زلّة خاصرة
لَيْلَتَهَا، كنتُ أستقرئ على جدار الفنجان ثُقْبًا في النّجم وانفصامًا لعُرَى اللّيل بين الضّجّة والصّمت، فقد بات من الجليّ عندي أنّ اللّيلَ معدِّلُ أوْتارِ الكون، لذلك كنت أنظرُ كأنّني أرى ما لا يُرَى وأسمع ما لا يُسمَع. الواقِعُ أنّه بين الحقِّ والحقيقة تاه الوِجْدَانُ في غِمَار الانكشاف والتّستّر.
في تلك اللّيلة كنت مستاءً استياءً لا مُبَرِّرَ له، وكان نومي متقطّعا، كنت أتسلّقُ عُنقَ الوقتِ كقَطْرَةِ ماءٍ تأبى النّزول.
نهضتُ أكثر من مرّةٍ وهببت إلى هُوَّةِ اللّيل السّحيق، كان الصّمت يُخيّـمُ على الكون والكلّ مُبْحِرٌ في عالم لا أحد يعلم تفاصيله سواه، ولم يكن يتناهى إليّ سوى مواء القطط الشّريدة، ونباح كلاب بعيد يتأتّى من جهة الوادي الجافّ الذي تحوّل إلى مصبّ للفضلات تتقاتَلُ فيه الكلاب على بقايَا جِيَفٍ أو مأكولاتٍ نَتِنَةٍ عافَتْها أفواه البشر.
جُلْتُ في أركان البيت أكثر من مرّة أُشْعِلُ فانوسا وأُطفِئُ آخرَ، أتّكِئُ على باب فيقذفني إلى آخر. هممت أن أُعِدَّ قهوةً أو كأس شايٍ لكنّي تراجعت وكنتُ في كلّ مرّة أندفِعُ إلى الفراش وأندسّ تحت الغطاء من جديد محاولا استجلاب إغفاءة نوم لذيذ، فكنت أفلح مرّة وأُخْفِقُ مرّاتٍ، لكن مع اقتراب الفجر انتفخت مقلتاي سهرًا وثقُلَ رأسي وتملّكني تثاؤب عميقٍ سحبني إلى نعاس لا أدري كم طال بي أمره، استفقت منه على جَلَبَةٍ في الحيّ ومنبّهات سيارة إسعاف وسيّارات أمن نعيبُها يملأ الفضاء وتناهت إلى سمعي أصوات مختلطة لم أميّز بعضها من بعض.
قفزت حافيا ووقفت قرب النّافذة. أزحت السّتار بلهفة المُتَطلّع للخَبَرِ اليقين ونظرتُ فإذا أغلب سكّان الحيّ متجمْهِرُون متراصّون وأبصارهم شريدة تائهة كأنّهم في يوم الحشر. بدأ بعضهم يُفسِحُ الطّريقَ لمجموعة من رجال الأمن يتقدّمون نحو شيء لا أدري ما هو في الوسط يتحلّقون حَوْلَهُ، ورأيتُ بعيدًا عنهم حَفَّة – نَفّة واقفا كالصّنمِ وعيناه شاخصتَانِ في الفراغِ المهول، دموعه تنهمر على خدّيه بلا توقّف وقد اختلطت بِمُخَاطِهِ ورِيقِهِ، فأدركت أن المُصَابَ جَلَلٌ.
حَشَوْتُ قَدَميّ في نَعْلَيَّ ولبستُ مِعْطَفِي دون أن أغيِّرَ ملابس النّوم وهرعتُ إلى جموع النّاس.
كان الصّباح لا يزال محتشِما تتلبّس به بقايا صقيع، والشّمس لم تكشف بعد عن وجهها الوضّاء. لفحتني نسائم باردة أعادت إلى ذهني بعض الانتباه. تسلّلتُ بين جموع النّاس دون أن أسأل أحدًا عن شيء، سمعتُ بعضهم يُحَوْقِلُ وبعضهم يُوحِّدُ الله والبعض الآخر يُكَبِّرُهُ.
اِشرَأبَّ عنقي إلى جُثّةٍ هامدةٍ مُغَطَّاةٍ بِلِحَافٍ تسلّلت من تحتِه دماءٌ قتم لونُهَا واُلتَصَقَتْ بالإسمنتِ ممتزِجَةً بالتّراب، ولمّا صِرتُ في المقدِّمةِ كان أعوان الأمن قد بلغوا الجُثَّةَ بعد أن فَسَحُوا لهم المجال للمُرور.
