رُخام
عاندتهم. عدتُ أصرّ على النوم هناك، في غرفتك، أمام سريرك، على الأرض.
“الليلة، سأبيت معك!” قلت لك.
نظروا إليّ مشفقين. مضيت عنهم، وحيدة مع ليل الخريف. فتحت باب غرفتك. خطوت على مربعات الجليز الأليفة العتيقة، بأشكالها الأندلسية التي أنهك ألوانها الزمن. أغلقت الباب المقوس خلفي بعناية. وبرهبة طفل – ما اعتدتها – تقدمت إليك.. أعرف أنك لن تخذليني.
التفت إلى سريرك، في أقصى الغرفة البسيطة المستطيلة. اللحاف السماوي بحاشية الدنتيل البيضاء يغطي الفراش، وينسدل رحيبا حتى الأرض، والوسادة الصوفية العريضة عند تاج السرير، مستسلمة في غلافها السماوي الموشى بالبياض.
ها أنا أستجيب إلى ندائك!
– اشتقت إلي؟
-…
– أنا أيضا!
وها أنا آتيك! أتعثر في حنيني إليك، وندمي، وأدعوك إليّ!
* * *
أخذ صرار يغني والليل يموج بوشوشة الشجر، أمام صمتي وذهولي. التمعت قارورة العطر الصغيرة. رمقتني من فوق خزانتك، ترسل لي قبسا من ضوء النجفة العالية، الرافعة أغصانها النحاسية بصحون الرخام المضيء.
امتدت يداك البيضاوان بحنو، تمسكان قارورة العطر الكروية الأنيقة من يدي، وعيناك العميقتان في وجهك المنشرح، تفيضان بلمعة الامتنان والفرح، وأنت ترددين قولي:
– من دمشق نزار؟ من سوق الحميدية؟
أضفت، بصوت لا يخفي الحنين والأسى:
– هل زرت الجولان، كما كنت تنوين؟ هل وقفت على الحدود؟
وقبل أن يأخذني حماس حديث السفر، ارتفع أذان العصر. نهضت تبسملين، عيناك للسماء، تصلين لرب رحيم.
ما زالت ثمالة العطر الدمشقي في الزجاجة الصغيرة هناك، ترمقني مع ثياب لك منتظرة معلقة خلف الباب، تسر ببعض طيبك.
ستأتين، كما وعدت! وسألقاك هنا!
هو ذا مداسك البيتي المطرز، هديتي لك من السوق الدمشقي، ينتظرك تحت الخزانة. والمصباح الصغير، ما زال كما تركته، على الرف السفلي لمنضدة السرير، حتى لا يؤلم نوره عينيك الكليلتين.
أقترب، أضيئه لك، ليستقبلك من جديد، كما كان. أبسط حشية على الأرض، قربك، حذو النافذة.
الصرار لا يكف عن الغناء الرتيب، والشجر الموشوش للريح عاد يستكين، ولكن المداس الدمشقي الفارغ ظل ينتظر.. ينظر إليّ شاخصا من تحت الخزانة، بعينين كبيرتين، خاويتين، عاتبتين.. مع ذلك، أسلمتني لقراري. سأبيت الليلة معك. لا يرقب خلوتي معك أحد.. فقط، ثيابك المعلقة خلف الباب، مداسك المهيب، زجاجة العطر الدمشقي، حجر التيمم الصغير، زربية السرير القيروانية التي طويت واستكانت إلى الزاوية. وحذوي منضدة السرير، بمصباحها الواطئ، يتجلى فوق رخامتها المذياع الذي تحبين سماع أخباره.
ارتفع نباح كلب بعيد، لوهلة. وغاب صوت صرار الليل وقمر في السماء أغلقت عنه النوافذ، لتظل لخلوتي معك ستائرها. سكينة كاسحة تمتد حوالي، تحيل وحشة الليل إلى أسى شفاف ناعم. تظلين صامتة لا تنبسين. ولكن من عمق الليل، تهب نسمة عطرك إلي. بهدوء تفتحين الباب.
أراك، تخطرين مشفقة، تمرين على ندم الطفلة، التي ما عادت طفلة، المنكمشة على فراش الأرض، بوزر الذنب، مستعيدة ليلتها الأخيرة الرهيبة معك.
أيمكن أن تختار تلك الليلة دون سواها، لتكون معك؟ أن تصر على أن تكون – دون كل الإخوة – رفيقَ وأنيس ساعات الليل الأخيرة، حتى لا ينفرد بك المجهول والعلة المتمكنة، رغم أعراض نزلة البرد الداهمة مع أول المساء؟ أيمكن أن تغفو ساعة معك؟
لم تبال بغير أن تلبي احتياج الجسد الموهن، تحرسه من حمى المرض المقيم.
سقتك ملعقة من دواء كل ساعتين. لامست راحتها جبينك. اطمأنت أخيرا إلى حرارتك وإلى قسمات وجهك ترتاح وأنفاسك تصير رتيبة هادئة، تعلن راحة النوم القادم.
خشيت عليك عدوى نزلة البرد المتربصة بها. أولتك ظهرها. والتفت، بعد انتصاف الليل، في غطاء صوفي أضافته، تقاوم رعشات البرد وإلحاح زكام طارئ لعين.
