيةٍ في لشبونة، وأعلم وزنَ وإرث تاريخ فاليوسيسيما، هذا التراث البرتغالي في العالم.

واليوم تعتبر اللغة البرتغالية تراثًا مشتركًا وعالميًا، وهي واحدة من أكثر الكنوزِ غير الماديّة للبشرية وللبرتغال، وعندما أسافر إلى أقطارٍ معيّنةٍ من هذا العالم أقابل أشخاصًا يسعدهم معرفتي لأنني برتغالي. كما أنّ لشبونة، المدينة التي أعيش فيها، مدينة جميلة ذاتَ حزنٍ مفعمٍ بالحيويّة، وينظرُ إليها على أنّها صورةٌ للروح البرتغالية العميقة، وأراها مدينةً وعاصمةً للعالم.

 

قلبي عربي

الجديد: كانت لك مساهمة في الترجمة بحيث ترجمت للعديد من الشعراء إلى البرتغاليّة، وكذلك كتبت عدّة مقالاتٍ في العديد من الصحف في البرتغال. من هم الشعراء العرب الذين تجري العناية بشعرهم اليوم في البرتغال؟

روي كويّاس: في قاموس عروبة اللغة البرتغاليّة (dicionário de arabismos da língua portuguesa) المنشور عام 2013، جرى تدوين نحو 20 ألف كلمةٍ برتغاليّةٍ من أصلٍ عربي دخلت اللغة البرتغاليّة. عندما حدث الغزو المسيحيّ كان على العرب، بسبب دينهم، أن يبدأوا بحفظ القرآن منذ صغرهم، ومن هنا جاءت الفجوة الكبيرة: ففيما كانت الجموع المسيحيّة أميّة بالكامل في ذلك الوقت، كانت الحضارة العربيّة في المقابل خلال أوج عهودها، ولدى العرب أودِعت المعرفة الزراعيّة، وأسماء النباتات والنجوم، ومفاهيم الرياضيّات والفلسفة، وكذلك مفاهيم ذات أصلٍ لاتيني لا مثيل لها.

ترتبط البرتغال ارتباطاً وثيقاً بالثقافة والفنّ واللغة العربيّة، ولطالما كان هناك تعاونٌ هائلٌ بين البرتغال والدول العربيّة، وهناك معهدٌ في البرتغال اسمه المعهد البرتغالي العربي للتعاون، وأنا عضوٌ به.

كما ذكرت أعلاه، كان الشعر العربي حاضرًا في البرتغال على الدوام، وفي قلب البرتغال تتجذر الثقافة العربية خاصة في الجنوب، كما هي متجذرة بشدّةٍ في جنوب إسبانيا بفعل الحقبة الأندلسيّة.

من جنوب الأراضي التي تحتلها البرتغال اليوم يتشكّل غرب الأندلس، والذي شكّل ذات يومٍ أربع ممالك من ملوك الطوائف: مملكة بطليوس في الشمال وهي المملكة الأكبر بين الأربع وتمتدّ على نحو 80 % من الأراضي المذكورة، وثلاث ممالك صغيرةٍ مملكة شِلب، مملكة شنتمرية الغرب ومملكة مَارتُلَة. وخلال تلك الفترة ازدهرت الثقافة العربية الإسبانية خاصة من حيث الشعر، في الحالة الخاصة بجنوب البرتغال يشار إلى هذا الشعر الآن باسم الشعر العربي الوسيط، وهناك العديد من المؤلفين الذين تركوا أعمالاً مكتوبة، وقد اشتهر اثنان من هؤلاء الشعراء على أنهما الأكثر تمثيلاً لهذه الثقافة، وهما المعتمد بن عبّاد وأبوبكر محمد بن عمار، ولا يزالان يُقرآن على نطاقٍ واسعٍ في البرتغال اليوم.

ثمّة فكرةٌ سائدةٌ في البرتغال منذ وقتٍ طويل، وهي أنّ الشعر العربي يشبه صدى الحدائق بمياهها الجارية، شيءٌ من الصمت، شيءٌ من التأمل وقطعة من الجمال في حالته النقيّة. عام 1987 نُشِر في البرتغال كتاب مهمّ عن انتشار الشعر العربي في البلاد عنوانه “قلبي عربي” (O Meu Coração é Árabe)، من إعداد وتحرير جوزيه أدالبِرتو ألفِس، والكتاب يضمّ مختاراتٌ لشعراء عرب من بلاد الأندلس خلال العصر الإسلاميّ الوسيط، ويعتبر الكتاب شديد الأهميّة في نشر الشعر العربي في البرتغال.

