رُهابُ الخُبزِ
في تمام الخامسة فجرا نضج الخبز في فرن الرّئيس.
أعلنت جميع الأفران التقليديّة والعصريّة في المدينة إضرابا مفتوحا عن العمل منذ أسبوع. ووجد بعض الخبّازين في أيام الإضراب فرصة للبقاء في منازلهم مع عائلاتهم وقضاء شؤونهم المعطّلة، أمّا أغلبهم ففضّلوا الجلوس في المقاهي وارتياد الحانات ليقضوا أوقاتهم مستمتعين بما يحتسونه. يشربون بنهم ودون حساب، فالحساب مدفوع من أصحاب المخابز منذ أوّل يوم لهذا الإضراب الذي فاجأ النّاس، وأربك نسق حياتهم.
الناس في المدينة يعيشون بالخبز، فهو أساس معاشهم وإدام طعامهم. يأكلونه مع كل شيء يطبخونه، المرق والمعجّنات والسلاطات والمشويّات وغيرها من الأطباق التي يعدّونها في الليل أو في النّهار، لذلك، ومنذ اليوم الثاني لإعلان الإضراب المفاجئ، قرّرت مجموعة من المنظمات والجمعيات الأهلية تنظيم حملات تفسيريّة تهدف إلى ترشيد الاستهلاك، والكفّ عن إلقاء بقايا الخبز في القمامات والمزابل، في محاولة منها لتخفيف الضّغط النّفسي وتعديل الأمزجة المتقلّبة، وامتصاص حالة الهلع التي أصابت جميع الناس في المدينة بسبب الخبز الذي يوشك أن يندثر…
تمّ توزيع مطويّات تفسيريّة تتضمّن أنجع الطرق لاستهلاك أقلّ ما يمكن من كميّات الخبز التي مازالت متوفّرة في المنازل وفي المحلاّت والمطاعم، كما انتصبت خيمات عملاقة في الشّوارع الرئيسيّة لتقوم بالغرض نفسه: توزيع المطويات والتّفسير بشكل مباشر للناس كيفيّة التّعامل مع هذه المرحلة التي لا يعلم أحد متى تنتهي.
كان الناس يتوافدون على الخيمات موتورين، يضربون أياديهم كفّا بكفّ تعبيرا عن سخطهم وغضبهم من هذا الإضراب المفاجئ، ولولا عبارات المواساة والنّصائح التي يتلقّونها من الذين حملوا لواء التّفسير تحت تلك الخيمات أو الذين يجوبون المدينة للغرض نفسه، لأصيب النّاس بالجنون أو مسّهم خبل، أو ربّما أصيبوا بأعراض غريبة قد يسمّونها رُهاب الخبز… كان كل شيء واردا أمام هذا الإضراب المفتوح الذي لا يعلم أحد متى يتمّ تعليقه، كما أن تلك الحملات التفسيريّة لا تقدّم لهم خبزا ليُسكّنوا جوعهم.
ظلّ الوضع في اليومين الأولين تحت السيطرة، فالكمّية المتبقّية من الخبز كانت كافية بشكل ما لتفي بحاجيات النّاس دون أن يتحوّلوا إلى وحوش ضارية قد تتقاتل بالرّصاص من أجل الفوز برغيف خبز إضافيّ، لكن القلق بدأ يتنامى في النّفوس، والهواجس بدأت تنهش أمل الناس في عودة المخابز إلى توفير الخبز بداية من اليوم الثّالث عندما لم يتغيّر شيء في سلوك الخبّازين، خاصة أنّ الحانات أصبحت تفتح أبوابها منذ الصّباح لتستقبل زبائنها من الخبّازين.
أصبح الخبز علكة هواء تلوكها جميع الأفواه، وعجينة قلق تعجنها ألسنتهم في كلّ مكان. تعطّل الخيال وبدأت الأحلام تتحوّل إلى كوابيس مرعبة عنوانها الأبرز “الخبز في خطر”، وتواترت أرغفة الخبز في المنام أملا في زوال هذا الهمّ. ادْلهمّ الأفق وأصبح الانتظار مُضغة شديدة المرارة تزاحم علكة الخبز المفقود التي تلوكها الأفواه الجائعة منذ ثلاثة أيّام، وهي مدّة قد تبدو قصيرة ووجيزة، لكنّ اليوم في هذه المدينة طويل جدا كأنّه شهر أو أكثر، ودقائقه ثقيلة كأنها السّاعات أو أطول، والأيّام متشابهة بإيقاعها الرّتيب والمملّ، ينخرها الحزن والكآبة والفراغ الذي لا قاع له ولا نهاية.