أنس الجسد واستحلى دفء الفراش، وغفا عنك.
لم تنتبه إلا إلى أنين خافت مكتوم.
دفعت عنها الغطاء وقامت راكضة إليك.. أحانت ساعة دوائك الأكيد؟ أمرت ساعتان على رعشات برد شدها إلى الفراش؟ أسرعت إلى دوائك. هل تأخرت عنك؟
دنت ترفع رأسك قليلا عن الوسادة، تسقيك ملعقة الشراب. فاجأتها سخونة كاوية. مررت يدها على جبينك ووجنتيك. حمى شرسة تستبد بك. أخذت تناديك، فلا يجيب غير الأنين الخافت الضعيف.
فجأة، شاهدت الملحفة التي تغطيك، يلطخ نصفها الأسفل دمك، معلنا نزيف داء الكبد المريض، مذعورة، هبت إلى الهواتف، تطلب أقرب الإخوة. الإسعاف، الطبيب.
عادت إليك، تبرد جبينك بماء الزهر الذي قطرته يداك، ترفع عنك اللحاف المدمى، تحاول تغيير المنامة وسترك بما يليق، ولكن الجسد الموجوع من المحاولات، لم يقدر على الاعتراض بغير تعالي الأنين.
قبل أن يطير بك الفجر معها، رشتك والملحفة البيضاء التي ألقتها عليك، ببعض العطر الدمشقي الذي تحبين.
ما إن هلّ الإخوة والإسعاف، حتى ركضت تسبق الجميع إلى سيارة الإسعاف، لتكون معك وأنت في غيبوبة النزيف تؤخذين. ظلت تمسك يدك المستسلمة الساخنة، تلهج بالدعاء، تمسك الدمع الرقراق في المآقي، بينما سيارة الإسعاف الطائرة يتوالى نعيبها عاليا مسترسلا، فاتحا طريق الفجر الخالي إلى المصحة والمجهول.
* * *
الآن، ها قد عدت إليّ، في غرفتك المظللة بشجر البستان، كما كنت.
ها أنت، تخطرين في تمام البهاء والصحة. تقبلين مشفقة. أقترب منك، أسألك عن حالك. تحمدين الله كعادتك. أخبرك بمشاغلي وأتعابي. أخبار العمل والأطفال والعالم. تنصتين إليّ، تعلقين على الأخبار باهتمام وذكاء نادرين بين مجايليك، فأنت لا تفوّتين نشرات الأخبار، تبحثين في مختلف المحطات عن حصص التحاليل. تسألينني: هل سمعت ما حدث في العراق؟ ما فعل الرئيس الأميركي؟
أعلن ذروة تعبي وأضع رأسي على ركبتيك. “قليلا فقط!” أقول.
تضعين يدك اللينة على رأسي. تتحرك أناملك، ضاغطة بلطف، ممسّدة، مزيلة بعض تعبي. تزيحين غطاء ركبتيك لتغطي به جسدي المكور قربك، وتصمتين.
هكذا رأيتك أمس، بعد أن عاندتهم وقضيت الليل في غرفتك. أنست بك، على غير ما ظنوا. سمعتك تغنين لي بصوتك الدافئ الرخيم، ذاك القصيد الذي تحبين “العصفور السجين”.
ولكنك مضيت عني سريعا.. لعلك مضيت إليهم، أو لعلك تعاقبين غفلة ماضية وقدرا شامتا ما أردناه.
* * *
هذا الصباح، فتحت غرفتك للشمس ووشوشة الشجر الذي زرعت بعضَ أرنجه وبرتقاله يداك. تركت فراشك الذي رتبته لك، لبعض أشعة الخريف. وبكرت إليك، قبل قدومهم لزيارتك.
تسألينني عني، عن آخر الأخبار، فأنت لم تفتحي المذياع كعادتك، من زمان. ولم ينقل لك التلفاز ما فعلوا ماذا أقول لك؟ هل أحدثك عن بلادي، تونس، سنوات بعد ثورة النار، وشرار 2011. هل أحدثك عن بلاد العرب، عن العالم.
تسألينني عن أخبار الأرض، والأقصى، والجولان.
أجهشت يوما بالبكاء وأنت تذكرين حال الأطفال المنتفضين، النازفين في شوارع فلسطين.. فما الذي ستفعلين الآن لو حدثتك بأخبارنا؟
أواه! لننس قليلا، لننس قليلا خسائرنا الباهظة!
متعبة أنا، جد متعبة. لهذا أتيتك، صباح ليلتي معك. مضيت عني سريعا هناك.
وها أنا ذي أعود إليك، هنا، سائلة.. فهل تسمحين؟ الآن، هنا، فقط، أن أضع رأسي في حضنك الرحيب، تنسيني أناملك المتخللة شعري، بعض أوجاع رأسي المدمنة، وتغفرين لي بعض الذنوب؟!
هنا، في سكنك الجديد، على الربوة العالية، في هذا السكون الغامر، قريبا من البحر المهجور، أقترب منك، أولّي ظهري لصخب المدينة، أسدل أجفاني عن الدنيا، لأراك! ونمضي معا، بعيدا، خارج مدار الأرض. لا نبالي برخامة القبر والشاهدة!