من خلال هذه الأنطولوجيا تعرّفت على شعراء من القرن الحادي عشر الميلادي كالمعتمد، والذي يعدّ من أعظم شعراء عصره ولا زالت أبياته محفورةٌ في الذاكرة حتّى اليوم. كما أنّ مدناً مثل باجة، شلب وإشبيلية قد كوّنت باتحادها واحدةً من أروع الممالك الإسلاميّة في شبه الجزيرة الإيبيرية على الإطلاق، وهي مملكة بني عبّاد التي كان المعتمد آخر ملوكها، وهو الذي بدوره كان عربياً من جهة الأب وبربريّاً من جهة الأم، وكان محبّاً وراعياً للآداب والفنون وموصوفٌ بشدّة كرمه ورغبته بمساعدة الشعراء الآخرين. لم يكن ملكاً كتب الشعر، بل شاعراً شاءت الصدف أن يكون ملكاً.

هناكَ شعراء عرب آخرون يقرؤون على نطاقٍ واسعٍ ويحظون بإعجابٍ كبيرٍ في البرتغال وذوو ميولٍ أكثر حداثة، أمثال محمود درويش الذي يعكسُ عنصراً أدبيّاً واجتماعياً وسياسيّاً أكثر حداثةً حتى في سيرته الذاتيّة، وكذلك نجوان درويش الذي يعتبر أبرز الشعراء الناطقين بالعربيّة في جيله. ويتأثّر شعر نجوان بالتقاليد العربيّة والغربيّة، أكانت كلاسيكيّة أم حداثيّة، وكذلك بالتصوّف في الشعر، وأعماله اليوم مترجمةٌ إلى 15 لغةٍ ومنتشرة على نطاقٍ واسعٍ في العالم ككل.

وينبغي بطبيعة الحال أن أذكر أدونيس، الشاعر السوري المولود في بلدة قصابين عام 1930 والذي غادر سوريا في عامه السادس والعشرين ليعيش في بيروت. ربما تظل بيروت ذلك المكان الشرق أوسطي حيث تتقاطع هذه الموروثات الشرقيّة والغربية. بالنسبة إلى أدونيس وغيره من الشعراء العرب، فإن القصيدة، الصوت والإيقاع هما جزءٌ من المعنى الضمني والمطلوب، في شعر أدونيس. أخيرا لا بد أن أقول إن الشعر العربي مثل الصلاة، شيءٌ لا ينسى.

 

الترجمة ابتكار

● الجديد: عرفت أعمالك الشعريّة انتشاراً عالمياً من خلال ترجمتها لعدّة لغاتٍ أبرزها الفرنسيّة والإسبانيّة والهولنديّة وغيرها. برأيك الشخصي، ما الذي يدفعُ القصيدة لتزحفَ إلى أماكن أخرى عابرةً بيئتها، وما هي معايير نجاح هذا الزّحف؟

روي كويّاس: قبل كلّ شيءٍ أودّ التعبير عن عميق امتناني وإعجابي بعمل كلّ من شارك في الترويج والدفاع عن الأدب والفن وعالم الثقافات المتعدّدة من خلال الترجمة. بالنسبة إليّ إنّه لشرفٌ عظيمٌ، وسعادةٌ كبيرةٌ، بأن تترجم أعمالي إلى لغاتٍ وثقافاتٍ أخرى رائعة.

إنّنا لقاطعون للشكّ بأنّه ما من طريقةٍ أفضل من الأدب لتوحيد الناس وتبادل الأفكار وكسر الحواجز وبناءِ عالمٍ أفضل، فنحنُ جميعاً، شعراء وأدباء، نشعرُ بذلكَ أكثر عندما تتاحُ لنا هذه الفرصة الرائعة لبناء شبكاتٍ إبداعية واتصالاتٍ جديدة.