يتساءل الناس في المكاتب والإدارات عن سبب هذا الإضراب المفتوح، وعن مآل المفاوضات أو التّحقيقات التي يمكن أن تنهي هذه الأزمة. يحومون مثل الذّباب أمام أبواب المخابز المغلقة، ويعودون خائبين منكسرين. في الشّوارع تهيم العيون التائهة في كل ركن وزاوية، تبحث عن أرغفة الخبز في المتاجر والمحلاّت، وحتى في أكشاك بيع السّجائر وبعض الصيدليات التي قيل إنّها تبيع الخبز بعد أن حصلت على ترخيص استثنائيّ في ذلك، وتزوّدت بكميات محدودة من الخبز الذي كان متوفّرا نهاية الأسبوع الذي سبق الإضراب.
في المخافر الأمنيّة أصبحت أغلب تقارير المخبرين وتحرّياتهم تتعلّق بشبهات احتكار الخبز في المخابئ السريّة، أو بتواتر الجرائم المتعلّقة بسرقة كسرة خبز، أو بالمعارك والخصومات التي تندلع بين الناس بسبب رغيف خبز أو حتى نصفه، كما وصلت بعض التّقارير الأوليّة عن بيوت جديدة فُتحت للدّعارة وممارسة الجنس مقابل الخبز، أمّا في المساجد فقد شرع الأئمّة والوعّاظ في إعداد خطبة موحّدة لصلاة الجمعة المقبلة موضوعها الرئيسيّ نعمة الخبز وكيفيّة الصبر على هذا الابتلاء الربّانيّ.
داخل المنازل والبيوت، حرصت العائلات على تقسيم ما لديها من خبز لاستهلاك أقلّ ما يمكن منه في أطول مدة زمنيّة، ولم تتردّد عائلات أخرى في استبدال بعض الممتلكات الثّمينة مع الجيران مقابل تمكينهم من أرغفة الخبز التي يحتفظون بها، حتى قبل أن يدخل هذا الإضراب يومه الرّابع، ورغم بداية انتشار معلومات سريّة عن تدخّل القصر لتوفير الخبز في المدينة، إلاّ أن هذه المعلومات لم يصدّقها الناس، ولم يأبهوا بمروّجيها الذين أقسموا بنعمة الله وبكل الرّسل والأنبياء، أنّ القصر صادق فعلا هذه المرّة.
في تمام السّادسة فجرا شُحنت عربات القصر بالخبز.
كانت الحراسة الأمنية مشدّدة على العربات الرابضة في طابور طويل أمام فرن القصر منذ الصّباح الباكر. تكفّل جهاز أمنيّ خاص بالإشراف على عمليّة نقل الخبز من الفرن، وشحن السّلال المملوءة بأرغفة الخبز في الصّناديق الخلفيّة للعربات، ولم يكن هذا الفريق الأمنيّ الخاص، بمنأى عن جهاز سرّي يراقب حركة نقل السّلال عبر الرّواق الطويل المجهّز بكاميراوات عالية الجودة.
كان منظر أرغفة الخبز السّاخن شهيّا، ويبدو شكلها مثل سبائك ذهبيّة مخروطية، بل تبدو سلال الخبز المحمولة على أعناق الفريق الأمني مثل علب الكبريت المزدحمة بأعواد الثّقاب. رائحته تفوح في كامل الرّواق وتبعث نوعا من الحرارة والدفء بين جنباته المزدانة بصور عملاقة يظهر فيها الرّئيس في وضعيات مختلفة: يتأمّل، يلقي التحيّة في الهواء، يضع يده على صدره، يحمل بين ذراعيه رضيعا ناعسا، يجلس إلى نسوة يعجنّ الطين، يقبّل علما، نازلا من طائرة هيليكوبتر، يمضي وثيقة بقلمه، يحتسي فنجان قهوة… وكانت ملامح وجهه في جميع الصور لا تتغيّر ولا تتبدّل. وجه ابتلعته ملامح العبوس والتّجهّم والغضب والتوتّر…
كانت الصّور العملاقة مرتّبة بعناية، ومعلّقة على يمين الرّواق ويساره الواصل بين باب فرن القصر والأبواب الخلفيّة للعربات المحروسة، التي من المنتظر أن تنقل سلال الخبز الطريّ إلى النّاس، مثلما وعد بذلك القصر، وها هو فعلا ينفّذ هذا الوعد، ففي تمام السّادسة فجرا تمّ شحن جميع العربات بسلال الخبز، وهي رابضة في مكانها تنتظر اللحظة المناسبة لتنطلق في الشوارع توزّع الخبز على الناس.
