ريح أمشير
ثمة مزاج رائق، ونداء لحوح، يتصاعد وينمو، إثر تناول سِنة الأفيون، الممزوجة بالشوكولاتة والمذوبة فوق نار هادئة بأناة وتمهل، إنه التخدر الذي يواجه به زوجته الجديدة، الساعية إليه بشغف، بعدما تناهت إليها أصداء شهرته.
إنها الآن تقوم بصقل بشرة، مهجورة منذ زمن بعيد، عسى أن تدب الحياة فيها مرة أخرى.
عم سيد، الذي أسقط الأفيون معظم أسنانه، كان يحتفظ بطاقة فعالة، لا تتناسب مع مظهره الشبحي، وعوده الناحل، جسد يثري وجوده الفاني بزيجات متعددة، كأنه يثأر لذاته من حياة، يعتقد أنها مهما طالت فهي قصيرة، مستغلًّا شهرته كرأسمال فخري، يواجه به الأنثى كلغز غامض، متفاعلًا معها في التمنع والاستجابة.
المرأة العجوز، تتوقع لقاء ناجزًا، مهرجان سعادة، نشوات غير تقليدية، لقد ضحت بأسرة كبيرة، وتجارة واسعة من أجل هذه اللحظات.
تقلبات أمشير تتبدى بشراسة، عبر صفير الريح، وخبطات الهواء على النوافذ والشرفات، وجنون يسيطر على مطاردات القطط، سعار يصل إلى الذروة.
السيدة ثملة، مفعمة بجذل استثنائي، لقد حان الوقت لتعويض سنوات الترمل التي سبقتها سنوات زواج عجاف بتاجر طاعن في السن، أنجبت خلالها ذرية من محاولات باهتة، مشمولة بالوهن.
مع البدايات الأولى، المسكونة بجس النبض، أخذ مواء قطط يتصاعد قادمًا من كل الجهات، ليصبّ في هذه الغرفة تحديدًا. الأنثى الآملة في وقت طيب، في غمرة ذهولها راحت تنصت باهتمام إلى صراخ محدد، خمنت معه أنه صادر عن قطة صغيرة، تجنح إلى السفاد للمرة الأولى تحت ثقل قط كبير، مدرب جيدًا، فجعلت تستمد النشوة من هذه الأنات المستغيثة، ومن المواء العميق للقط الذي بدا وكأنه يعالج الأمر بروية وتمهل مصحوبين بتهديد مباشر، سعيدة بتلك الخفقات التي تتغلغل في خلاياها المتحفزة.
الرجل، انتبه إلى ما يدور في الخارج ، فمن الصعب تجاهله، فهذه الأصوات تمده بالقلق، وتفسد عليه مهاراته، صار منطفئًا، مفتقرًا إلى الإتقان، معتقلًا في خوفه من هذه الكائنات، غائبًا في قشعريرة وألم، تتساقط معهما نياشين المجد من فوق كتفيه، وهو يهبط إلى قاع ليل خالٍ من الرغبة، عندما انتبهت إليه المرأة شعرت بأنه يحتضر.
ــ ما الذي دهاك؟
وخزته الكلمة، شعر بها كطعنة مؤلمة.
قال مرتبكًا:
ــ لا أدري!
بعد لحظات، سكن الهواء في الخارج، صار بلا صفير، والحيوانات الصغيرة يبدو أنها جنحت إلى الهدوء، ما جعله يشعر بالارتياح قليلا وعدم التوتر، لكن نظراتها المصوبة إليه، كانت تعلن عن الضيق، ونفاد الصبر، إلا أنه، كان يحاول تجاهلها، متحاملًا على نفسه، مفارقًا وعيه الحقيقي، مستردًّا وعيه المخدَّر لاستئناف مهمته.
في هذه المرة، عاد الصراخ، ممهورًا بالرغبة والألم، صار خلفية نادرة، وفّرها الحظ الجيد للمرأة، كانت تُحلِّق معه بعيدًا، تحت سماء دافئة، كأنثى شاعرية، غافلة عن التوتر الذي داهمه، لقد ساوره ما يشبه الغياب، والخمود، أشياء لم تحدث من قبل في مسيرته.