تحدّثتُ قليلاً عن هذا الموضوع في سؤالٍ سابقٍ من هذه المقابلة، وذلك حول الأهميّة الأساسيّة للمترجمين والترجمة، وذلك لأنّهم يستحقّون كلّ شيء. إنّ المترجمين هم المركبات الأساسيّة لنقل الثقافة عبر العالم، هم قطرة ماءٍ أثيرت فوق بحار اليابسة ويُجوّلون الثقافة في جميع أنحاء العالم. ومن خلال العمل الرائع للمترجمين يمكننا فهمُ الطبيعة البشرية بشكل أفضل.

كنت شديد الحظوة بمترجمي عملي، فأنا أثق بهم تماماً وذلك لضرورة وثوق المؤلّف بمترجميه، وقد تشرّفت بمعرفتي لمترجمين رائعين للغات الفرنسيّة، الإسبانية، الإنكليزيّة، الهولنديّة.. إلخ.

هناكَ لغاتٌ تترجمُ إليها أعمالنا ومن غير الممكن الوصول إليها إلا عن طريق الصوت، فبعض نصوصي ترجمت إلى الألبانيّة والصربيّة والكرواتيّة وغيرها، ولم أفهم من تلك النصوص سوى صوتها. إنّ صوت الشعر مهمٌّ جداً وكذلك الاستماع إليه، فلنأخذ على سبيل المثال الاستماع إلى صوت الشعر الذي يُقرأ باللغة العربيّة والذي يعتبر تجربةً عميقةً ومنوّمة، أشبه بمشاهدة ارتفاع موجة الصحراء وتموج في السماء الزرقاء عبر ينابيع المياه المتدفقة.

في بعض الأحيان لا يمكننا معرفة ما إذا كانت القصيدة مترجمةً بصورةٍ جيّدةٍ أم سيّئة، لكنّ فعل الترجمة هو في حدّ ذاته عملٌ من أعمال الابتكار، وذلك لاهتمامها بالبنية اللفظيّة والإيقاع، وبشكلٍ أخص مغزى النص والروح الثقافية للمؤلف، وهذا من أجل خلقِ روحٍ ومرآةٍ له في لغةٍ أخرى. في الأساس، يشكّل كلّ شيءٍ مركبًا من اللغات البشرية، طبقاتٌ فوق طبقاتٍ من الفهم والفكر والفن والجمال.

بحال تمّت ترجمة نصّ لي إلى لغةٍ أخرى وأحس الناس بي وجاءوا ليشكروني سأكون ببالغ السعادة، فهي علامةٌ على فهم الترجمة والنص الأصلي والذي يعدّ غاية السعادة.

وفي النهاية نملك جميعنا كبشرٍ نفس الماضي، نفس الوجهة، نفس مفاهيم الانتماء والهويّة، وكذلك مفاهيم الحدود والطريق والسفر الذي يعتبر الفنّ بالنسبة إليه نوعاً نختار من أجله السفر كمنفس، كوجهةٍ ليست متوخّاةٌ للبحث عن معنى أو مجتمعٍ يعرف كيفيّة تأكيد اتّجاهه الأخلاقي، ولكن أيضًا طريقٌ نتعلّمُ من خلاله الحب والدمار والحقيقة والجمال، ونصف شبكةً من الأحداث التي تتشابك وتنقسم بين كلّ شيءٍ على أنّها شيءٌ منسيٌّ وتُرِك وراءه ومع ذلك يقع أمامنا، ولنصف ذاكرتنا بجانب سلسلةٍ من العلامات التاريخية، مرآة الزمن التي تذكرنا أنّنا في المشهد الطبيعيّ شهودٌ على الماضي، شهود على إخفاقات العالم، لكننا أيضًا شهودٌ على الجمال والأمل الذي يتخلّل مسألةَ الحياةِ والموت، وأن كلّ شيءٍ في النهاية، في البداية والنهاية، مرتبطٌ بشكلٍ أساسيٍّ بالوقت المناسب، بالفكر، بذاكرة الأماكن التي نعبرها.