في تمام الثامنة صباحا استفاق الناس على بلاغ رسميّ…
قبل ثلاثة أيام، ومنذ أن أصبحت الحانات والمقاهي تزدحم بالخبّازين، وجد الناس بعض الصّبر والسّلوان في المحطات الإذاعية الكثيرة التي غيّرت برامجها وعدّلتها على ما بات يُعرف برُهاب الخبز في المدينة، حيث انبرى المحلّلون والمعلّقون والخبراء يفسّرون الأسباب العميقة لهذا الإضراب المفاجئ، ويبحثون في مآلاته المحتملة، ويُدينون في الوقت نفسه، فسادَ الخبّازين وأنانيّة أصحاب المخابز، وانتشر الصّحافيون يستقُون المعلومات ويجمعونها من الحانات والمقاهي، وبذل الإعلاميّون جهودا جبّارة في استضافة رموز الخبّازين، أو من يمثّلهم، لتقديم المعلومات المؤكّدة والأسباب الحقيقيّة التي تقف وراء قرار إغلاق المخابز، كما تمت استضافة عدد من رجال الاقتصاد لتحليل الأوضاع الطّارئة، وإطلاق صيحات الفزع، والحثّ على ضرورة الاستنجاد بالمدن المجاورة لاستيراد الخبز وتوفير الكمّيات اللازمة في انتظار أن تمرّ هذه الأزمة… وكان أيضا لعدد من ممثّلي الحملات التفسيريّة نصيب من هذه البرامج الإذاعيّة والتّلفزية… فتعلّقت آذان الناس وآمالهم بكلّ كلمة قد تخفّف عنهم وطأة محنتهم وتدفع عنهم هذا الكابوس المخيف، وتمنحهم بارقة أمل، فيعودون إلى سالف حياتهم، ويستأنفون عاداتهم في أكل الخبز دون هواجس.
وأمام حالة الغموض والضّبابيّة وعدم وضوح الرؤية، وخاصة أمام الارتفاع المفاجئ لعدد محاولات الانتحار وحالات الاكتئاب والإحباط والتشاؤم واليأس والجنون التي تكاد تصبح حالة عامّة، تحوّلت المحطات الإذاعيّة إلى مخابز تُخبز على منابرها التّحاليل والتّفاسير والتّأويلات، وأصبح رغيف الخبز أثمن جائزة تمنحها الإذاعات في المسابقات والألعاب.
تمكنت إحدى المحطات الإذاعيّة، وبشكل حصريّ، من بثّ قصيدة عن المستقبل المخيف والمجهول من دون الخبز، لشاعر موهوب فجّر الإضراب قريحته، فألف كتابا شعريا كاملا في الليلتين السّابقتين بعنوان “أيّها الخبز لا تتركنا يتامى”، وسيكون الكتاب الشعريّ متوفّرا في مكتبات المدينة في غضون أيام قليلة مثلما أعلنت ذلك المذيعة قبل دقائق، وهي تعلّق بحماسة مفرطة قائلة إنّ رغيف الخبز أهمّ من قصيدة الشّعر، لكن الاستماع إلى هذه القصيدة قد يسكّن جوع النّاس قليلا.
كان صوت الشّاعر الموهوب يصدح عاليا من المذياع وهو يردّد بشجن: “أيّها الخبز لا تتركنا يتامى… لا تتركنا يتامى… يتامى… أيّها الخبز… أيّها الخبز…”. فجأة عاد صوت المذيعة المفرطة في الحماسة، لتعلن أن القصر أصدر منذ ثوان قليلة بلاغا رسميّا موجّها إلى عموم الناس، بخصوص ما بات يُعرف برُهاب الخبز. انقطع صوت الموسيقى التي كانت ترافق قراءة الشّاعر قبل قليل. تخلّصت المذيعة من حماستها المفرطة، واستبدلتها بنبرة جادة ورصينة عندما شرعت في قراءة البلاغ الذي أعلنت عنه منذ ثوان، بعد أن لفتت انتباه المستمعين إلى إمكانية متابعة كلمة الرّئيس صورة وصوتا على موقع الإذاعة.