هوى أحدهم على اللّحافِ فنزَعَه فانتشرَتْ شهقاتٌ عالية وزفراتٌ حامية وارتفعت معها همهمات حفّة – نفّة، وشَخَصَ النّاس ينظرون بِنَهَمٍ إلى الجُثَّةِ يلتقِطون أدقّ التّفاصيل الّتي سَيَنْسُجون بها في ما بعد حكايات صغيرة تتناسَلُ من بعضها بعضا، وتتَورَّمُ حتّى تصير كبيرة جِدًّا وعظِيمة عِظَمَ المخيال الشّعبي لسكّان الأحياء.
شرع أحدهم يلتقط للجثّة صُوَرًا من كلّ الزّوايا، وآخر ينهر النّاس ويأمرهم بالتّراجُع، أمّا أنا فجحظت عيناي وابتلعتُ ريقًا عَلْقَمًا، ووقعت على ركبتيّ فَاغِرًا فايَ وقد فرّت الحروف من لساني وجفّت مآقِيَّ وتبدّد ذهني شظايا.
لقد ماتت، أو لعلَّها قُتِلَتْ، رفعت رأسي إلى شرفة شقّتها الصَغيرة المتآكلة، فإذا هي مفتوحة على مِصْرَاعَيْهَا والسّتارُ الشّفاف يراقصه الرّيح فيُؤَرْجِحُهُ جيئة وذهابا بين الخارج والدّاخل تذروه نسائم الصّباح كأنّه كِذَبْةٌ تأبى التّصديق أو إشاعة تفشّت بلا توقّف. أو لعلّ أحزانه هزّته وَجَعًا على صاحبته فانبرى يتأرجح بين الاحتمالات كالمشنوق.
كان شعرها الأسودُ منثورًا خلفها هنا وهناك، عَلِقَتْ خصلة منه بين شِفَاهِها المنفرجة، وكانت يداها ورجْلاها مطلوقَتَيْن كأنّهما قد انفلتَتَا للتّوّ من عقالٍ فانفَرَجَتَا تطلبان الرّاحة. رأسها يتدلّى ناحية اليسار والدّم سائل منه ومن منخرَيْها غَطَّى بُقْعةً كبيرة من الإسفلتِ وقَتَمَ قَتَامَةَ ذلك الصّباح المشؤوم.
استفقت من غيبوبتي على صراخ عون أمن يأمرني بالنّهوض والابتعاد، ويسألني عن صِلَتِي بالمغدور بها.
لم أُجِبْهُ إذ لم تكن الحروف تطيعني لنظم جُمَلٍ ذات معنى. تحاملت على نفسي ونهضت بصعوبة، مشيْتُ خطوات نحوها، ثمّ انحنيْتُ وغمست إصبعي في دمها المسفوح. نظرتُ إليه مليًّا، عَنَّ لي أن أمتَصَّهُ طويلا لأتذوّق طعمه وأحتفظ به، لكنّ إصبعي حَادَت عن الفَمِ ورَسَمَت على خدِّي خطًّا عريضًا، ثمّ غمسته من جديد ورسمت خطّا آخر وآخر وآخر إلى أن تقدّم منّي عون أمن عظيم الجُثّةِ فهوى عليّ واختطفني كالعقاب بين ذراعيْه، جرى بي خطوات ثمّ قذفني بعيدًا كَخِرْقةٍ وانبرى يشتُمني ويَنْعَتُنِي بالجنون.
ارتطمتُ بالإسفلتِ مُمَدَّدًا على بطني، فَجُرِحَ جبيني وذقْنِي، وخُدِشَتْ وَجْنَتَايَ، وسال الدّم من أسناني.
آلمني سقوطي فرفعت رأسي بِوَهَنٍ فإذا بي على بعد خطواتٍ من حَفّة – نفّة. تكوّرتُ على نفسي ردحًا من الزّمن كَقِطٍّ جَائِعٍ، ثمّ زحفتُ إليه ومددت له يَدَي، تردّدَ ثمّ ساعدني على النّهوض فحضَنْتُهُ وَبَكَيْنَا مَعًا عويلاً عاليًا يشقّ جَيْبَ ذَلكَ الصّباحِ المشؤوم حُزْنًا. كان يرتجف بين يديّ ويصْأى ككلب مريض. خُيِّل إليّ وأنا بين يديه أنّي شممت عليه عِطْرَهَا النّادِر الّذي لا أخطئهُ فازددت به التصاقا وزِدْتُ في العويل.
صمتَ مُحَدِّثِي وَقَدْ خَنَقَتْهُ الغُصَّةُ. دَلَفْنَا العِمَارَةَ القدِيمَةَ الصَّدِئَةَ، فأخذ يُجِيلُ بَصَرَهُ في مدارجها بامتعاضٍ وغاصَ في صَمْتِهِ.