 

التجربة الكليّة

الجديد: في رأيك، أي مكسَب ستحققه الترجمة البرتغاليّة -العربيّة للشّعر في المُستوى “البوليفونيّ” المتعدّد لمعنى الشّعر اليوم، وقد صارَ التعاطي والتعامل معه هامشيًا إذا ما قورن بالرواية؟

روي كويّاس: أعتقد أنّ كلّاً من الشعر العربي والبرتغالي لهما خاصيّة تقديم نفسيهما على أنّهما مجموعة تناغمات، وذلك بسبب ثراء القوام والتأثير المهيب للمجموعات والبوليفونيّة الواضحة والليّنة. وبهذا المعنى يعتبر الشعر العربيّ غنائيّاً، وأسلوبه التأليفي نسيجٌ يخلقُ نسيجاً صوتيّاً يتطوّر فيه صوتان أو أكثر مع الحفاظ على الطابع اللحنيّ والإيقاعي، على عكس المونوفونيّة حيث يوجدُ صوتٌ واحدٌ فقط. الشعر العربيّ أشبه بأغنية، بصلاة.

أظنّ اليوم أنّه على هذا المستوى تكتسبُ ترجمة الشعر البرتغالي إلى اللغة العربيّة جوقةً بوليفونيّة مهمّة وغريبةٌ للغاية ربما يصبح تأمل الشعر البرتغالي صوتًا حزينًا ومؤثرًا في اللغة العربية، مكوّنًا سيمفونية أو أغنية إيقاعية ينكشف فيها الصوت والإحساس في طبقاتٍ متراكمة. هذا الإحساس يجمعه اللغات والثقافات التي كانت بالفعل شديدة التقارب عبر التاريخ.

مع شديد الأسف، فإنّ الشعر اليوم مهمّشٌ كما ذكرتَ في سؤالك، وفي الواقع استسلم لإمبراطوريّة وقاعدة الرواية.

هذا يذكرني بالمعارضة التي كانت موجودة دائمًا والتي تم التنظير لها بشكل كبير خلال الفترة الرومانسية الألمانية إبّان القرن الثامن عشر، تحديداً في دائرة جينا، بين شاعريّة القلب ونثريّة العالم. لا يوجد تناقض بين الشعر والفلسفة بإمكانه أن يشير إلى ثنائيّةٍ بسيطة، غير أنّ الفلسفة، كما أشار نوفاليس، تعمل في مراقبة الطبيعة عن كثبٍ وتبني خطابًا ومعرفة، ومن ناحية أخرى فإنّ الشعر يعمل عن بعد، أي أنّه يبني خطابه على مستوى المشاعر. الفلسفة عندما تعمل عن بعد تصبحُ شعراً.

يطمحُ الشعر إلى التجربة الكاملة للواقع، فهو يشملُ الحياة كلّها من خلال اللقاء مع جميع جوانب الطبيعة والتاريخ والمجتمع، وبدورها تواجه الرواية الفرد الذي يجب عليه تشكيل شخصيّته عن طريق إدخال نفسه في نثر عالم الاحتياجات الاجتماعيّة ونفعيّة الواقع. إنّ النثريّة منذ القرن الثامن عشر أصبحت أكثر برجوازيّة، فيما استمرّت الشعريّة بتركيز كلّ شيءٍ على شاعريّة القلب في محاولةٍ لاكتشاف العلاقات بين الفنّ والحياة بعمق. ربما تكون ترجمة الشعر من البرتغالية إلى العربية جزءًا من بحثٍ عميقٍ في شاعريّة القلب، فاللغتين لديهما فهمٌ كبيرٌ للواقع، وفهمٌ شبه تلقائيّ (قوي جدًا في الشعر العربي). الشعريّة، بشكلٍ أكبر في الرومانسية، ينقلُ الصفات الإنسانية الأساسية واحترام مواجهات الحياة والمشاعر والأفكار.

 

ظلّ عربي

روي كويّاس

الجديد: ها هي قصائدك اليوم تترجمُ لأوّل مرّةٍ إلى اللغة العربيّة. ما الذي تحبّ أن تقوله لقارئ هذه اللغة؟

روي كويّاس: عليّ بدايةً أن أشكرك، فهذا الإنجاز في الواقع هو أحدُ أجمل الإنجازات بالنسبة إليّ. إنّني ممتن إلى الأبد وأشعرُ بفرحٍ عارم. أن أكون قابلاً للترجمة إلى اللغة العربية فذلك شرفٌ عظيمٌ لي ومسؤوليةٌ كبيرةٌ وسعادةٌ عظيمة. أشعر بكل هذا وكأنّ صوتًا من شوارع لشبونة يخترق السماء الزرقاء والشفافة للعالم العربي.