“تُعلن مؤسّسة القصر أن الرّئيس أمر بإعداد الخبز لجميع الناس في الفرن الرئاسيّ، وستنطلق عمليّة التّوزيع عندما تأتي اللحظة المناسبة. إنّ الرئيس يتابع الأمور التي تمر بها المدينة، وهي أمور شديدة الخطورة، ويعلم علم اليقين أن من يقف وراءها هم الذين تتبدّل مواقفهم بتبدّل مصالحهم…”
ينقطع مرة ثانية صوت المذيعة بشكل مفاجئ، مثلما انقطع صوت الشّاعر الموهوب قبله، ليدمدم صوت الرّئيس في نقل مباشر لكلمته التي آثر أن يلقيها من أمام القصر، أين تربض العربات المشحونة خبزا كأنّها صواريخ على منصّاتها تنتظر إشارة الإطلاق.
تدافعت الكلمات الملتهبة والجمل النّارية، كأنّها حمم خارجة من فرن مستعر. كانت يد الرئيس تلوّح بين الفينة والأخرى لطابور العربات التي خلفه مباشرة. يظهر في الصورة أيضا جنود مسلّحون يقفون في أتمّ الأهبة والاستعداد أمام العربات وبجانب أبوابها الخلفية.
استدار الرئيس إلى كاميرا القصر، واستأنف تحريك مجمرة فرنه: “… أعرف من يحرّك المدينة، ومن يفتعل الأزمات. لن أسمح لأيّ كان أن يتطاول على خبز النّاس. أتحدّث على رؤوس الملأ، أمام الله وأمام التاريخ وأمام النّاس. لن أترك المدينة رهينة بيد مجموعة من الخبّازين الذين يُظهرون ما لا يُبطنون. من يتوهّم أنّه سيُسقط المدينة فهو واهم. أوجّه الإنذار تلو الإنذار، والتّحذير تلو التّحذير، المدينة فوق جميع الخبّازين. نعرف تفاصيل التّفاصيل، ولن يجرّنا أحد إلى المستنقع. ليعلم الجميع أن المدينة ليست دمية تحرّكها الخيوط من وراء الستّار. المدينة لجميع النّاس، والخبز لجميع النّاس أيضا، ولا مجال اليوم للحديث عن رُهاب الخبز. لدينا ما يكفي من التّدابير لإفشال هذه المؤامرات. أعاننا الله في هذه المسؤولية الثّقيلة، وسنعمل كما عملنا من قبل، بكل ثقة، ولا نستمدّ هذه الثقة إلاّ من النّاس ومن الله، والتّاريخ شاهد على ذلك…”
واصل الصوت المدمدم ابتلاع حماسة المذيعة، ويتامى الشّاعر الموهوب. في الشوارع والأزقّة ارتفعت أصوات الناس، وملأت المدينة صياحا وهتافا بحياة الرّئيس الذي سيوزّع الخبز. لقد شاهد النّاس في التلفزيون عربات الخبز أمام القصر.
لم تتحرّك السيّارات بعدُ. عمّت حالة من الهرج والمرج في انتظار لحظة توزيع الخبز. بدت كلمة الرئيس المدمدمة مثل شفّاط سحري شفط دفعة واحدة تلك الحالة العامّة من الاكتئاب والإحباط والتشاؤم واليأس التي عمّت النّاس. كأنّهم شبعوا بعد جوع. انفرجت الأفواه واستطالت الألسن، ولاح في العيون استبشار برغد العيش المرتقب، رغم أنّ العربات مازالت رابضة في الطّابور أمام القصر.
في تمام الحادية عشرة صباحا… أصبح الخبز متاحا للجميع…
تمرّ الساعات كأبطإ ما يكون، في انتظار وصول العربات محمّلة بخبز القصر. نار تشبُّ الأفق، لا شيء يبدّد اللهفة المتأجّجة في البطون غير ساعات الترقّب. لكن، أيضا، لا شيء يلوح من بعيد، غير صدى كلمات الرّئيس المدمدمة ترتطم بقهقهات الخبّازين المتوافدين على الحانات والخمّارات، وقد انضم إليهم أصحاب المخابز يشاركونهم بهجتهم الصّباحية ويقرعون الكؤوس معهم بسخاء، كما أن الخبّازين الذين اختاروا الجلوس على كراسي المقاهي لم يتوانوا عن الالتحاق بالحانات والانضمام إلى ضفة الاحتفالات حيث الحساب مفتوح.