بعد قليل، عندما أدركت ما يحدث، نهضت غاضبة، والتقطت سيجارة من علبته، أشعلتها وهي تحدق إليه.
أقرت بأسى:
– لم أعش يومًا كبقية النساء.
الكلمات تثقب قلبه، تخترقه بقسوة، تسحب منه كبرياءه، وهي ترن في أذنه عبر هذا الصمت العميق، الخالي من المواء الوحشي، الذي يمزق أستار الليل، بدأ يستنزف ذاكرته، يستعيض عالمًا خصبًا، ربما استعاد جاهزيته على نحو أفضل، فتسلل شيء من التوفيق، استعادت المرأة معه سعادتها المفقودة، لكنها تحتاج إلى محفزات، إلى تلك الأصوات، كي تشعل النيران وتنعش جذلها الطارئ، بالفعل، ومع تمنياتها العميقة، انطلقت مظاهرة كبرى، تداخلت أصوات حشد من القطط، متصايحين دفعة واحدة.
بلوعة، انتبه عم سيد بشدة، اعتبر أن ما يحدث مؤامرة كونية، تديرها هذه الحيوانات للقضاء على حلمه في الحصول على ثروة كبرى، قدر عنيد يحاصره، تخيل المرأة تلملم أشياءها، تهرب بها في الصباح الباكر، معلنة على الملأ أن تاريخه ضرب من الوهم والتزييف، كانت الأصوات مزعجة إلى أقصى حد، هبطت به إلى جنون حقيقي وهو ملتصق بفراش موحش وحافل بالعذاب، يصغي في كمد إلى هذه الهذيانات، فانتفض ثائرًا، والتقط هراوة يدخرها للعراك، وفتح باب سكنه بعنف، فرت معه القطط، فيما عدا قط ضخم، ظل ماكثا على الدرج، يعلو قطة صغيرة، قابضًا بأسنانه على مؤخرة عنقها. وهو يسمّرها في الأرض لشل حركتها، مواصلًا العمل على طريقته، لا مباليًا بالرجل، فقط، كان يرمقه بعينين لامعتين، تومضان بشدة، على نحو مخيف، فلم يحتمل هذا العناد، اعتبرها نظرات تحدٍّ لا تغتفر، فهوى فوق ظهر القط بضربة قاصمة، طار معها مختفيًا في الظلام، ليشعر بالراحة ويعود إلى زوجته طالبًا منها التأجيل حتى يسترد أنفاسه، وافقته على مضض وهي تنفخ في الهواء حانقة، يجهدها الأرق وتركض الحسرات في شقوق قلبها، في تقلباتها تلك، شعرت باهتزازات خفيفة، كان السرير يصدر صريرا واضحا، وهى مستغرقة في حزنها الساهي، وجدته يعتصر، يئن صامتا، تتقلب عليه علامات التوجع، والاستغاثة من عدوّ خفي، لم تولِ أهمية لما يحدث تحت بصرها، كانت تعتقد أنها أضغاث أحلام تناوشه وتسخر من شيخوخته، لكنه، راح يتلوى صارخًا. فسيطر الخوف عليها، وجعلها تقوم بإيقاظه. فأفاق على صوتها، وأخذ ينظر حواليه، عندما انتبه إليها سارع بوضع يده أسفل بطنه.
– كدت أموت.
نطق بصعوبة، وعيناه تبحثان في الفراغ عن شيء مجهول. أضاف بعدها، بصوت واهن وهو يتأرجح بين الحياة والموت:
– القط الذي ضربته كاد يقتلني، رأيته في منامي، صخمًا على نحو غير طبيعي. كان يضغط على خصيتيَّ، وينهرني: لماذا تضربني؟ ثم يعاود الضغط حتى كاد يزهق روحي.
ظهرت علامات تهكم، وسخرية مريرة، على وجه المرأة، عكست لديه شعورًا بأنها لم تصدق روايته، ما جعله يعاين لحظات ابتلاء غير قابل للانكماش، فتطلع إليها حانقا، وهو يشعر بأنها نذير شؤم، جاءت لتقضي عليه، وتضع خاتمة لتاريخ حافل بفتوحات كبرى، لا نظير لها.