تتميّز حياتنا بالأماكن التي نمرّ بها، وربّما يكون الموت هو الخطّ الذي يمرّ عبر كلّ شيءٍ وبدورها كلّ الأشياء مرتبطة به. وكما هو الحال الآن، يجري تمييز يومٍ معيّن في الماضي من خلال منحنى في النهر وقطار يصف هذا المنحنى، لكنّه يحسّ بأنّه أجمل الأماكن والحدود بالتوازي مع نهر تاجة في لشبونة، ولاحقاً بعد سنواتٍ سيعثر عليه في متحف، في لوحة، في ركنٍ هادئٍ من مدينة بروكسل، وأيضاً في صحراء دبي، أو دائماً في ترنيمة مؤذّنٍ في الشرق الأوسط أو حيدر أباد أو الهند. هذه هي الخطوط العريضة للذاكرة بحيث يبدو كلّ شيءٍ متّصلاً.

من النظرة المستمدة من هذه الذاكرة نلتقط البشر والعناصر في مواجهة لا هوادة فيها، ناعمة وعنيفة في آن، وتأتي الأحلام لدعم لقاءَ قصّةٍ تحكي عن إنسانيتنا “وحكمتها الوليدة في الهاوية الأصلية” كما كتبتُ في قصيدةٍ ذات مرّة. تخترق لغة الكتاب أنفاسَ هذه الطريقة من الترانيم وشعلتها المتبعة حتى في أكثر حالات العزلة حميمية، ويكتب الكاتب في أعماق سماعنا وانتباهنا وتطلعاتنا التي نتوقعها إلى الأبد من خلال مخططِ يقظتنا في هذا العالم المذهل.

لعلّ الجمال هو هذه القفزة من لحظة إلى أخرى، من معلم إلى آخر عبر بذرةٍ من النسيان إلى بذرة نسيانٍ أخرى، وصولاً إلى الاختزال المضاعف حتى ذرّة واحدة من الغبار بين هذا الغبار اللامحدود، مما يأخذنا نحو إحساسٍ من الراحةِ التي تنقلها الأشياء الصغيرة فقط لأنّها تكشف لنا عن الجهد المبذول لإدراك أوجه التشابه والاختلاف، أو قياس مسافاتها أو احتساب تأثيرها.

ربّما علينا مواجهة العالم بتواضعٍ كبير، وأن نشكّله كما لو كان ضميراً وحسّاً تاريخيّاً وتأمّليّاً تتخلّل فيه الطبيعة والبشر والوقت، وكذلك الفكر ومدى القرب والبعد في عودتنا الدائمة. أرى أنّني بهذه الترجمة أعود بها إلى العالم العربي، فقد وقعت في حبّ هذا الواقع وأريد أن أعود، وأريد أن أسمع الشعر باللغة العربيّة مرّةً أخرى وكذلك سماع قصائدي تقرأ باللغة العربيّة. إنّ العودة إلى حيث قضينا وقتًا طويلاً من قبل تعني أخذَ مقياسِ الوقت والذي هو، كما نعلم، مادتنا نحن الفنانين والكتاب، الرسامين والشعراء.

بهذه الترجمة لقصائدي إلى اللغة العربية أتمنى بتواضعٍ أن أتمكن من بناء عالمٍ أكثر اتساقًا وحفظًا وتوازنًا من خلال قصائدي، وأن أبدي إعجابي بالثقافة العربية وتاريخها ولغتها. كما آمل أن تظل ثقافاتنا قريبة، وأن نتمكن جميعًا من بناء عالمٍ أفضل في المستقبل لأطفالنا، وأحلم أن أكون قادرًا على الجلوس في الظل العربي والاستماع إلى الشعر والأغاني.

اقرأ أيضا: عندما تحين الساعة تبدو الأرض بطيئة / روي كويّاس: قصائد مختارة

 

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.