تحوّلت المدينة إلى ما يشبه طريقا سريعة ذات اتّجاهين. الجوع يعصف بالبطون، والقهقهات تطوّح بالرؤوس. الخبّازون في اتّجاه، والنّاس في الاتّجاه المعاكس مثل السّهام والرّماح في سماء ملبّدة الغيوم. كلّ اتّجاه ذهاب بلا إياب. لا توجد محطة للالتقاء وتبادل تحيّة عابرة أو حوار خاطف. لا علامات توقّف، ولا مخفّضات سرعة. لا منبّهات تحذير، ولا فرامل تُكبح من هذا الاتجاه أو ذاك. نار تكشط الإسفلت ودخان يُعمي الأبصار عن غبش الطّريق…
بدت السّاعتان الفاصلتان بين البلاغ الرّئاسي وتحرّك العربات، دهرا كاملا من الزّمن، أو هكذا بدا الزّمن عند النّاس الذين قتلهم الجوع، وسحقهم الانتظار المملّ. يمضغون الجوع والانتظار، ويتساءلون عن سلامة ساعة القصر، أتكون معطّلة أم هي متوقّفة؟ هل تدور عقارب ساعة القصر إلى الإمام أم إلى الوراء؟ هل عطّل أحدهم عمدا ساعة الرئيس، أم ألقمها فرن القصر؟
تتزاحم الأسئلة في رؤوس النّاس فيزداد جوعهم ضراوة وانتظارهم مللا.
ومثل رسّام محترف يرسم آخر لطخة على لوحته، اخترقت سيّارات القصر المملوءة خبزا، الاتجاهين لترسم جسرا بينهما. ظهرت السيّارات مثل بهرة ضوء ساطع في الاتّجاه المزدحم بالنّاس، وبدت من اتّجاه الخبّازين وأصحاب المخابز مثل قطعة فحم ضئيلة وشديدة السّواد. تعالت الأصوات في الحانات تطلب المزيد من المشروبات، وتدافعت أيادي يتامى الخبز نحو الأرغفة النّاضجة تتلقّفها وتشرع في التهامها بنهم وشراهة.
في تمام منتصف النّهار انقشع رُهاب الخبز… لكن…
كانت أرغفة الخبز متوفّرة بكثرة. خبز ساخن وطريّ، سهل المضغ والابتلاع، حتى أن أوّل واحد من النّاس لم يأبه للسانه عندما جُرح بما يشبه شفرة حلاقة حادة لم ينتبه إلى وجودها داخل لُباب الرّغيف الطريّ. شفرة حادة قطعت لسانه فكزّ بأسنانه من شدّة الألم وابيضّت شفتاه، ومع ذلك استمرّ في قضم الخبز وابتلاعه في صمت. قضم قضمة ثانية بحذر، لكن الشّفرة الحادّة قطعت ما تبقّى من عضلات اللسان. انحشرت قطع اللسان الممزّقة في حلقه فدفعها بلُباب الخبز لتسقط في بطنه. استمرّ يمضغ الخبز من دون لسان. الناس أيضا من حوله يزدردون الخبز في صمت. يبدو أنّهم ليسوا أفضل حالا منه. شفاههم تبيضّ وتزرقّ وتسودّ مثله، ولا صوت يُسمع غير صوت الأسنان والأضراس تكزّ بعنف ويصطكّ بعضها ببعض.
خرسٌ يعمّ النّاس وهم ينهشون الخبز القادم من فرن الرئيس. تكاد الأحداق تنفجر في محاجرها من شدّة الألم. تغصّ الحلوق بلُباب الخبز، وتفيض المآقي بالدموع، ومع ذلك لا أحد تجرّأ على فتح فمه ليتكلّم أو يخرج لسانه ليلعق ريقه، أو حتى ليصرخ من شدّة الألم. لا أحد تجرّأ، ولا أحد أيضا انتبه إلى أن الزّمن أصبح سريعا ولم يعد ثقيلا. تذبح عقارب الدّقائق عنق السّاعات مثلما تذبح الشّفرات الحادة، المدسوسة في أرغفة الخبز، ألسنة الناس.
لم ينتبه النّاس إلى انقضاء السّاعات بسرعة، من منتصف النّهار إلى الثّامنة مساء، موعد نشرة الأخبار الرئيسيّة. كانت مقدّمة نشرة الأخبار مطبقة الشّفتين، وجهها شاحب. تستميت كي تصطنع ابتسامتها المعهودة. ترتعش شفتاها فتفشل في فتح فمها. لم تتفوّه بكلمة واحدة. استنجدت بأصابع يديها لتعرض الخبر اليتيم في النّشرة المسائيّة، بلغة الإشارات. كان الخبر الوحيد هو الإعلان عن تعليق صورة عملاقة جديدة في رواق القصر يظهر فيها الرئيس ملوّحا برغيف خبز بقسمات وجهه التي لا تتغيّر. ظهرت الصورة العملاقة على كامل الشاشة، وظلّت ثابتة لم تتغيّر، مثل ملامحه التي لا تتغيّر.
انتظر المشاهدون أن تعود مقدّمة الأخبار إلى واجهة الشّاشة لتواصل عرض آخر المستجدّات. أن تقدّم خبرا عن حقيقة الشّفرات الحادة التي قطّعت ألسنة النّاس. من أخفاها في لُباب الخبز؟ هل الرئيس على علم بهذه الجريمة؟ وهل تقف أطراف خارجيّة وراءها؟ لكنّ مقدّمة الأخبار الشاحبة لم تعد إلى واجهة التلفزيون، وظلّت صورة الرئيس ثابتة. تسمّر النّاس أمام التلفزيون، وعندما طال الوقت ولم تتغيّر الصّورة الثّابتة وجد النّاس فرصة للتعبير عن شكرهم وامتنانهم للرئيس الذي انتشلهم من رُهاب الخبز، لكن ألسنتهم المطحونة في بطونهم خذلتهم… ومع ذلك ظلّوا يلوّحون بأياديهم أمام شاشات تلفزاتهم في بيوتهم، ويقبّلون الصورة المنعكسة على البلّور بشفاههم المتقيّحة وعيونهم المنطفئة.
توقّفت عقارب الزّمن على النّاس وهم “يبحلقون” بعيونهم المنطفئة، في الصورة العملاقة للملامح التي لا تتغيّر، تماما مثلما لم تتغيّر قهقهات الخبّازين في الحانات والمقاهي في ما تبقّى من السّاعات.
في تمام الخامسة فجرا نضج الخبز في فرن القصر.
تقدّم رئيس الطبّاخين بلباسه المميّز، ليشرف بنفسه على ترتيب طاولة الرّئيس. فنجان القهوة الإكسبريس من دون سكّر. تشكيلة من الأجبان والمربّى. العسل الذي يحبّه الرئيس. زيت الزيتون والبيض المسلوق. عصير البرتقال. رتّب رئيس الطبّاخين المناديل الورقيّة، والملاعق الفضيّة والكؤوس ومزهرية الزهور فوق الطّاولة التي سيتناول عليها الرئيس فطور الصّباح كالعادة، دون أن ينسى إضمامة الجرائد والصحف.
لم يستغرب الرئيس، وهو يجلس إلى الطاولة، إشرافَ رئيس الطبّاخين بنفسه على تقديم فطور الصّباح. يعرف أنه لا يفعل ذلك إلا عندما يجهّز له طبقا مخصوصا يشتهيه، وغالبا ما يكون ذلك في الغداء أو في العشاء. لم يشغل الرئيس نفسه بالأمر، رغم أنّه لاحظ وجود صحن كبير في قلب الطّاولة. لم تتغيّر سحنة الرئيس عندما رفع رئيس الطبّاخين الغطاء من فوق الصّحن وقال، وهو يقدّمه قليلا أمامه: هذا طبق مخصوص، متكوّن من لسان شاعر موهوب ولسان مذيعة الأخبار، يُفضّل أكله من دون خبز. أرجو أن ينال إعجابك سيدي الرئيس.
كاد شبح ابتسامة يفلت من وجه الرئيس عندما رفع فنجان الإكسبريس. أخذ رشفة أولى من القهوة وأردفها بثانية، ثم أشعل سيجارته. سحب نفَسين عميقين من الدّخان، وقال لرئيس الطبّاخين: أريدك أن تعدّ لي، على فطور الغداء، طبقا شهيّا بلسان كاتب هذه القصّة، وأشار بيده إلى مانشيت “رهاب الخبز” المكتوبة على جميع الصفحات الأولى من جرائد هذا اليوم الاستثنائي.